ثامر الحاج أمين: سيرة وجع عراقي- محطات في التجربة الحياتية والابداعية للشاعر علي الشباني (2) (ملف/8)

إشارة:
ببالغ الاعتزاز والتقدير، تبدأ أسرة موقع الناقد العراقي بنشر فصول كتاب الناقد والموثِّق البارع “ثامر الحاج أمين”: “سيرة وجع عراقي: محطات في التجربة الحياتية والابداعية للشاعر علي الشباني” الذي يتناول جوانب من المسيرة الإبداعية الباهرة والثرة للراحل الكبير “علي الشيباني” وكفاحه الحياتي المرير الذي رسم نهايته المؤلمة. يأتي نشر فصول هذا الكتاب ضمن ملف الموقع عن الراحل علي الشيباني الذي تدعو الأحبة الكتاب والقراء إلى إغنائه بالمقالات والصور والوثائق. تحية للناقد ثامر الحاج أمين.
أسرة موقع الناقد العراقي

المسار الإبداعي للشعر الشعبي العراقي جيل التجديد الريادي

من الخضم الصاخب والتنوع للتجربة الحياتية والثقافية العراقية المشهودة والمؤلمة خرج جيل الشعراء الجدد منتصف الستينيات من القرن الماضي وهم يحملون لوائحهم الجديدة ويبشرون برؤيا حديثة وعصرية لكتابة مغايرة وشعر ينفذ في التجربة بشجاعة فنية وتعبيرية متمكنة حتى ليبدو ان ساحة الشعر الشعبي العراقي تنتظر او مؤهلة لخوض هذة التجربة الشعرية المهمة. شعراء هذه المدرسة وقد خرجوا للتو من منافي او أبنية الموت الفاشية وهم ينوؤون بحمل صلبانهم المصيرية على ظهور أنهكها الألم والرؤية الأكثر من اللازم في العالم والإنسان والسلطة جيل خبر الفرح التموزي الغابر وانتهاك الحرية والموت السهل وقد استقر على حافة الكون ليطلق الأسئلة الحياتية و الوجودية المحيرة وقد كان مصير الشعر أخطر الخيارات والمصائر الممكنة إزاء الموت والغربة والقلق كان لجيل القصيدة الشعبية الحديثة مبررات للتغير وكسر التقليد الشعري السائد بمنعطفات كتابية صعبة وذات دخول جسور ومتعدد الأوجة والأصوات لتجربة الإنسان الرافد يني المرعبة كان صوتهم في وسائل النشر والملتقيات الثقافية والإعلامية يقول:
الأول: لابد من النظرالجديد للموروث الشعبي ومعطيات التجربة التاريخية الشعبية الهائلة عبر مسار عراقي ينوء بالاسئلة والعذابات برؤيا حديثة تعري الزمن من زيفه المتوارث وتنفيذات حيث المواجهات الكاشفة لروح الانسان المقاوم المضطهد والحزين في مسيرة فريدة في الارض.
الثاني: لم تعد قصيدة مظفر الغنائية ولغته الموغلة بالتنوع المكاني المضطرب واسلوبه التصويري الرومانسي قادرة على استيعاب المتغيرات الستينية المذهلة في الفكر والواقع.
الثالث: القناعة بقدرة اللغة الشعرية اليومية المصفاة من رطانتها الريفية المتأخرة وانارة التجارب الجديدة.
الرابع: لم يعد بطل القصيدة وموضوعها فلاحا او ثائرا يهتف بالنصر يتوعد الأعداء بتناول أفقي يخضع لمتطلبات الايدلوجيا ازاء عصر تنوعت فيه الرؤى والافكار.
الخامس: قدرة القصيدة الجديدة على العبور الذوقي ومشاركة الانسان همومه في كل مكان من خلال مكونات الشعر الحديث وابعاده.
السادس: تجاوز وتطوير الاشكال الشعرية التقليدية القديمة منها والنمط النوابي كذلك من خلال تفكيك وتحوير الاشكال المستهلكة وتداخل الاصوات وتعددها والتملك الجدير بحرية فنية تعانق العصر ومتغيراته.
السابع: الاستفادة من شعر العربية والعالم المتطور ومن الفنون المختلفة لاغناء القصيدة الشعبية الحديثة واكتنازها بالتجارب الفنية المختلفة. وقد كان خيار الشعر كما قلنا أخطر الخيارات الممكنة وأجملها. ولم يكن كل هذا الجهد المعرفي والأدبي محض لافتات دعائية عابرة او محاولة مندفعة لاستعراض الذات وامكاناتها القاصرة لقد تشكل بتأثير وتفعيل هذا الجيل الشعري تيار ابداعي لم يدرس لحد الان ولم يتوفر له كتاب ونقاد جديرون.

ثامر الحاج أمين وعلي الشيباني

لم تسنح لرواده الفرصة لطبع أشعارهم ودواوينهم المدفونة في تراب النسيان والعسف (مازال ديوان الشاعر الراحل طارق ياسين يغفو في مكتبتي منذ مايقارب الثلاثين سنة) وغيره الكثير نشرت هنا وهناك بعض المحاولات منها مانشره الشاعر المجدد (كريم محمد) في جريدة الثورة العربية منتصف الستينيات وبالاخص قصيدته الشهيرة (الطوفان) وأشعار لعمران القيسي والراحل شريف الربيعي الا ان الخطوة الأهم هي عقد المهرجان الشعري الاول في الناصرية بتاريخ 7/7/1969 الذي يعد أول وأهم تظاهرة شعرية جديدة في مسيرة الشعر الشعبي العراقي قدم فيها الشاعر طارق ياسين قصيدته (زينب) وشهيد الغربة الشاعر عزيز السماوي (سفرة الروح) والشاعر علي الشباني قصيدته (خسارة)
غنه خوفه المبتلي بروحه
بعد ما خضر الخنجر وسط كلبه..
ولمع وجهه بسكوت
من يغني الكاولي كلكم سكوت
لو دره البلبل بواجيه غنه
يبلع السانه ويموت
بس يظل مبضوع كلبه
شو يريد اضماد يتداوه بخناجر
والعمر جذبة عله باجر
……………………………(من خسارة)
وفي الشهر الاول من عام 1970 هبط الثقافية وتجمعات الادباء وفي مقاهيهم الشهيرة الديوان المشترك (خطوات على الماء) الذي كتب مقدمته البسيطة الشاعر يوسف (الصائغ) ونفذ رسوماته من الغلاف للرسوم الداخلية الفنان (نايف السامرائي) وتضمن أربع قصائد لكل شاعر وهم (عزيز السماوي – طارق ياسين – علي الشباني) كتب عن الديوان كثيرا ويمكن اعتبار دراسة الراحل شريف الربيعي في مجلة (الهدف) الفدائية البيروتية اهم الكتابات لكن الأهم ما أثاره من جدالات وآراء اعتبرته (المانفيستو) الواضح لتيار الشعر اليومي العراقي الحديث:
ادور ع التعب من تفرغ الاحلام والرغبات من الراس
ادور ع التعب الشارع الممتلي بالناس العصر..
واعمارهم تتساوه بيه صدفه
ادور ع التعب بالجلمة من تلبس عرف وجناح
ادور ع التعب حر العواطف مثل ريح التوت ع الشجره
ادور ع التعب بين الكشر واللب
ادور ع التعب بالحب…
(من التعب)
تبع ذلك شيوع القصيدة الشعبية وهيمنتها الذوقية على المشهد الشعري العراقي وتقدم الساحة الابداعية العديد من الشعراء وبأصوات مختلفة واندفاع تجديدي شاخص ساهم برسوخ وتنشيط هذا التيار الشعري وتلون اساليبه ودخوله لميادين تعبيرية مختلفة كالاغنية والاوبريت والمسرح وغيرها، فقد طبع العديد من الشعراء الشعبيين دواوينهم ومنهم من فضل مجرد المشاركة في الاحتفالات والمناسبات والصحف منهم الشاعر شاكر السماوي وعريان السيد خلف والشاعر الغنائي الشهيد (ابو سرحان) ورياض النعماني وناظم السماوي وكاظم غيلان وريسان الخزعلي وآخرون.
لم يسكت النظام الدكتاتوري على النمو الكاسح للشعر الشعبي ذي المنحى النقدي وتأثيره الفاعل في الذائقة الشعبية المتفتحة للأجيال الناهضة، فقد بدأ بالتزامن مع هجومه الغادر على مايسمى بـ(الجبهة الوطنية والقومية التقدمية) وبمشروع تآمري ٍاعتاده الاوغاد ابتدأوه بتعيين الجلاد الصدامي ” عبدالكريم مكي” مسؤولا عن دور الثقافة الجماهيرية سيئة الصيت والخاصة بالاشراف على نشاطات الشعر الشعبي بغية تحييده ان لم يكن توظيفه لمصلحة النظام الدكتاتوري وملاحظة ماينشر وما يقدم من مهرجانات كرست كل هذه الافعال العدائية لاصدار (قانون سلامة اللغة العربية) المغرض.. ومن ثم الانتقال من لميدان التهريج والخطاب اللاشعري والمدنس بتمجيد الدكتاتور وحكمه القذر.. وعندما بدأت الهجمة البشعة على شرفاء العراقيين كان موقف الشعراء الشعبيين كالآتي:
الشعراء المشردون خارج الوطن:
1.الشاعر الراحل في الغربة عزيز السماوي
2. الشاعر الراحل في الغربة (ابو سرحان)
3. الشاعر جمعة الحلفي
4. الشاعر شاكر السماوي
5. الشاعر رياض النعماني
6. الشاعر كريم عبد
7. الشاعر الراحل في الغربة هاشم صاحب
8. الشاعر كامل الركابي
9. الفلكلوري الكبير والراحل في الغربة ابو كاطع
10. الشاعر فالح حسون الدراجي
11. اسماعيل محمد اسماعيل
الشعراء في الداخل تحت الاضطهاد والكبت
1. عريان السيد خلف 2. علي الشباني 3. كاظم غيلان 4. ريسان الخزعلي 5. فاضل السعيدي 6. رحيم الغالبي 7. كاظم السيد علي 8. ناظم السماوي 9. كاظم الركابي.
وقد استشهد تحت التعذيب الشاعر خنجر الشامي و الشاعر فالح الطائي وانتحر الشاعر صاحب الضويري وعذرا لمن لم نقصد اغفاله.. عذرا.

ـــــــــــــ
-الصباح 2005

المسار التاريخي والابداعي للشعر الشعبي العراقي

يبدو ان تاريخية المنجز الابداعي للشعر الشعبي العراقي وفولكلوره الباذخ بالعطاء العميق والاصالة قد شكل رافدا مهما في المعرفة واضاءة الليل التاريخي الكالح للانسان الرافديني المهموم شعرا وموقفا متلاحمين حتى ليبدو ايضا ان بدايات التحول الاولى نهاية العصر العباسي في التشكيل المغاير بحدود النمط اللغوي العراقي اليومي اثر السقوط الحضاري الفاجع لامبراطورية بني العباس الاستبدادية يشير الى الضرورة المرحلية والاجتماعية المكتملة والملحة للمخاطبة البشرية والتماحك المعيشي اليومي لمدن ونواحي الانسان العراقي البائسة وتجمعاته الناشئة في ارض عراقية طيبة ومحاصرة دوما باعداء يسورون مشروعها الحضاري الدائم ويهدمون اللغة كما يبدو أول مايؤشر وينهمك بالمتغيرات عكس مايدعيه السلفيون من ان عصر الظلام الناشئ اثر الهجوم الاكساحي المغولي صوب الشرق قد افرز لغة مهدمة ومتردية انسلخت من اللغة الام وقاموسها المقدس قد تكون صحة الراي وحجمه الدقيق في التعجيل المتناسب وطبيعة التغيير الدرامي الموحش تشكل (البيان) اللغوي الشعبي الجديد وبلاغته المتنامية والمتناغمة مع الحياة اليومية لاهل العراق…
لقد ساهم الغزو الهمجي والابادة الرهيبة التي مارستها الاقوام العدمية المتوحشة القادمة من شرق العالم المتخلف والقاحل الى تخريب وزعزعة ركائز الحياة العباسية المتداعية وعبورها المترهل والساكن لازمان تجاوزتها حد الانقطاع التاريخي الحاد عن مسارها –الحضاري المنحرف حتى ان بعض المؤرخين يشير الى بدايات الميل اللغوي اليومي المطلوب لأغراض التعبير الانساني اليومي وحاجات الذهن البشري للتناسق والتعادل اللغوي المفترض لمعطيات واغراض الواقع في المحطات الاخيرة من رحلة العصر العباسي الحضارية المتدرجة ويؤكدون حقيقة الولادة الشعرية المتناسبة والاداة التعبيرية المغايرة للتقيد اللغوي المدرسي المعروف.
مع انهم (المؤرخون) لم يكن في شجاعتهم القول والاضاءة الكافية لهذا الامر (الكافر) فقد بسطوا الامر في القول (بتسكين اللغة) والتدخل اللغوي مع الاقوام الاخرى وغيرها دون ان يتمكنوا من وجود رأي فاعل في اضاءة العديد من الولادات الشعرية (كالموال) مثلا ونسبته غير الكافية (للموالي)المنكوبين بأسيادهم البرامكة ومن ثم (ابن نقطة) شاعر شعبي عباسي فقير منبوذ من البلاط الامبراطوري العباسي الفاسد، عندما مات ذهب ابنه الجائع الى موكب الخليفة ليخبره بموت ابيه الشاعر قائلا:
انا بني (ابن نقطة)
تعيش ابويا مات
الضرورات المتعددة والمتشابكة اسست لغة اخرى على ضفاف اللغة الام قرب للواقع وللانسان مرحليا مع انها محاصرة مدرسيا لم تمتلك بعد قاموسها الرصين ورقباءها الاصلاء وقوانينها البلاغية الستاتيكية الصارمة انما تشكلت ونمت بفعل مبررها الاجتماعي المضيء ويباس جانب متحجر من اللغة القاموسية المكبلة بقدسية الغطاء الديني الصارم والبعيد عن ضرورات التطور المتنامي في الحياة الانسانية الحرة وضرورراتها الملحة والقادرة على تغيير القشرة القاسية لثمرة الانسان اللغوية ذلك لايعني تخلف اللغة العربية وقدرتها الحيوية على التطور والانسجام المتناسق مع متطلبات الحياة المتغيرة وقوانينها المتشابهة كالنهر سيما لو توفر لها قاموس حي ومتفاعل (وعلماء) اكثر شجاعة وحيوية في رصد ومعاينة التحولات السيكلوجية والتاريخية النابضة في الحدث اليومي المتدفق للامام دوما كالقاموس الانكليزي مثلا. هذا احد المبررات الشعر الواقعية بنهوض شعر شعبي عربي جديد والا فان الشعر الفراتي (الامومي) المنقول عن الشاعرة الفراتية المبدعة (فدعة) في القرن الثامن عشر لايمكن ان يكون مجرد ولادة تأسست بعجالة شعرية مبتكرة على مستوى الشاعر الفرد وانما هي حصيلة يانعة لتراكم لغوي ومن ثم شعري دؤوب ومتواصل.
اتنادهت والشمس تنجاس
اتنادهت وابليس نداس
نادوا على اللشور حياس
ياليعدل الميلة بلا فاس
وتقول فدعة ايضا:
اشهدي للولد ياركبة النبعة
كريم ومرجلاني من زغر طبعة
يهديب النكل حمله وحمل ربعة
ونكل حمل الضعيف وبعد شال افراد
أما الشاعرالكبير الحاج زاير فيبدوا اكثر رصانة وتواصلا ابداعيا مع منجز الشعر العراقي ومواله الغريب والقادر عل التعبير المحكم والاصالة الشعرية:
من يوم فركاك مالذن عيوني بسنة
وبكثر شوكي تسعر هالدليل بسنة
ياترف حسنك يفوك عله البدو بسنه
من دون كل الخلك سيفه علي شهر
حين رماني ولاسرار الموده شهر
انت عليك السنه تمضي بحسبة شهر
وانه علي الشهر كل يوم منه بسنه
مع اني لم اطلع للآن على الرأي المهم للمستشرق الشهير ماسنيون بالشعر العراقي والحاج زاير شخصيا على كثرة من اكد ذلك من اصدقائي ولاعتقادي الشعري والفني الاكيد ان الموال العراقي واشكال شعرية اخرى كالأبوذية والدارمي والقصيدة وغيرها قد مثلت صنعة ابداعية معادلة لروح التجربة الانسانية وهيامها بالتعبير المتناسق والمعبر حقيقة عن احزانها وتجاربها العديدة في الشعر الشعبي المصري ثم تقارب يثير الدهشة للموضوع نفسه. من ذلك يتضح ان الشاعر مظفر النواب السابح في نهر الشعر الشعبي الغزير والمرتوي من مياهه العذبة لم يجد بدا من الاعتراف الحاذق والدقيق من هذا الفلكلور والمنجز المتكور شعريا في هذا الميدان الخصب والعميق الغور بعد تقنيته الواعية من تأثيرات وترسبات الازمان الغارقة بعلل وأوجاع التاريخ وتشويهات المرحلة المتعاقبة مع الاحتفاظ بنكهة ومناخات الروح الشعبية والتاريخية المشعة للاقوام السالفة والتركيز المضيء على الريادات المبدعة في هذا المسار الجميل. ان التماسك اللغوي اليومي وابعاده التعبيرية والثقافية المتداخلة في مجتمعاتنا الناهضة والمتطلعة للتغيير والبناء وسوف توحد مهمة اللغة القومية من خلال التطور الحضاري الشامل والكفاح الاقتصادي المتجه صوب وحدة انسانية متماسكة في البنى التحتية وتمظهراتها الفوقية الحديثة ولايمكن اغفال مرحلية وازدواجية هذا الواقع المتدرج في مسارات التطور وكما حصل في مجتمعات غربية معاصرة عدة من مقاربة الازدواج اللغوي المرحلي والاصطفاء الانساني الحر والمنهمك بالخبرة والتجربة المعاشة والدور الطليعي للمنهج المدرسي الدقيق والحديث والمحشود بافاق العلم.. والتقدم ولنال ان نشير لـ(ايطاليا) واسبانيا وامم اخرى.
ان التحولات اللغوية والتقشير التاريخي لترسبات الزمن البشري ذات صلة حية بمخاضات الصراع التاريخي بين الطبقات والبنى المتناحرة والفوارق العديدة المتمثلة بلغة الانسان المتداولة وحياته وعلينا ان نعاين بجذل ومعرفة صادقة المنحى الجديد المفتوح للافاق ووحدة الانسان وحريته.

ـــــــــــــ
-الصباح 2006.

أدب… وفن السجون العراقية

كنت قد علمت بعد ثورة 14 تموز التحررية الرائدة بأن ثمة ثقافة زاهرة وابداعا فنيا وأدبيا متقدما ترعرع وتم تقديمه في سجون الملكية الاستعمارية المعتمة حتى انني علمت بأن الكثير من الغناء الوطني الشجي واناشيد الحرية والفرح الثوري الاول قد تم تأليفها شعرا وتلحينا ومن ثم اداء في دهاليز الالم العراقي المديد وسجون الارض العراقية الشهيرة وقد ظهر جانبا من هذه المنجزات الابداعية في الصحافة الوطنية واحتفالات العراقيين بعد الثورة.
وعند تأمل المرحلة الفاشية بعد انقلاب (شباط 63) الدموي وفتح وتكريس الكثير من السحون ومعتقلات الموت الشائع والتعذيب الهمجي وبدء مرحلة جديدة من العسف والدكتاتوريات الغريبة والمتولدة باستمرار ظهر شكل جديد من الحداء الانساني العميق والانشاد الوطني العنيد ومنافذ الضوء الابداعي على امتداد وطن حوله القتلة الى سجن كبير اكثر رعبا وعتمة وأطول زمن في الألم والصبر المرير.. كنت قد عايشت هذه المرحلة الممتدة من عام الجريمة البعثية في 63 وحتى مجيء القتلة الى الحكم ثانية في عام 68 بـ(ثورة) ادعوا انها بيضاء ولكنها كانت تهيء لنهر جديد من الدم العراقي النبيل وفي عدو سجون ومناف (وطنية) اهمها بعد (نكرة السلمان) المنفى الصحراوي الرهيب، سجن الحلة المركزي الكثيف في عدد نزلائه وتنوعهم المهني والثقافي والذي كان يضم بالاضافة لأعداد هائلة من مناضلي وملاكات الحركة الوطنية والديمقراطية لكثير من مثقفي وأدباء وفناني الوطن، لقد كانت سجون ومنافي ومعتقلات الفاشية العراقية محطات لاهثة بالضوء والتضحية والابداع والتكوين النضالي والانساني والمعرفي المغير والناهض بالروح الوطنية وتعميق المحتوى الداخلي الرصين للتمكن الدائم من مواجهة التحديات واسئلة الحياة النضالية والانسانية الصعبة.. والمستمرة، لقد أنشأ المثقفون العراقيون الرواد وزرعوا اجيالا جديدة من المبدعين الثوار، ثم انني اتذكر كذلك ان احد قادة(*) انقلاب البعث الثاني عام 68 والذي كان يحمل تطلعا ثقافيا يحاول من خلاله النفاذ لأخطر وسط فعال في الحياة العراقية في الستينيات، قد زارنا بصحبة الشهيد المفكر عزيز السيد جاسم في التجمعات ومقاهي المثقفين الشهيرة بهدف كتابة وتوثيق (ادب السجون العراقية) لكن الرجل البعثي ومشروعه الثقافي ذهب ادراج الرياح بعد ان تم سجنه ومن ثم تصفيته في واحدة من مذابح الدكتاتور البشعة. انها دهوة مهمة لاادري من سيكون الاجدر بتبنيها والتأسيس التاريخي الدقيق عبرمنهج توثيقي صادق ورصين خدمة للثقافة العراقية الدامية واجيال الوطن القادمة.
أسماء عدد من الأدباء والفنانين العراقيين في سجون الدكتاتوريات لفترة الستينيات الدامية.
1. الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب
2. الشاعر المناضل الفريد سمعان
3. القاص الرائد جاسم الجوي
4. الكاتب والناقد فاضل ثامر
5. القاص الكردي زهدي الداوودي
6. الشاعر المغترب فاضل العزاوي
7. القاص المغترب جمعة اللامي
8. الشاعر يوسف الصائغ
9. الشاعر واللغوي الراحل هاشم الطعان
10. الشاعر الشعبي (ابو سرحان)
11. الشاعر سعدي يوسف (فترة قصيرة)
12. الشاعر الراحل فائز الزبيدي
13. الشاعر خالد الخشان
14. الشاعر فيصل السعد
15. الشاعر الشعبي مجيد جاسم الخيون
16. الفنان المسرحي عدنان ملا رشيد
17. الفنان الفلكلوري سعدي الحديثي
18. الكاتب السياسي بديع عمر تظمي
19. الاديب جاسم مطير
20. القاص المغترب سهدي السماوي
21. الشاعر الشعبي هاشم صاحب
22. التربوي يحيى مهر

ـــــــــــــ
-الصباح 2005
(*) المقصود عبدالخالق السامرائي

المنفى – جدل الأسوار العالية

للمنافي لون آخر، تستهلكه الابصار المرتدة دوما الى دواخل مقهورة وتعبث به الايام التي تسور الرجل فيه الغياب الكياني المربك. للعمر في المنفى مسافة مفترضة للتعايش الصعب.. والقلق.. وبطبيعة الجدل الشائك بين (السجن) وعالمه الغريب.. والمتعب على مستويات ذاتية وخارجية عميقة، كل رسائلي الى احبتي خارج الاسوار تشير الى انها – كالحة – دائما كنت اصف هذا المحيط المسور بقسوة والعزل بارتفاع تشهق بالروح المذعورة وتهبط بطفولة الفتى الى عتمة مغروسة بممارسات الحسد الأولى العمياء.. والكالحة.
في البدء من القسوة الجسدية والنفسية الموغلة بالعداء والضغينة والافتاء يبدو ان زمن الزنزانة الراكز في الصمت والاختناق سيفتح في كوة صغيرة واحدة حشدا من القدرات الانسانية الهائمة في الابعاد والقادرة على محق الوجود الثقيل لهذا المربع المرعب.. وبعدها وبزمن ينمو بملامح مختلفة سترفع الاسوار المتماوجة في العمق البشري المفتوح على اخر الظنون والاحتمالات، وتشرئب في الظلمة المربعة.. والضيقة اسئلة جديدة كأنها خناجر مغرضة مخبئة لأيام منتظرة.. ليس لها سمات. اسوار عصية يتشابك في ارتفاعها الذي تغمره السماء كل تاريخ العسف.. والاذلال.. حتى الطيور الهائمة في الفضاء المسور ّ تأخذ الكثير من ملامح الغربة الحزينة.. والمختلفة في وجودها الشاحب والذي يخدش صمت الحيطان المعادية يوميء للحياد الكوني الساكن لمرور الشمس العراقية اليومي.. انه مجرد خبط زمني لاهث هابط الى السطح المعتم للوجود.. وحده دخان البيوت الوطنية الرقيبة يعبر القلعة الثقيلة برشاقة كئيبة ونزق كأنه ثياب مجهولة عصبية راكضين الى المحهول. للانسان وجود ليس هو دائما، انما يأخذ الجسد ابعادا غريبة وغير متطامنة لكل تجربة بشرية هنا، انني اذ احدق في عيون صديقي الاليف والداكن كذلك (في القاعة الثالثة) وابدأ التوريق في دفتره الدمعي الغدير، اعجب لتدفق كل هذه الأوجاع مغسولة بماء القلب البعيد.. واصمت لنضوح العرق الساخن من حديثه المنفعل واليأس الطافح من وجهه الفراتي المتماوج والمحتشد بالتجارب والاسئلة. كل يحمل جدرانه. و(يحمل في الداخل ضده) كما كتب شاعرنا في المنفى البابلي الغريب.. كنت اود احيانا وبفنطازية مفترضة. ان يحضر للمنفى جمع من الصبية المتوقدين في مدارس العراق الوسطى، أقرأني يوم (الملحمة) لنهار او حتى لسويعات من الزمن لا أكثر داخل هذه الجدران الكالحة.. لينبهروا كما اعتقد لعمق وغرابة الوجع الانساني وكل هذا التشويه العجيب وروح الانسان المتناغمة هنا.. قد يرتبك الصبية وتصدمهم الرؤية الباهرة وقد تنكسر الاقلام المدرسية الحالمة بين اصابعهم الغضة ويسقط الخبز الساخن من افواههم الراجفة ويذهب بهم الحلم اليقظ ليغلق الابصار الفتية ويرتفع بينهم وبين الشارع العراقي وبيت الأهل الغافل.. كنت قد اجتزت المتوسط بسنة عندما غربوا بي داميا، واهنا صوب القلعة العثمانية الملوثة بالدخان والصبر وانفاس الفراتين المذعورة فرط القلق.. والغربة.. لم اكن قد تعلمت من الاخطاء مايكفي لان اعيش بجدارة.

مشهد 1
يتنازعني فضول جارف وانا في المنفى لمعاينة ومتابعة الكثير من الظواهر والامور المثيرة.. والحلات غير المألوفة.. (عزل المجانين.. غرفة الرياضة الانفرادية.. قلعة الاعدام حجب المرضى الخطرين. قاطع السجناء العاديين.. وغيرها) لكن اكثر ما أثارني ذلك القبو المترب والمقفل دوما والذي يسمونه (غرفة الاعدام) اتلصص برهبة لهذا المكان العابق برائحة الموت ونتن الممارسة الحيوانية البشعة والعسيرة للحظات الرهيبة للتنفيذ القسري لموت الانسان الا انني وبالحاح صبياني صادق تسنى لي دخول هذا الحيز الاقناني المرعب بواسطة العريف الخاص بادارة هذا القدر الحجري القاتل.. وهو ايضا المنفذ الوقح والوحيد لطقوس الشنق المخيفة رجل كهل غريب الملامح.. ضئيل (يشاع انه من باقي جيوش الامبراطورية العثمانية التالفة.. والمختلطة الاجناس).. وجهه محتقن وعيونه كأنها جروح حمراء فرط الادمان.. والكراهية والسعال الدائم ومشاهد الرعب البشري الاسود.
غرفة الموت مرتفعة فوق قبو هو اشبه بغرفة ضيقة يتم الصعود الى اعلى حيث الافناء المتوحش بدرج املس تماما بلا درجات ومصاعد ارضية يتم دفع الضحية الى الغرفة العليا بصعوبة بالغة يتولاها عدد من افراد الشرطة وبسسب التزحلق المستمر عدم الاستقرار والتقدم الى اعلى.. اما غرفة الشنق الانساني جدا فيتوسطها مربع خشبي يرتبط بعتلة يمسك بها الجلاد وعندما يسحبها ينفتح المربع الخشبي على هوة رهيبة. يقف – المعدوم – وسط الخشبة بعد ان يحكم حبل الموت حول رقبته وتثقل اقدامه بالحديد (كمية الحديد تقدر حسب مزاج الجلاد ورغبته) بعدها يبدأ الهياج وزمجرة (المنفذ) المتوحشة وانتصاب الحديد المسلط على رقبة المعدوم. وبعدها وبصرخة دامية يسحب الجلاد المخمور العتلة جانبا لينفتح المربع الخشبي الى اسفل وهو يفصل بين اعلى الحياة وهو الموت السفلي بعد ان تضرب القبضة الحديدية المدلاة موضع الحياة في رقبة المشنوق والذي سرعان مايتدلى مرتعشا للحظات.. عندها يهدأ المنفذ الخارق ويضمن حصوله على مخصصات الاعدام النقدية مع اخر كأس من خموره (البيضاء).. ويهبط في الساحة متزحلقا.. انها مؤامرة مرهقة لتدجين الموت العنيف.. لاادري هل حقق العثمانيون الاجلاف وبعدهم الانكليزالغزاة بهذه المعادلة عدالة القتل العمد مع كل هذا النزوع الفطري والجماعي لمقاومة الموت الصعب ومناورته حتى للحظات لا أكثر بصفقة غير متفق عليها بين الجلاد والضحية.. ربما تقديسا خفيا للروح الانسانية المقاومة والراقدة في كل الاجساد الكونية وابراء الذات وضميرها المذنب بشكل ما من هكذا اوزار.
حدثت روحي جليا:
كان يمكن ان اخوض هذه المجزرة للموت الشاق لو لم يخفض حكم الاعدام الصادر بحقي الى المؤبد.

مشهد 2
في مساء خريفي غامض ادخلوا – القلعة – شابا بملامح ريفية فجة.. ركضت لأطلع على الامر الجديد ليتبين لي ان هذا الفتى عسكري يخدم مكلفا شمال الوطن، تأخر وصوله الى اهله بسبب الحرب المشتعلة ضد الاخوة الاكراد.. وكان وقع تأخير الاجازة عليه قاسيا كونه كان متزوجا حديثا. منحوه الرخصة للسفر الى اهله بعد انتظار بصحبة احد زملائه في الوحدة العسكرية وجاره في السكن بريف محافظة الحلة هذا الاخر كان قد جلب معه مبالغ من النقود الى عوائل اصحابه الجنود المتأخرين. نزلو من السيارة ليلا في الطريق العام كي يدخلوا البساتين الكثيفة وصولا الى بيوتهم المنتشرة على ضفاف نهر الحلة الغنج.. وفي الطريق الوعر والمعتم قام الفتى العسكري بذبح زميله ودفنه في احدى السواقي الجافة بعد ان سلبه كل النقود. احيل الى القضاء العسكري وعندما حكم عليه بالاعدام سارع (عبد السلام عارف) الى الموافقة الفورية.
كنت في أيام الانتظار أرقب المحكوم باستمرار وغالبا ما أجده منزويا وشاحبا، يكثر الحديث مع نفسه.. ويوم التنفيذ دخل ساحة – القلعة – والد الفتى القروي ومعه زوجة الابن الشابة المرتبكة بملامح صفراء قلقة.. ذلك تنفيذا للتقليد الانساني العثماني عفوا وقد يكون اضافة حضارية للانكليز. الذي يوصي بمنح المشنوق فرصة اخيرة لتحقيق شيء من رغباته.. كانت الرغبة الاولى للفتى هي ادخال زوجته فقط عليه.. وعندما وصلته محملة بالطعام قذف به خارجا وأغلق الباب، امام ذهول وخيبة الأب.. كنت مشدودا لهذا المشهد بانفعال غريب وترقب مذهل، وبعد فترة تكاد تكون هي الاطول في التاريخ طرقوا الباب عليه دون جدوى.. عندما اقتحموا عليه الخلوة ليسحبوا الفتاة من تحته بقوة وهي متعبة.. ثم تركوه خاويا.. في الخارج ساوم الجلاد المنفعل والد المحكوم بالمال لكي يوفر لابنه سرعة الموت وذلك بزيادة – الحديد – في اقدامه قبل التنفيذ وبذلك يختصر الحديد هذه المرة المسافة بين الحياة ونهايتها.

اشارة *
في منتصف التسعينات من القرن الماضي قام اتحاد ادباء الديوانية امسية ثقافية للروائي العراقي الكبير طه حامد الشبيب وفي جلسة الليل الخاصة تحدثت للشبيب عن كل هذا المشهد والذي كان منفعلا به كثيرا وقرر اثر ذلك كتابة رواية يكون مدخلها المنفى وبعد صمت عميق سألني عن ثيمة العمل الروائي كما اعتقد فقلت له:
– انها حالة التشبث الجسدي بالزوجة في لحظات الرحيل الاخيرة كمعادل للفناء.
لكن الشبيب رفض ذلك وقال بجذل:
– ان المصعد الأملس هو المدخل والثيمة الساطعة لتاريخية الموت وجدل الحياة الصعب.
واعتبر ذلك مدخلا هاما لعمل روائي عراقي منتظر.

ـــــــــــــ
-جريدة الديوانية.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| إشهار كتاب: “أحلام فوق الغيم” آخر مؤلفات الكاتب زياد جيوسي .

بحمد الله سبحانه وتعالى صدر كتابي الجديد “أحلام فوق الغيم” وهو مجموعة من القراءات النقدية …

| مفرح الشمري :هل سيتم الاستغناء عن الكتاب البشر مستقبلا ؟!.

من الاصدارات المميزة في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي بدورته الـ29 ترجمة اول مسرحية كتبها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *