لفت نظري اسم الشاعر التركي ( اورخان ولي قانق ) اول مرة وانا اقرأ مذكرات كاتب لبناني كان مبعدآ الى تركيا وكان دائم التردد على منزل الشاعر ( ناظم حكمت ) . يقول هناك تعرفت الشاعر الفتي ( اورخان ولي ) الذي ذاع صيته بعد ذلك واصبح من اشهر شعراء الادب التركي الحديث ثم وقعت على كتاب صغير انيق موسوم ب ( هذه الارض , تلك النجوم , هذه الاشجار ) وقد صدر في ( ابو ظبي ) عبر منشورات المجمع الثقافي عام 1998 وقد ضم اضمامة من قصائد ( اورخان ) وقد عربها الاديب جمال جمعة الا انه اغفل ذكر المصادر التي استقى منها واستهل المترجم كتابه بتقدمة وجيزة تفيدنا شيئآ يسيرآ عن سيرة الشاعر المترجمَ عن خطوط حياته من ولادته عام 1914 الى عام 1950 حيث اغمض عينيه الاغماضة الاخيرة . ثم وقعت على كتاب اخر احتوى على اعمال الشاعر ( اورخان ) وجاء الكتاب بعنوان ( اورهان ولي ) الاعمال الكاملة ترجمة عبد القادر عبداللي وقد صدر الكتاب عن دار افاق للنشر والتوزيع وطبع عام 2008 وجاء طبعه بدعم من صندوق مديرية المكتبات والنشر في وزارة الثقافة والسياحة التركية , والناظر في الكتاب يجده اشتمل على كل كتابات الشاعر من المقدمة التي كتبها لمجموعته الشعرية المعنونة ب ( غريب ) وقد ساهم في تلك المجموعة صديقا عمره الشاعران ( مليح جودت ) و ( اوقتاي رفعت ) وكل اشعاره التي نشرها ابان حياته او القصائد التي ظهرت بعد مماته .
والمتتبع لسيرته يكتشف ان الحياة لم تطل به فقد ودع عالمنا وهو في عامه السادس والثلاثيين وكان ذلك في 1950 وهو يذكرنا بالكثير من سير الشعراء العالميين الذين عاشوا اعمارآ قصيرة امثال بيرون وشيلي و مايكوفسكي وادغار الان بو ورامبو وابو القاسم الشابي واخرين الا ان عبقرياتهم عمرت وتعمر طويلآ لانهم عاشوا مخلصين لفنهم وشعرهم بصدق وعفوية وتلقائية .
ان من اهم منجزات الشاعر اضافته لغة الشارع الى لغته الشعرية التي تتميز بسلاستها وبساطتها , اللغة التي تكتنز بالتفاصيل الحياتية المعاشة التي لا يلاحظها اغلب الناس او لا تستوقفهم , لكن الشاعر يعيشها بالطول والعرض والاعماق وهو متوله بنهارات استانبول ولياليها يغذ السير في طرقاتها ويأخذه ايقاع الحياة , الشمس والبحر والسفن الماخرة والقوارب الملأى بحبات البطيخ ومنظر الاطفال اللاهين وهم يرسلون كركراتهم البريئة , كل هذا يتوهج في شعره ومدينة استانبول تتمسرح في نصوصه تجد خلجانها وجسورها ومقاهيها واسواقها المكتظة وتبصر حتى لون الشاي وهو يضج في الاقداح البيضاء يقول الشاعر :
” لدينا بحر مليء بضوء الشمس
لدينا اشجار ملأى بالاوراق
الصباح والمساء يجيئان ويذهبان
ونحن نذهب ونجيء بين البحر والاشجار “
هذه احتفالية كبيرة بالحياة السائرة في استانبول واحتفاء بايقاعها الجاري والموهبة الشعرية العالية التي يملكها ( اورخان ) تحيل هذه العوالم الى نهر من التدفاق وحدائق من الضوعات المائرة انها بامتياز ممهورة ومبصومة ببصمته اللاحبة انه لا يكف من الاحتفاء والغناء للحياة الصاخبة وتقدير وتعظيم كل عناصرها واستحلاء ورفع شأنها يقول الشاعر :
” جميلة اشجار البتولا
لكن اذ نصل الى النقطة الاخيرة
افضل ان اكون نهرآ
لا شجرة بتولا ”
يعشق تقمص النهر لانه يجري ولا يعرف السكون وبعد ذلك هو دعوة للرحيل والحنين الى معرفة بلاد مجهولة يحلم الشاعر بشساعتها وتخومها البعيدة .
وفي ما يلي قصيدتان مكرستان في المديح والوفاء الى ( اورخان )
1ـ القصيدة الاولى :
” اراك بمقهى قديم
صديقك البحر يبحث عنك
يخط لك ازرقاق السماء
ويخيط جروح الوانها المضواء
وتسأل عنك غيمة قادمة
تغسل احلام الاشجار واقدام الطرقات
تقول لي احلامي المدحرجة
تعبت في عناق شهوة الحياة
الخبز يستحلى الصباح
والفم يُستحلب بشايه اللذيذ
رسائلك المعنونة الى ( اوقتاي )
هل وصلته وربما اضاعها البريد
هذا هو صوت القطار
يستقطر حنينآ الى البراري الفساح
استانبول تولم ولائمها السعيدة
الشمس تنزل في البحر
والبحر يعدو في ازقة المدينة
كم اشتقتَ ان ترى ظلك العنيد
يمضي في طريق منتشلا نفسك عن قيوده الثقال
رائحة الشواء تملأ الهواء
نملكها مجانآ
واي معنى لمدينة لا تزورها الشمس
ولا تداعبها اصابع البحر ؟ “
2ـ القصيدة الثانية :
في قيصرية كركوك
وتحت سقائفها الماتعة البيضاء
رأيته هناك , ( اورخان ) يحمم غزلان وحدته الشاردة
وبصمته الراعف ينشد وحشته الهانئة
يسنبل انبدة الصباح
وكركوك اطفال من دفالٍ وبرارٍ من صياح
يتكسر في كرنفال مجفف حزين
وانت قلب يدحرج ضباب اساه
في طرقات الخبز واقمصة المياه
هل لك مهرب يا صديقي ؟
او ترنق عينيك كمشة من عزاء
وانما تخبز وحدتك النازفة
في جرارٍ تتصعلك حفاوة النسيان