الرمز في لم يعد يجدي النظر: حسين عبد اللطيف وتوظيف الأسطورة
نجاح هادي كبة (ملف/28)

لم يعد يجدي النظر ديوان للشاعر حسين عبد اللطيف ، من منشورات الجمل – ألمانيا ، العام 2003 م ، بحدود 152 صفحة من القطع المتوسط والشاعر يوظف رمز الباب بكثافة شعرية كبيرة ، ومما لا شك فيه ان اللغة تنحرف عن المعنى الحقيقي – القاموسي ، وتتخذ بالشعر دلالة آخرى بالانزياح كما يقول جاكسبون ، فاللغة اعتباطية بين الدال والمدلول عند فردينان سوسير ، وهي رمزية عند بيرس ، وقد نبّه الجرجاني في نظريته عن النظم ان اللغة عند تخليقها تتخذ معاني أخرى . والباب عند الشاعر يتخذ رمزاً اسطوريا ومما ساعد الشاعر على أن يتكئ على الرموز الاسطورية ولا سيما رمز الباب في تجربته الشعريه انه مختزل ومكثف ويود التأمل في شعره باسلوب مقطعي ذي ضربة مفاجئة والرمز الاسطوري طاقة شاعرية ترفد الشاعر باليوبيطقيا وتجعل شــــــــــعره يتدفق بدوال ومدلولات سيمائية متنوعة القصد التداولي ، يقول الشاعر في قصيدة (( هكذا أبداً))

في بلدة أمالي

لا توجد

اطلاقاً

شجرة

في الايام

لم أتمكن

من إيجاد الباب

طوع العين: الليل

طوع الليل : الرمل

طوع الرمل : النسيان

ما أرحب هذي الصحراء

ما أكثر ما تبصر هذه العين

ترحلت رؤية الشاعر وتفاعلت مع قصة أنكيدو الذي كان يهيم في البراري مع الحيوانات فاستدرجته البغي بمفاتن جسمها الى المدينة عند مورد الماء وترك حياة البراري فصار واسع الفهم والحس وذاق طعم الحياة وادرك مفهوم التحضر ، فالبغي فتحت له باباً (( مفاتن جسمها)) لترويضه على حياة المدينة ، أما الشاعر فلم يتمكن من إيجاد طريق باب لتحقيق آمالة (( في بلدة آمالي لا توجد مطلقا شجرة)) والشجرة رمز أسطوي للحياة والشباب وهي بحسب ناجح المعموري هي التي انفتحت واحتضنت الإله الشاب القتيل أوزوريس كذلك كان الحال بالأسطورة الخاصة للإله أودونيس (( متخيّل الشعر في الاساطير، الأب يوسف سعيد انموذجاً ، دار تموز ، دمشق ، ص :120)) وأصبح الشاعر لا يواجه الا الظلام “طوع العين : الليل والتصحر ” طوع الليل : الرمل ” ثم يقع في الضياع ” طول الرمل: النسيان ” لقد ذابت رؤية الشاعر بقصة إنكيدو حينما سخر من حياته في البراري ” أصبح واسع الفهم والحس ” وحينما ذاق طعم الحياة في المدينة لكن الشاعر باسلوب المفارقة حقق ضربته المفاجئة ليعلن تصحر حياته في المدينة ” ما أرحب هذي الصحراء” وليتماثل بهذه المفارقة الساخرة مع قصة أنكيدو حين ذاق طعم الحياة في المدينة وتستمر المفارقة لدى الشاعر ساخراً ليقول ((ما أكثر ما تبصر هذي العين)) وليتماثل مع انكيدو ايضا حين أصبح واسع الفهم والحس فالاسطورة تذوب في رؤية الشاعر وتحتاج الى تقشير من خلال رموزها ولعل ذكر الشاعر للشجرة / الرمل / الصحراء / الباب الذي كان في الثقافة الرافدينية بالمركز / باب عشتار / باب قلعة أور… وهي بحسب حكمت الأسود : كان هناك طقس يجري عند بناء البيوت والقصور والمعابد يسمى ( طقس البناء)… وكان رمز أو تمثال آلهة العين التي تطرد الشرور أيضاً يوضع على واجهات البيوت ومن رمز الآلهة سبيتو (المكون من سبع عيون) استمر تقليد وضع حجرة العيون السبع إلى يومنا هذا عند مداخل البيوت منعا للحسد وسبيلاً لطرد الشر… وعملت تماثيل بدائية صغيرة وبدائية الصنع دفنت تحت الباب الخارجي ” عمارة البيت السكني ومحتوياته في حضارة بلاد الرافدين ، ط1 ، دار الزمان ، 2017 م ، ص:47 ، بلا : م . وفي قصيدة (أوقات) تشف القصيدة عن رؤية شاعرية أسطورية فالشاعر قد قسم ديوانه على أربعة عنوانات فرعية الرئيس ” لا حنطة في يدي” وهذا العنوان يحيلنا بالضرورة الى “الإناء النذري” في المعبد الرافديني فالآنية كانت تؤدي وظيفة عملية في المعبد فيما يتعلق بقرابين الأكل والشرب والتطهير وهي لها علاقة بالخصب/ الجفاف ، وتقدم في طقس الزواج المقدس. والشاعر يشعر بخيبة أمل فليس في يده ما يقدمه للمجتمع كما تقدم النذور في المعبد ليحل الخصب يقول:

في ذاكرتي: حيث الاشجار حجارة نوم

وغزالات تنجو من صياد

ما كان له

هذا الجسد – القارب

أن يحملني

لتخوم آجهلها

فذاكرته مليئة بذكريات مرة ويّحمل جسدة الألم الذي إصابة وهو يشبه بالقارب لانه حمل لتخوم هو يجهلها ويبدو ان توظيف الشاعر للقارب هو امتداد لتأمله المثيولوجي الرافديني – الذي نوّهنا عنه أعلاه – فالقارب وسيلة النقل النهرية الحيوية في حضارة وادي الرافدين وهي تتماثل مع السفينة التي ركب بها جلجامش و (( أور – شنابي )) للوصول الى (( أتوبنشتم)) للحصول على الخلود واذا كانت هذه الرحلة الرافدانية قد أثمرت بوصول كلكامش وأور شنابي الى أتونبشتم على الرغم مما شابها من انكسارات فيما بعد إذ سرقت الحية نبات الخلود الذي حصل عليه كلكامش بمشورة اتونبشتم بعد جهد جهيد لكن الشاعر يحمل خيبة أمل من رحلته في الحياة لأن :

شمس يزدان بها جسدي

شمس سوداء

وطيور تعبر في الساعات

….. ستعبرني

واظل هناك مقطوعا

وتتماثل رؤية الشاعر اكثر مع المثيولوجيا الرافدينية فيقول :

دعني اجتز بابك

” إذ تأكل حواء النمل

ويربي أدم اسماكاً مبهورة

دعني اجتز بابك

للزهرة – ضيفي – تفتح ابوابي

فالشاعر هنا يتماثل مع صوت المرأة الرافدينية حينما علا الصوت الذكوري على الانثوي وتراجع دور الأمومة فالشاعريربط موقفه بموقف المرأة الرافدينية التي حجبت في البيت خلف الباب وصارت هامشاً “إذ تاكل حواء النمل” أما الرجل فصار المركز ” ويربي أدم أسماكاً مبهورة ” ويضغط الشاعر بعبارة دعني أجتز بابك ” ليحصل على حريته ويربطها بدفاعه عن حرية المرأة ” للزهرة – ضيفي – تفتح ابوابي ” وبحسب ناجح المعموري : كان الباب في أصول العقائد البرية وأساطين المكان الديني مفتوحاً وهذا ما أرادته الأنوثة المؤنثة في ديانات الشرق …. لكن المرحلة اللاحقة شهدت تغيراً في الثقافة السائدة بعد صعود السلطة الذكورية ، الشمسية وتحول الباب الى حجاب ذكوري ” الاجراس الاسطوريه في الشعر الحديث ” مصدر سابق ، ص :98 . ولا بد من الاشارة الى اسطورة عشتار / تموز فتموز يختفي في الصيف ويعود في الربيع، في الصيف جفاف المزروعات وفي الربيع عودة الخصب وحين ينزل تموز في فصل الجفاف/ الصيف الى العالم السفلي – عالم الاموات – كانت عشتار تنزل وتبحث عنه في العالم السفلي لتحريره من عالم الأموات ولعودته الى العالم العلوي لينشر الخصب لكن عشتار امامها عقبات فحينما تنزل الى العالم السفلي تصطدم بأختها شكيجال إذ تجردها من ملابسها وحليها في كل باب من أبواب العالم السفلي والشاعر “دعني اجتز بابك” يضغط عليها مرتين ليذكرنا بمعاناته التي تتماثل مع معاناة عشتار وهي تجتاز كل باب من أبواب العالم السفلي. وتحت العنوان الرئيس الرابع ” في عداد الذكرى” جاءت قصيدة ” عقيل علي طار آخر يتوارى” وهي قصيدة رثاء للشاعر “عقيل علي” وفيها يعكس الشاعر حزنه وأساه على الشاعر الذي اختطفه الموت قبل الأوان ويتوحد معه ليموت بأمر اشارة الرب الحمراء او الخضراء وليعرج عليه حالاً ، وفيها يوظف رمز الباب توظيفا شاعريا اسطورياً كأنه ينسج أسطورة:

ها أنت على الجانب الآخر من المرآة

—————————–

ولا آظنك تتفق معي

في التعويل على زميلنا “شاكر نوري”

في أنه سيفتح لنا ذات يوم أبواب “قلعة أور”

ويدخلنا إليها.

ولا يمكن البته المراهنة على النيات

أو تعليق الكثير على الآمال المجردة

وليست هي بعد – (جنة عدن)

والى ان يحين دوري

وتأذن لي اصبع الرب المرورية

بإشارتها الحمراء

أو

الخضراء

بالعبور الى ذلك العالم

لقد أعطى الشاعر سيمياء اسطورية (للباب) خلال المخيال الشعري وبحسب نورثورب فراي ( فإن المبادئ البنيوية للأداب وثيقة الصلة بالمثيولوجيا والدين المقارن كصلة المبادئ البنيوية للرسم بالهندسة ، نظرية الأساطير في النقد الأدبي ، دار المعارف بحمص ، ط1 ، 1987 م ، ترجمة حنا عبود ، ص:26. وهد هّيأ الشاعر لرثاء ” عقيل علي” الأدوات الاسطورية التي تساعدة على البناء الفني لقصيدته فالأسطورة تستند الى الخيال كالادب ، فلقد أصبح “عقيل علي” في الجانب الآخر من المرآة” وهذا النأي المتخيل يدعوه الى ان يتحدث معه باسلوب الحوار الصامت ” ولا أظنك تتفق معي/ في التعويل ، على زميلنا ” شاكر نوري” ومع ان “شاكر نوري” في العالم الواقعي الا ان الشاعر أراد أن يزيد المتخيل الاسطوري وان يتناص مع الحوار كما يؤكد ياختين في انه سيفتح لنا ذات يوم أبواب قلعة أور/ ويدخلنا اليها / فتزداد غرابة المتلقي وتصيبه الدهشة من خلال سيمياء ” أبواب قلعة أور” فهذه ( القلعة التي تقع جنوبي العراق كانت عاصمة الدولة السومرية فهي بيضوية الشكل وفيها زقورة وهي عبارة عن معبد مدرج خدعة بصرية ليبدو أعلى من ارتفاعها الطبيعي وتوجد في الزقورة “سن أوننار” وفي بنائها اسرار ميتافيزيقية وفيها المقبرة الملكية وقبر النبي ابراهيم “ع” ) ” عن اليوكبيديا” ثم يزيد الشاعر المتخيل الأسطوري الشاعري ” وليست هي بعد – (جنة عدن) وجنه عدن معناها الخلود وتقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب وفيها اشجار الفاكهة والخضرة والماء العذب وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم ومن هذا العالم السحري / الاسطوري / الواقعي رسم لنا الشاعر ومن خلال رمز “ابواب قلعة آور” / جنة عدن / لوحة تشكيلية رائعة لكنها توحي بالألم والحرمان الذي عاشه الشاعر عقيل علي وتوحد معه الشاعر والى يحين دوري / وتآذن لي اصبع الرب المرورية / باشارتها الحمراء / او الخضراء>

*عن جريدة الزمان

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| إشهار كتاب: “أحلام فوق الغيم” آخر مؤلفات الكاتب زياد جيوسي .

بحمد الله سبحانه وتعالى صدر كتابي الجديد “أحلام فوق الغيم” وهو مجموعة من القراءات النقدية …

| مفرح الشمري :هل سيتم الاستغناء عن الكتاب البشر مستقبلا ؟!.

من الاصدارات المميزة في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي بدورته الـ29 ترجمة اول مسرحية كتبها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *