طائرٌ بلا سماء.. نصوص الوجع العراقي النبيل
قراءة: شكر حاجم الصالحي (ملف/27)

إشارة:
يسرّ أسرة موقع “الناقد العراقي” أن تقدّم لقرّائها الأعزاء هذا الملف الأسبوعي الثر عن الشاعر العراقي المبدع “سعد جاسم” المجبول إنسانا وشعرا من طين فرات الديوانية السومري العراقي الحرّ.. كائن من شعر وموسيقى حمل هموم وطنه في المنافي وجسّد واكتوى بقيامته عبر الكلمة الملتهبة الصادقة الخلاقة. تدعو أسرة الموقع أحباءها القرّاء والكتّاب إلى إغناء الملف بما يتوفر لديهم من مقالات وصور ووثائق. وعلى عادة الموقع سوف يكون الملف مفتوحاً من الناحية الزمنية لأن الإبداع الحقيقي لا يحدّه زمن. تحية للشاعر المبدع “سعد جاسم” .
أسرة موقع الناقد العراقي

ما أن تنتهي من قراءتها، حتى يعاودك الشوق لتفحص فتنتها الباذخة بعناية المتيم مرة ثانية وثالثة، وها أنت تلامس جسدها بعد ان أغوتك الإمارة بالشعر بالاستمتاع بمباهجها الوارفة، رغم ما اعتراها من مواجع النأي والبكاء على أطلال خرائبها الجميلة التي أحالتها سنوات القهر والشظايا الى ما لا يسر الناظر المحب..

فإغراء القراءة يحفز في نفسك الغور في ثناياها والترنم بأناشيدها ومراثيها، لأنك تعرف منتجها عن قرب، فهو من سلالة رافدينية عريقة، تمثّل خساراتها وفجائعها منذ جريمة القتل الاولى مروراً بكربلاءات القرن الهجري الأول، وصولاً الى حاضر ملوث بدماء الإخوة الأعداء، ووظف كل هذا التراث البكائي في انتاج نصوصها المغردة في سماوات قصية بعيداً عن السماء الاولى التي حلّق فيها طائره فكانت هذه النصوص تعبيره عن مرارات المنافي وحزن الغربة وصقيع السنوات المفعمة بنشيج متواصل وحنين عراقي عاصف لملاعب الأتراب وحارات المدن الغارقة في البؤس والحرمان والخوف من عاديات الزمن العاهر، كان سعد جاسم ابن الديوانية العراقية صوتها القابض على جمر الايام، مستذكرا اصدقاء طفولته وابناء مدينته وشواهد فقرها وعلامات تشبثها بأمل قادم ومستقبل منشود، ففي ـ طائر بلا سماء ـ يفصح الشاعر عن ولهٍ بالاماكن الاثيرة في نفسه، وبالاصدقاء الذين ملأوا شبابه محبةً ومعارك وخصومات نبيلة، لذا فإني ـ كقارئ ـ أجد هذه النصوص المعبّرة عن حياتنا نحن فقراء المدن والقرى الجريحة، وهي صوتنا المتشظي في أقاصي المدن الأخرى، وهل من مقارنة بين أوتاوا الكندية والديوانية العراقية، أو بين قرى الوطن الغارق في ظلام الدهور والقرى الأوروبية التي تنقّل وعاش فيها سعد جاسم مغترباً سنوات تزيد على أصابع يديه وانتج خلال إقامته هناك هذه النصوص الراعفة..
الشاعر في ـ طائر بلا سماء ـ أمين على توثيق مواجعه وحنينه، باثاً كل ذلك في نشيج يدمي القلوب، ويثير في النفوس المرارة والألم على وطن يتشظى ودماء تسيل رغم ثرواته الخرافية.. على أية حال لست في صدد الخوض في مواجع مضافة، فما احتوته هذه النصوص يفيض عن الحاجة والرثاء.. وستتضح هذه الافتراضات من خلال القراءة التي ستكون فاتحتها المجموعة، أعني بذلك نصه ـ أريد بلادي ـ الذي لخص فيه كل ما في داخله من حنين جارف انفجر في ضميره..
يقول الشاعر سعد جاسم في (أريد بلادي):
هذا أنا../ عراقي وضوحي / ودمي فرات ذبائحٍ / أنا صيحة مؤجلة / دائماً أفكر بأشياء فادحة / لماذا الأنوثة تتوهج في حفلات الدم والأوبئة؟/ كيف البلاد تستحيل الى مجرد رايةٍ / وحكاية ونشيد لا يكتمل..
هذا هو سعد جاسم، يضع إصبعه منذ المفتتح على جرحنا الناغر عبر: فرات ذبائح، صيحة مؤجلة، حفلات الدم والأوبئة، ونشيد لا يكتمل، وفي ذلك اشارة ذكية وان كانت غارقة في سوداويتها الى مستقبل غير مضمون بوحدته وسلامة الأبناء لأن هناك من يريد للنشيد ان لا يكتمل، وتلك جريمة مضمرة ارتكبها فاعل معلوم.. وتتصاعد في ضمير الشاعر نبرة الحزن الممزوج باليأس والحنين فيقول:
تستحضريني دائماً
لأكون فيك كما يتشهى دمي
وفي غيابي عن تفاصيل احتراقك
أقرأ هواجس الذئب.. البرابرة
ونصوص الهتك.. الفناء
فأشهق: إلهي.. أريد بلادي
يااااااااااااأنت.. أين بلادي؟
وما من مجيب، فالبلاد ترفل بلصوص الغنائم وتجار الدماء، وما زالت تنام على مواجع قرون من الضحايا والشظايا، وسوف لن تجد البلاد / بلادي التي تبغي، فكل ما فيها محض نفط يذهب الى حسابات السادة أصحاب الحل والعقد في زمن التزوير والكذب والادعاءات الكاذبة، ولن تجد يا أيها الطائر سوى ركام الديوانية الذي فارقته منذ أكثر من عقدين قاحلين، ولن تجد الاصدقاء والأحبة فقد اكلتهم الحروب والمنافي والكواتم.. ما لك يا سعد جاسم وهذه البلاد التي اضحت غنيمة لمن شارك اللص الكبير واقتسم معه موجودات الوطن / البلاد وجلس دكتاتوراً على صدور العشاق الذين انتظروا لقاء المندفين.. وستظل يا سعد جاسم كمن يصرخ في برية ولا من سامع ولا من مجيب، ما دام النشيد لا يكتمل بارادة مسبقة ومخطط لها.. دع ذلك لجيل جديد يزيح كل الاشنات والعثرات من دربنا الطويل، واذهب انت الى ـ هو يشبه أنكيدو ـ ففيها تجد ذاتك الجريحة المدماة لأنك ادركت محنتك وعرفت جوهر المشكلة ولبها، فأنت القائل:
هو الذي أتى / من ينابيع الفرات / رحم النخلة / فحولة المراعي / وغواية الحقول / الى مدن الصيرورة / الذهول.. النساء / الغموض.. الايديولوجيات / الشهوات.. المكائد / المتلونين الذين يقاضون / الدم بالكراسي / والاسرار / بدولارات المتعة / ها أنت ايها الشاعر عرفت من يقف وراء البلاد التي تبغي، هم اولئك الذين قايضوا الدم بالكراسي والدولارات، فلا تتأمل فيهم خيراً، وكن كما نعرف في هذا الحداء الجميل سوطاً على ظهورهم وخياناتهم المتوارثة.. دع عنك كل هذا الخراب وهذا الموت المتراكم ولنذهب معاً الى ـ طائر بلا سماء ـص59 ـ النص الذي أخذت المجموعة عنوانها منه، وكان خلاصة سيرة ملبدة بالكوارث والخسارات
لطائر عراقي آخر أوجعته الغربة وأدمته الذكريات ذلك هو المبدع خضير ميري الذي كان رديفك ورفيق ايام القاهرة ولذاذاتها ومكابداتها , وحسب ما ارى فقد رسمت نصك هذا – طائر بلا سماء – على شكل مقاطع اختار كل مقطع منه حرفاً من اسم صاحبك فكانت المقاطع: خ , ض , ي , ر , م , ي , ر , ي , تعبيراً ذكياً على وعيك بتشظي حياة المشار اليه في نصك – الذي هو يندمج معك في احيانٍ عديدة , فتتبادلوا الادوار مرة تكون انت خضير ميري ومرة يكون هو انت , وهنا تتجلى المهارة في انتاج نص يعطي ما تريد.. فها انت تقول في مقطع ر من مفردة ميري:
تعال لنكتب سيرة جمجمة /تشبه البلاد / وتشبه سيرتها الدامية / تعال نشتمها ونعشقها / تعال نلعن اهلنا ونحبهم / تعال نضحك نخب بغداد الجريحة / بغداد الجرح النازف حتى في رغيف الخبز / نخب امهاتنا / نخب احلامنا / نخب خيباتنا /نخب الحرية / حيث لا ساحة ولا تحرير ولا جواد سليم / نخبك ايها الموت القديم / نخبك / نخبك / حيث لا شئ / لا أحد / ولا هم يحزنون / أيها الوطن / الجنووون…
أرأيت يا سعد ميري كيف كنت خضير جاسم في هذا النص الفخم المحتشد بالدلالات الثرية والمعاني الكبيرة , فقد أمتعت قارئك وادميت قلبه المتعب بشدوك الجميل هذا….ولأنك شاعر امتلكت قدرة استثنائية في البناء النصي ,كان لهذا يشار اليك بالتفرد والابتكار والامل..
ولا بد ان اختتم هذه القراءة بهذا النص الذي يلخص تجربة الشاعر سعد جاسم في مجموعته”طائر بلا سماء”التي منحتنا متعة القراءة المنتجة ولذة الاكتشاف وخلاصة الوجع العراقي النبيل.. اقرأوا معي بضعة سطور من – لصوص الفرح – ص73:
مهندسو الفتن والذرائع والوشايات
المفخخون بالهلاك
والضغينة السوداء
برابرة الطوائف
الدمويون….
الظلاميون…
الدهاقنة…
الشياطين…
هؤلاء…
أولائي…
أولئك…
فمن سيعيد لأرواحنا
فرحها المسروق
من هؤلاء اللّصوص؟

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *