حينما فتحت هذا الكتاب شعرت بإن الكاتب د.حكمت شبر يقودني الى أفق ثقافي خارج المالوف، هو يريد من المتلقي ان يسأل ولا يبحث عن الاجوبة القاطعة في هذا الكتاب الذي يصعب تصنيفه بكتب (السير الذاتية) ، هو يريد ان يقول (هل ما نراه اليوم له علاقة بأخطاء الماضي؟) هل يهدف الكتاب الى الاصلاح وتصويب الاراء والمواقف، حينما اهدى لي هذا الكتاب ونقله الصديق احمد عبد الرحيم الساعدي من النجف الى بغداد لنلتقي في مقر اتحاد الادباء، كنت اعتقد بإن هذا الكتاب (رواية) وقال لي احمد الساعدي هو فعلا مثل (الرواية) وأضاف (د. حكمت شبر لا يكتب اي شيئ قبل ان يقرأ الكثير من الروايات)!
يقول د.حكمت شبر في فقرة التمهيد (اخترت هذا العنوان في هذه المحطة من حياتي. وكنت أود أن أسميها الهروب الاخير. لكن ما يقع ويحيطني من أحداث جسام يمر به العراق جعلني أصرف النظر عن تسمية الهروب الاخير فقد أهرب مرة أخرى) هل هي نظرة الياس التي لم يعرفها شبر وهو في شبابه وقد روادته الافكار العبثية (انها عبثية الحياة التي خنقت حبي للحياة في تلك الفترة التعيسة وأنا أدور بين المقابر مرددا قول المعري (هذه قبورنا تملأ الرحب\ فأين القبور من عهد عاد) ..لكني ألتقيت يوما أحد الاصدقاء والذي أنقذني من هذه الافكار السود (هادي الصراف) ذلك الشخص الأعرج والقصير القامة، ولكن شخصيته الساحرة وأبتسامته الجميلة لها وقع كبير في تبديد الكثير من الوساوس التي استحلتني واحالتني إلى ركام) ومنه يكتسب شبر (الوعي الطبقي) والفرق بين الفقير والغني، لم يعد يؤمن بالمساواة امام القانون فقط بل يبحث عن المساواة امام حقائق الحياة وتكافؤ الفرص، ليس كل فقير مسؤول عن فقره او بسبب غبائه وكسله ، اصبحت النظرة الاجتماعية (مصلحة المجتمع) هي من تحقق (مصلحة الفرد) وليس كما يقول الاثرياء (مجموع مصلحة الافراد تحقق مصلحة المجتمع) ، لم يعد يقتنع بميزان (السوق) لتوجيه الانشطة الاقتصادية بل يعول على (التخطيط) هو من يوجه النشاط الاقتصاد الى القطاعات الانتاجية ، لم يقيم اعتبارا للحافز المادي ولا يعيب تدخل الدولة في النشاط الاقتصاي، وصار من انصار (دعم السلع الضرورية) فهل هذه القناعات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية لا زالت تراوده ، !؟ .- يقول شبر عن هادي الصراف- حدثني عن الوطن والجماعة وضرورة الاندماج بآلام الآخرين ومعاناتهم وهم يعيشون في غمرة البؤس، في حين يتمتع القلة من الاثرياء والحاكمين بملذات لحياة ويمسكون مقاليد السلطة فالمتعة والثروة بأيديهم، “لقد عرفت بؤس الجماهير الذي عبر عنه غوركي في رواية (الأم) كان هائلا ومحفزا وقرأت الكثير من تك الكتب الإنسانية عن معاناة البشر، وكتاب الفولاذ سقيناه لأستروفسكي، ذلك الانسان المحطم والمشلول والذي يصر أن يعيش كل يوم لأنهاء كتابه وهو يكافح في سبيل الآخرين، وكوخ العم توم الذي جاء معبرا عن معاناة السود في الولايات المتحدة الأمريكية، وغيره من الكتب التقدمية التي فتحت لي الطريق معبدا نحو تبني فكرة الكفاح مع الجماهير والأبتعاد عن النفس ومطاويها ومراميها وما يعتريها من ضعف وبؤس يخلقه الإنسان لنفسه وهو متقوقع ولا يفكر إلا بذاته وبالموت والحياة “ص8. ويستمر الكاتب في سرد انواع اخرى من الهروب التي تدمر الحياة وهي (الادمان) على الخمرة او المخدرات ويأتي بمثال لأستاذ (علي) الشاب المثقف اللامع والذي حصل على درجة ماجستير في الاقتصاد من جامعة القاهرة، والذي يستطع مقاومة الفشل بالحب واصبح مدمنا على الخمرة والسكر مما ادى الى طرده من منصبه وتحول الى متشرد .
وعن هروبه هو الكاتب عن بغداد والنجف بعد الاحتلال الامريكي للعراق، والصدمة التي اصابته وهو يرى الكثير من الوطنيين وحتى الاحزاب العريقة بالنضال مثل الحزب الشيوعي تقبل بالتعاون مع المحتل!
“أن ما اثارني وحز في نفسي واستفزني مع العراقيين المخلصين، أن نرى زعيم الحزب الشيوعي (حميد مجيد) ينضم إلى مجلس الحكم بقيادة المحتل لقيصر (بريمر) هذا الحزب العظيم الذي، قدم آلاف الشهداء طيلة تأريخه في سبيل قضية الشعب، كيف يقبل بالعمل مع المحتلين .زلق أخطأ قادة الحزب مرات عدة في تعاونهم مع رجال الحكم.”ص43 ويلوم شبر الحزب على تعاونه مع عبد الكريم قاسم عام 1958 ومن ثم تعانوه مع حزب البعث بعد عام 1970 (وها هم بعد الاحتلال يتعانون مع المحتل ..فهل هذه سياسة الحزب النضالية التي اعتمدها طلية وجوده ونضاله الكبير في سبيل رفعة وسعادة الشعب العراقي”
يضم الكتاب الكثير من التحليل والنقد لمواقف القوى السياسية، وهناك قصائد استشهد بها الكاتب في مواقف ومراحل ومحطات تاريخية مختلفة ، ولا يقتصر الكتاب على الاحداث السياسية في العراق بل يتعدى الاهتمام بالوطن العربي ايضا.
ترجمة مشاكل
وهناك ملحق مكرس (لذكرى الشهيد الدكتور صفاء الحافظ) قدم فيها المؤلف ترجمة موضوع (مشاكل رأسمالية الدولة في البلدان النامية) للكاتب “يو- ف روزاليف” وقد اتجه البحث في تحليلات لرأسمالية الدولة في بلدان الشرق اربعة اتجاهات رئيسية حيث وصلوا (الباحثون السوفيت) الى النتائج التالية:
– تبيان جوهر رأسمالية الدولة في البلدان النامية والتناقضات الرئيسية التي أوجدتها.
– تحديد مكان ودور رأسمالية الدولة في التطور الاجتماعي- الاقتصادي للبلدان النامية.
– بحث الأمكانية المحتملة للقطاع العام كأساس اقتصادي في النضال ضد الاستعمار والاستعمار الجديد.
– درس موضوع رأسمالية الدولة وطرق تطور الدول المستقلة في ظروف التحول من الرأسمالية الى الاشتراكية على النظاق العالمي.
– كتاب (محطات تستحق التوقف – الهروب والمواجهة) كتاب شامل فيه تنويع بين السياسة والتحليل العلمي ، وفيه حب الوطن والواقعية الانتقادية للبيئة السياسية في العراق وعند الاحزاب، وفيه ايضا (الشعر) فهو كتاب يستحق القراءة.
*عن جريدة الزمان