هل للرواية العربية حضور؟. إلى أي مدى يمكن اعتبار الروايات المكتوبة باللغة العربية تنتمي إلى أصل واحد من أصول الكتابة؟. وهل يمكن الحكم على الروايات المصرية بنفس المعايير المطبقة على الروايات المنشورة في سوريا ولبنان على سبيل المثال. وهل الاختلافات بينهما ناشئة من اختلافات طرأت على الموضوعات المشتركة، أم يمكن تتبعها حتى نصل لاختلافات خاصة بكل بلد نتيجة الخبرات المختلفة والأشكال والأساليب الخاصة بكل منطقة على حدة؟. واجهتني هذه الأسئلة حينما كنت أدرس الرواية المصرية. وكان من الممكن والواضح أن ننظر للتطورات التي لحقت بالجنس الفني بمعزل عن الكتابة النثرية في بقية البلدان الناطقة باللغة العربية، ومع ذلك يمكن أن تلاحظ في الدراسات و النقد إشارات تدل على علاقة ارتباط وثيقة بين هذه الأشكال.وإذا كانت مقدمة د. جونسون دافيس لمجموعة من القصص القصيرة، لا تشير إلى الرواية، يبدو لي أنها تعكس موقفا عاما من الكتابة النثرية العربية. وفيها يقول:
“تعاملت مع العالم العربي على أنه وحدة ثقافية واحدة. وهذه القصص هي نتاج تلك الثقافة. وأن يكون قاص مولودا في سوريا وآخر في السودان مسألة ليست ذات أهمية محسوسة، لكن لعلها تهم القارئ غير العربي… فالعنصر المشترك بين هؤلاء الكتاب أن قصصهم مكتوبة بلغة عربية كلاسيكية، وهو العامل الذي تستند عليه الوحدة الألسنية للعالم العربي”(1).
وربما كان هذا الموقف الذي يغلب على مقدمة كتاب “الكتابة العربية اليوم” (2) ، منبعه أن الشواهد تركز على الأعمال المصرية، باستثناء إشارات قليلة عن موضوعات القصص. وهذا يخالف سياسة المجموعة التي كان نصف قصصها من بلدان أخرى.
لقد مرت مشكلة أصل الكاتب وتأثير أصله على كتابته بصمت مطبق. حتى أن عنوان بحث الدكتور طه عبدالمحسن بدر” تطور الرواية العربية في مصر”(3) يشير لعلاقة مشتركة بين مسار الرواية في مصر ومسارها في بقية بلدان العالم العربي، لكن لا نجد أي ذكر للموضوع في سياق الدراسة. وهناك مجموعة أخرى من الكتابات بررت تركيزها على منطقة واحدة.. من هؤلاء مثلا يحيى حقي مؤلف “فجر القصة المصرية” (4) يذكر أن الحركات الأدبية في مصر في السنوات الأولى من القرن كان لها شخصيتها المستقلة وهويتها. فارتباطاتها كانت مع أوروبا حصرا. زكتابان من السلسلة نشرهما معهد الجامعة العربية للدراسات العليا في القاهرة، وهما الفن القصصي في لبنان (5) والقصة في سورية (6) يتخذان موقفا متشابها، ولكن في نفس الوقت توجد إشارات تدل على معرفة الدوائر الأدبية في بلديهما بما يجري من تطور أدبي في مصر وبقية البلدان العربية. إن النهج الإقليمي الواضح لهذه الدراسات يعتبر أمراً مفروغاً منه. ويمكن ملاحظة اتجاهين في النقد، الأول يفترض أن اللغة المشتركة هي انعكاس لحقيقة عميقة، والثاني يقصر الدراسة على منطقة محدودة ومعزولة داخل العالم العربي. ويجدر بنا ذكر أن الاتجاهين إما كانا يعملان بشكل منفصل، أو معا وجنبا إلى جنب في البحث الواحد، ولكن لم أوفق بالعثور على أي تحليل لهذين الاتجاهين، ولا لدراسة أثر اللغة المشتركة كعامل من عوامل ربط وتوحيد النشاط القصصي. في النهاية هناك أمثلة كثيرة على كتابة أدب عدة بلدان مستقلة بلغة واحدة. وأول مثال يأتي للذهن هو الأدب الإنكليزي والأمريكي. وليس من المستحيل أن تجد سببا لهذه الدائرة المظلمة في النقد الأدبي. والقومية العربية واحد من هذه الأسباب. وهناك أسباب أقل وضوحا، منها الصعوبات العملية الناجمة عن مشاكل توزيع الكتاب. فالمصري سيجد مصاعب عويصة بالحصول على كتاب منشور في مكان آخر، ما لم يكن الكاتب من المشاهير مثل سهيل إدريس أو نزار قباني. ونادراً ما يكون لدى دار النشر الصغيرة في بيروت أو القاهرة، ناهيك عن دمشق أو بغداد، إمكانية للوصول إلى أسواق تتجاوز حدودها الجغرافية وساحات نشاطها.
والآن بعد توفر كتلة ملموسة من الروايات باللغة العربية، من الممكن، ومن الضروري بشكل مضطرد، أن نتابع العلاقة بين المدارس المناطقية في الكتابة. ومن المؤمل أن دراسة هذا المحور ستقودنا إلى الانتباه لوعي أوسع بمعنى الشكل الذي وصل له هذا الجنس الفني في البلدان العربية، وكيف يتم تحريض تطوره وتقديم فضاء إضافي لحركة النقد الأدبي. وبالفعل توجد محاولات لدراسة الموضوعات التي ظهرت في عدة بلدان (7)، مع متابعات محدودة لتطور الرواية والقصة القصيرة في مصر والمشرق(8). وهناك دراسات تتابع نشوء وتطور الرواية في مصر ولبنان وسوريا والعراق (9). وهذا تمهيد لا بد منه لدراسة أوسع تشمل كل الرواية العربية. أما المشكلة الأهم التي تواجه كل من يقوم بدراسة من هذا النوع هو توفر المواد وهي مشكلة ملحوظة لو كنت خارج الشرق الأوسط. في بلداننا تتوفر الروايات والمصادر الثانوية التي تغطي مصر ولبنان، ولكن ما أن تبتعد قليلا باتجاه الشرق يندر توفر الأعمال الأدبية، والمصادر العراقية على وجه الخصوص ليست واضحة. وبسبب من هذه المصاعب لا أدعي أنني أقدم هنا ما يزيد على اقتراحات من بضعة سطور أقترب بها من موضوع يستحق دراسة معمقة ومطولة.
***
شهد عام 1967 في مصر نشر رواية “ميرامار” لنجيب محفوظ وفي بيروت “خمسة أصوات” للعراقي غائب طعمة فرمان. وقبل فترة قصيرة نشرت اللبنانية إميلي نصر الله روايتها “طيور أيلول” (10). والأكثر شهرة من كل هذه العناوين دون شك هو العمل الأول، ومن لم يقرأ هذه الرواية ربما شاهدها في فيلم سينمائي. وكانت هي آخر حلقة من سلسلة روايات كتبها محفوظ بـ “أسلوبه الجديد” وذلك بين 1959 و1967، وتحولت لما يشبه حكاية شعبية عن الوضع السياسي في مصر. وفيها يتناوب السرد خمسة رجال، يمثل كل منهم اتجاها سياسيا مختلفا، وهؤلاء الرجال يلتقون في الإسكندرية خلال زيارة لها وإقامتهم في نزل تديره امرأة يونانية عجوز، ويمكن اعتبار هؤلاء مثالا عن فساد الماضي الذي كان تحت رحمة المؤثرات الأجنبية الغريبة. وتصور الرواية أيضا شخصية الخادمة الشابة، زهرة، بخلفياتها القروية، وترمز بها لمصر الأصلية، وهي من كان لديها إحساس بالمستقبل، ناهيك أنها مزيج من البراءة والثقة بالذات. وكان الشكل في هذه الحكاية السياسية مقتصدا واعتمد بقوة على الحوار – ودون أي شك هذا واحد من الأسباب التي أدت لنجاح سيناريو الرواية – أما التكنيك فقد لجأ لوصف نفس التفاصيل بعيون أكثر من شخصية واحدة، وقد استخدمه محفوط بحذر لإضاءة هويات الشخصيات المختلفة. أما أخطر عيب في الرواية فهو أنها كانت قريبة جدا من الوثائقية (كأنها ريبورتاج)، فالشخصيات هي أنماط، واهتمامها بالموضوع كان سياحيا. وفي الحقيقة إن أحداث عام 1967 وحدها تكفي لتجعل المقاربة بعيدة عن واقعها، فتفاؤل الكاتب المحدود بالمستقبل كان بعيدا كل البعد عن الحساسية التراجيدية التي وجدت مصر نفسها فيها.
الرواية التالية “خمسة أصوات” هي ثاني رويات الكاتب الذي انتقل ليعيش في موسكو منذ عام 1960 (11).
وتجري أحداثها في بغداد في بواكير الخمسينيات، وتتابع محاولات أربعة من النخبة يعملون على تحرير أنفسهم من فئة المجتمع المحافظ في بغداد، والذي لم يلمسه التحديث تقريبا، وتحرير أنفسهم من واجب الالتزام بالمبادئ النضالية. وتلعب السياسة دورا في الرواية، واهتمت بمعارضة الدكتاتورية، واعتبرت أنها وجه من وجوه الحرب في سبيل الإصلاح الاجتماعي. وفي النهاية تغلق الحكومة الصحيفة ويتباعد الأصدقاء الأربعة، أحدهم يضطر للسفر إلى الخارج ليكسب قوته، بينما يجهز البقية أنفسهم للعاصفة التي تهب على البلاد. ولا يقل بالأهمية الجزء الذي يتابع “الصوت الخامس” في الرواية ويضعه بمواجهة مسؤوليات عائلته وضرورة تحملها. فقد اقترن في سن مبكر بتوجيهات من والده مع فتاة لا يشعر نحوها بالحب، وأهملها نهائيا هي وأولادهما حتى موت الرجل العجوز. وباعتبار أنه ضحية وجلاد، لم يكن قادرا على التحول، وأغرق نفسه بالوحدة والكحول. وكما أوضح المؤلف السياسة هي جزء فقط من الحبكة الكلية، وليس هناك أي محاولة لرسم حدود للحياة السياسية في العراق.
وحركة هذه الرواية أكثر مرونة من رواية محفوظ. لقد كانت الشخصيات أقل وضوحا وتعريفا، ولا يمكن التمييز بينهم بسهولة. والتقنية تتبنى أسلوب الشخص الثالث في السرد دائما. ولكن احتل كل واحد من الشخصيات الخمسة قطاعا مستقلا وتداخلت الأحداث بواسطة وصف الموقف الواحد من عدة زوايا، وهذا يمثل تطورا ملحوظا، رغم أن الكاتب لم يتفوق به ولم يكن يسيطر عليه تماما. ولكن متابعة الحياة في بغداد، والموازنة بين السلوك التقليدي لعوائل هؤلاء المثقفين وبين آمالهم ومسيرتهم، منقولة بمهارة، وبعمق أكبر مما يمكن للسرد البسيط أن يحققه. ويمكن الإشارة لسمتين من سمات أسلوب الكاتب: استعماله المبرر للكلمات والتعابير المحكية العراقية، واستعماله التخيلي للخيال.
أما رواية إيميلي نصر الله “طيور أيلول” فقد فازت بجائزة الرواية في لبنان. وفي هذه الرواية حكاية فتاة من قرية لبنانية تتلقى تعليمها ثم تستقر في المدينة وتتمرد بالتدريج على عائلتها وعلى مجتمعها الريفي. وهذا هو إطار الحكاية. وخلال ذلك تتابع بعض الأحداث من حياة صديقاتها، وبالأخص قصص الحب غير المثمر والزواجات الفاشلة. وتبدو موضوعات الرواية متشابكة ببساطة، وتأثيرها ينجم من حقيقة أن عاطفة الشخصيات متداخلة مع الطبيعة ومع المشاهد المحيطة بالقرية وإيقاع العمل في الحقول. ونبرة الرواية شعرية، ولكن يوجد ما يكفي من النظام المفروض على المادة الفنية لمنع النغمة الرومنسية التي تتخلل الموضوع من أن تغمر العمل كله.
هذه الروايات الثلاثة، المنتقاة عشوائيا من نفس الفترة الزمنية، تبين تنوع أشكال الرواية العربية الحديثة، بالمضوع والأسلوب. والفروقات ليست عميقة فقط، فالمرء لا يمكنه استبدال أسماء الشخصيات والشوارع البغدادية في “خمسة أصوات” بأسماء شخصيات وشوارع من القاهرة دون أن يلاحظ القارئ. والقارئ لن يقتنع أن الرواية البديلة عن مصر. إن التقابل الحاد بين المجتمع والمثقفين التقدميين في الروايات المصرية المكتوبة في أواخر الأربعينات واضح مثل الشمس، ولكن هذا لا ينسحب على الأوضاع السياسية. وكذلك تصوير المدينة، ولا سيما أحياؤها الفقيرة، يعتبر فريدا من نوعه. أضف لذلك إن “ميرامار” و”طيور أيلول” تعكسان جوانب محددة من البلدين اللذين ظهرتا فيهما. هل كانت الروايتان نمطا من أنماط التقاليد التي نجمت عنها، وماذا ساعد على دفع عجلة التطورات فيها؟.
العامل الأول تاريخي. والظروف المحيطة بظهور وتطور الرواية في مصر أصبحت الآن معروفة (12)، ويوجد اتفاق أن زينب لمحمد حسين هيكل (13) هي أول رواية حقيقة وأصيلة مكتوبة هناك. وهيكل، وهو عضو من حلقة الجريدة وتلميذ لأحمد لطفي السيد، تشرّب ميول أستاذه الليبرالية وأفكاره في الإصلاح، والحاملة لاتجاه علماني. ولم يتأثر بالدعوة للوحدة الإسلامية أيامذاك. وكان هيكل والروائيون اللاحقون (من جاء بعده) من التيار الذي عمل على تطوير الروح الثقافية المصرية، وهذا قبل الحرب العالمية الثانية، ولم يتخللهم التعاطف مع التطورات الموازية التي اجتاحت المشرق وأسست لفكرة القومية العربية. وكان رجال الحرف والقلم في مصر أقرب للتمركز حول الذات، وهو موقف شجعته الدعوة لتمصير الأدب طوال العشرينات والثلاثينات (14). وعليه إن معرفتهم بما كان يكتب وينشر في بقية العالم العربي كان محدودا للغاية (15)، والمؤثرات التي تلقوها بالأساس أوروبية: في أول الأمر فرنسية وإنكليزية، وفي وقت لاحق روسية (16).
***
بعد “زينب” توقف النتاج الروائي عن الظهور حتى نهاية العشرينات، ولكن منذ هذا التاريخ برز نتاج مستقر، أولا على يد جيل الـ “89”* مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وآخرين، ومعاصرهم طاهر لاشين من المدرسة الجديدة، ولاحقا على يد جيل الواقعيين من أبناء الأربعينات وكان في المقدمة محفوظ. وبعد ثورة 1952 قدمت المدرسة الاجتماعية الاشتراكية ممثلة بعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس للرواية اتجاها جديدا، وأعقبها روائيون شباب عادوا لرسم الريف بصور ذات شحنة سياسية أضعف. وهذا الانتاج المتواصل قدم للرواية المصرية موقعا متميزا في العالم العربي.
في بقية البلدان العربية كانت حركة الرواية بطيئة وبعيدة عن تأسيس أو ضمانة مكان لها. فالحياة الثقافية في صيدا اللبنانية كانت تعاني من تأثير الهجرات ابتداء من 1860 وما بعد. أما أهم مشاركة للسوريين في الأدب العربي قبل الحرب العالمية الثانية فقد تحققت في مصر وفي الأمريكيتين. وكانت الثقافة الفرنسية تتابع عن كثب وبالأخص بعد فرض الحماية، وجهود الفرنسيين المكثفة لتطوير تأثيرهم أدى لعزل ملحوظ لمناطق نفوذهم عن بقية العالم العربي وبالأخص في سوريا(17). وتعتبر رواية “الرغيف” لتوفيق يوسف عواد المنشورة عام 1939 أول محاولة روائية هامة. ولكن لم تصبح الرواية معروفة بين الكتاب إلا في الخمسينات والستينات، بعد ظهور أعمال سهيل إدريس، جميل جبر**، ليلى بعلبكي، ليلى عسيران، وإيميلي نصر الله في لبنان. ثم حنا مينة وهاني الراهب وحليم بركات ومطاع صفدي في سوريا.
لكن الوضع كان يختلف في العراق، لأن الإمبراطورية العثمانية في ولاية العراق كانت معزولة جغرافيا وثقافيا عن المؤثرات الأجنبية. وعليه يمكن أن تجد في هذه المنطقة نسخة عراقية من “أحاديث ابن هشام” للمويلحي، وذلك من خلال “الرواية الإيقاظية” لفيضي، والتي نشرت عام 1919، بعد اثنتي عشرة سنة من سلفها. غير أن هذا الوضع المتخلف سريعا ما فقد تأثيره، وظهرت المدرسة الواقعية بالكتابة، ومعها أفكار الإصلاح الاجتماع سياسي، وهو ما أسس له ذو النون أيوب، والذي باشر بالنشر مباشرة قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، وتواصلت الجهود بشكل أكثر أهمية مع فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وشاكر خصباك.
من هذه الزاوية، يمكن أن نرى أن ما يبدو تقاليد مستمرة في الرواية المصرية كانت قد بدأت منذ العشرينات (1920)، لكن تأخرت بلدان المشرق عن تبني هذا الفن وتعرضت التقاليد هناك للانقطاع. وكذلك كان الكم خارج مصر أقل، ربما لعدم وجود روائي عربي يكتب باستمرار مثل نجيب محفوظ، وربما يمكن أن نعزو ذلك للكثافة السكانية وهو ما يجب أخذه بعين الاعتبار. كان عدد سكان مصر ضعف لبنان وسوريا والأردن والعراق مجتمعين، و مكن للأدب أن يتأثر بهذه الحقيقة الإحصائية. مع ذلك يبدو لي أن الانطباع الذي يوحي أن معظم الروايات ظهرت في مصر يحتاج لتصحيح. كان هذا صحيحا حتى أواخر الخمسينات، ومنذئذ انتقلت كتابة الرواية إلى لبنان وسوريا والعراق، أما مصر فقد اهتمت بالدراما (المسرح). وربما هذا يدخل في عداد الظواهر المؤقتة، وأن مصر ستعود إلى الرواية، وفعلا إن الكتاب الشباب في مصر الذين خصصوا وقتا لكتابة الرواية، ومنهم عبدالحكيم قاسم ومحمد القعيد قد يمثلان بداية هذا الاتجاه، إنما في الوقت الحالي تبدو الصورة ضمن هذه الحدود.
ما هي الخصال المشتركة بين هذه الروايات المنشورة في بلدان مختلفة من العالم العربي؟. هي في خاتمة المطاف، مكتوبة بنفس اللغة، وهذه الحقيقة عمليا ، بعيون جزء منا، عامل موحد بامتياز. ولكن حتى هنا يوجد اختلاف في المقاربة.
فالروائيون الكبار وبعض الشباب يميلون لاستعمال لغة أدبية فقط، وتوجد أسباب لهذا التفضيل، وهذا هو أساس وحدة العالم العربي، وهو ما يسمح بسهولة فهم وتداول الكتاب خارج حدود بلدانهم أو منطقتهم. وأن تهمل هذه اللغة يعني أن تنفصل عن لغة القرآن، وأن تعترف بالاختلافات المحلية، وسينشأ بالتالي إمكانية أو احتمال، عدم الفهم. واللغة المحكية غير جاهزة للتعبير عن بعض الأفكار (18). لكن في كتابات يحيى حقي (19) يمكن أن تلاحظ موقفا آخر. ويتكون من استعمال مشروع لكلمات مقتبسة من اللغة المحكية ، حيث لا يمكن لأي كلمة عربية رسمية أن تعكس نفس النكهة أو تنقل المعنى المطلوب بالضبط. هذه الصفة واضحة بشكل خاص في الحوار، حيث أن إغراء تسجيل كلام الشخصية دون “ترجمته” إلى لغة أدبية يكون أقوى مما هو عليه في الفقرات السردية. وتبني الكلمات والفقرات العامية يكون نادرا، غير أنه بين الأدباء الذين بدأوا بالكتابة في الخمسينات وما بعد أصبح ظاهرة واسعة الانتشار. وعندما ظهر تكنيك تيار الشعور أصبح قاعدة من قواعد الرواية (20). والموضوع هنا ليس مجرد أسلوب، ولكنه مرتبط بالسياسة وتقاليدها المرعية، فالكتاب الذين حملوا مبادئ اشتراكية دعموا استعمال المحكيات.
إن استخدام اللغة المحكية يقدم بالضرورة نكهة محلية للرواية. فأسماء الأشياء المرتبطة بمنطقة معينة، ولا سيما الطعام مثلا الفول أو التبولة، تزود العمل بلون محلي وتمنح واقعية الرواية بعدا إضافيا. والحوار بالعامية يحمل بساطة ومباشرة لا يمكن للغة الأدبية الرسمية أن تحققه بسهولة. وربما تعكس أيضا إيقاع التكرر في الكلام الذي يخرج من عاطفة جياشة، ويقترب بأهميته من غنائية الشعر الشعبي(21). وهناك ميول قوية لتوظيف العامية بشكل أوسع حينما تتكلم الشخصيات المحرومة من الثقافة، وذلك بغرض الصدق، فمبدأ استعمال المحكيات أنها طريقة فعالة للتمييز رواية من بلد معين عن غيرها، ولأن الشخصيات تعرّف بنفسها من خلال لهجتها، واستعمال لهجة معينة تربطها بمنطقة معينة دون أي شك.
***
كان الكتاب المصريون أكثر ميلا للاعتماد على لهجتهم من بقية الكتاب في البلدان العربية، وكان هناك اعتقاد شائع أن العامية المصرية مفهومة في كل أرجاء العالم العربي. وبالمقابل كان المصريون أقل عرضة لغزو المحكيات العربية، ولن تجد كاتبا عربيا جاهزا للمغامرة باستعمال لهجته غير المفهومة خشية أن يصبح خارج ساحة السوق المصري. تتركب أول رواية لليلى عسيران وهي “لن أموت غدا” من حبكتين، الأولى تجري أحداثها في لبنان، وفيها تتكلم الشخصيات بلغة فصحى. حبكة الثانية في مصر، وباستثناء البطلة اللبنانية تتكلم كل الشخصيات باللهجة المصرية. وهذه السياسة، والتي يبدو أنها غير مبررة فنيا، يتحكم بها منطق تجاري لحد بعيد.
عموما إن استعمال اللهجات ليس ضروريا ليكون صادقا ويعبر عن منطقته الجغرافية. وأعمال نجيب محفوظ أقوى دليل. فقد تمكن، من دون الابتعاد والشرود عن لغة الأدب، أن يخلق جوا مصريا نقيا. ولكن اللهجة تكون فعالة بالتعبير عن إلحاح العواطف، كما أنها تؤكد على خلفيات ومنشأ الشخصيات وأحيانا طبقتها. إن اللهجة بحد ذاتها لا تخلق جذور الكاتب، ولكن تزيد من فرصة إحساسنا بها. وهناك جانب آخر للغة وهو ما يجب الاهتمام به هنا. فالأدب العربي يميز أساسا بين أسلوبين: لغة أدبية ومحكية. ويمكن أن تضيف التقاليد عنصرا ثالثا. فالأسلوب بالعادة مسألة شخصية، ولا يمكن لأحد أن يستنتج من الأسلوب جذور وأصل الكاتب. ولكن هناك استثناء واحد لهذه القاعدة، وهو النثر الشعري الذي نشأ في سوريا ولبنان، وانتشر بين الكتاب المسيحيين، والذي وجد أفضل صيغة له في كتابات جبران. يمكن القول إن هذا الأسلوب لا يزال منتعشا في لبنان. وأدباء مثل إميلي نصر الله يوظفونه لتصوير طبيعة بلادهم: من جبال وسهول. لقد كانت الجماليات الرومنسية أفضل أسلوب للتعبير عن الطبيعة الخلابة، و هذا الاتجاه لا يزال حيا في لبنان.
منذ بواكير القرن التاسع عشر مر الشرق الأوسط كله بمرحلة تحويل اجتماعي عميق، مع تبدلات اقتصادية وسياسية. ولم يشعر المجتمع بهذه التحولات إلا بعد الحرب العالمية الأولى. ومن المؤشرات عليها انتشار التعليم بالطريقة الأوربية، وتطور وسائل التواصل الجماهيري، وتحقيق الاستقلال الوطني، وتحرير المرأة، وتخفيف سيطرة الدين على المجتمع وما رافق ذلك من تساؤلات وتفكير بمعنى الحياة، وعدم رغبة المثقفين بقبول سيطرة التقاليد، وتبني المثقفين الإيديولوجيات التي تحض على المواجهة لتحقيق المزيد من الرخاء والحريات. وإذا وصلت التغيرات في بعض الأقطار لمسافة بعيدة، فهي في بقية المواضع، مثل شبه الجزيرة العربية، كانت غير محسوسة. و قد أدى ذلك لابتعاد هذه المنطقة عن المسار . وبتعبير حليم بركات أصبحت هذه المنطقة “تعيش ممزقة بين القرن العشرين وما قبل العصر الحجري كأنها مقسومة لنصفين”(22).
كان الكاتب العربي يكتب انطلاقا من هذه الخلفيات، ومن الواضح أن كل الروائيين العرب يشتركون بتجارب عامة متشابهة. ويمكن تحديد و ملاحظة التجارب العامة الناجمة عن مشاكل المجتمع المعاصر ومنها: مشكلة العقل النخبوي، وتقبل الدور الجديد للنساء، والقتال ضد المجاعة، والجهود المبذولة لتحقيق نظام سياسي عادل، والبحث عن هدف وغاية للحياة بعد أن تعرض إطار المعتقدات والأعراف القديمة للانهيار. ولكن تعميم الخبرات التاريخية الراهنة في العالم العربي لا يمكن التعبير عنها إلا بشكل تجارب ومغامرات فردية، و هذا يقود الموضوعات العامة لتأخذ أشكالا نوعية مختلفة حسب المنطقة والظروف. وربما يحتاج هذا الكلام لأمثلة.
مثلا مكانة الدين في الرواية المصرية، وربما العراقية ليست مثل مكانته في الرواية اللبنانية والسورية. كان الكتاب المصريون بمعظمهم مسلمين، ويكتبون انطلاقا من خلفياتهم الدينية، ومع ذلك يقرون بحذر أن مكانة الإسلام محدودة بحدود الحياة الخاصة للأفراد. أما المهتمون بالإصلاحات السياسية والاجتماعية فقد غضوا النظر عن دور الدين. وفي نفس الوقت أدانوا كل أشكال التبشير به: استعمالاته الخرافية، وجهل قياداته، ودوره كـ “أفيون للشعوب”. كان القبطيون يشكلون اثني عشر بالمائة من عدد سكان مصر، غير أنهم لم يتلقوا نفس العناية من الرواية المصرية. وإذا كان الكاتب قبطيا، يجب أن يضع شخصياته بمكانها الحقيقي، ويمكن أن تحكم على ذلك من أسمائها على الأقل. وكانت تفاصيل المحيط الإسلامي والعلاقات مع الأقباط لا تشغل مساحة كافية، بل نادرا ما تكون موضوعا للنقاش(23).
غير أن الحال في لبنان كان مختلفا. فالنظام لديه قدرات فائقة على التسامح وقارب الدين بضوء مختلف. وكذلك في سوريا، مع أن المسيحيين أقلية، كانت لديهم مكانة مرموقة في الحياة الثقافية مثل لبنان (24).
والضرر هنا ينجم عن الانقسام الديني الذي يؤثر بتماسك الوحدة الوطنية، وبالحدود المفروضة على حرية الأفراد بسبب الانتماء القسري لطائفة من الطوائف. فالشخصيات لا تختار طائفتها وهي مجرد صدفة بالولادة. والاختبار يحين حينما يتقابل شاب وفتاة من طائفتين مختلفتين ويرغبان بالزواج. لا بد إلا أن يصطدما بمعارضة كبار العائلة. مثلا في رواية “ستة أيام” لحليم بركات كان الصدام بين الشابين المتحررين وأم البنت ذات العقل الأصولي هو طريقة تصوير الصدام الموازي بين التقاليد والتطور (التبدل).
إن الـ bildangsroman (الخلفيات الشخصية) التي تعبر عن انفصال البطل عن خلفياته التقليدية وتعاليم الدين ليس لها ثقل ملحوظ خارج مصر. ولكن أينما تمت معالجة هذا الموضوع، ولنأخذ على سبيل المثال “الخندق الغميق” لسهيل إدريبس، لا يوجد تصوير للدين على أنه الأرضية التي تتكاثر وتتوالد فيها الخرافات، ولكن يأخذ دورا هاما في دعم المجتمع المحافظ وتماسكه. وطبعا من الممكن أن تجد في لبنان وسوريا كتابا أقل اهتماما بهذه المشكلة من نظرائهم في مصر. عموما أينما وجدت مقاربة للموضوع فهي تأخذ شكلا مختلفا، وغني عن القول أن المسيحيين سيفسرون المسألة من زاوية خاصة تناسب تقاليدهم.
اختلاف آخر يمكن أن تشاهده في السياسة. لو نظرت لنطاق الأنظمة العربية ستجد أن الخلاف بالفن طبيعي، ولكن التطورات التاريخية أيضا لعبت دورها. فالرواية المصرية في الأربعينات صورت الكفاح السياسي على أنه ضرورة لإنهاء الأرستقراطيات الفاسدة. وبالنسبة لذلك الجيل كان المصلح المثالي مثقفا مستنيرا وليبراليا بميول اشتراكية. وكانت وجهات نظر فرمان مشابهة لهذا الموقف. أضف لذلك أن الكاتب الذي له برنامج سياسي محدد كان يوظف كتبه للتبشير بسياسته. وهنا يأتي في الذهن اسم عبد الرحمن الشرقاوي، وتصويره المتميز للفلاح المصري الذي له نشاط سياسي، وهذا لا يختلف عن حال “الحقد الأسود” للعراقي شاكر خصباك . ومع أن الحبكة تجري في السجن حصرا، يكون التعارض بين الدعاة للعدل، وبين من يستعمل القوة والقمع. وهذا هو مضمون الرواية التي تهاجم بشكل واضح نظام قاسم. وهناك اتجاه ثالث يمثله الكاتب الذي ينتمي للخطوط العريضة من برنامج سياسي، ولكن لا يتخلى عن حرياته في مناقشة بعض النقاط الحساسة وبشكل غير مباشر. ومثاله موقف مطاع صفدي (25) وعبد السلام العجيلي (26). وربما هذه هي إحدى صفات حزب البعث السوري، حيث أن البرنامج السياسي أقل صلابة من الأنظمة المجاورة. ولا يمكن لنا أن نتخيل إلا بصعوبة فائقة وزيرا للثقافة في مصر يتعامل بمرونة مع شخصية روائية تأخذ دور معارض سياسي، مثلما فعل العجيلي الذي ينظر للمعارضة كموقف فروسي ونبيل(***). كانت الأوضاع في مصر منذ الثورة قد فرضت على الكتاب أن لا يعبروا بصدق عن مواقفهم السياسية. وروايات محفوظ الرمزية (الأليجوريات) منذ عام 1959 تبدو بشكل معاكس تماما لكتاباته قبل 1952. وكانت السياسة بالنسبة له، مثل يوسف إدريس وجيل الكتاب الشباب، موضوعا لا يمكن مناقشته مباشرة. وبالتضاد مع هذه الحالة، رسم سهيل إدريس لنفسه في روايته والتي تعتبر نصف سيرة ذاتية (27)، صورة رئيس تحرير مجلة ثقافية، له عدة ميول سياسية مختلفة، واختار أن يكون مستقلا ودون أي انتماء لأي حزب.
ومن المتوقع أن يكون للرواية اللبنانية إطار إيديولوجي أوسع وأكثر امتلاء بين روايات الشرق الأوسط. وهنا لا بد من ملاحظة مشكلة فلسطين. فهي المشكلة التي هيمنت على الساحة في الشرق الأوسط وبقية العالم، غير أنها لم تحصل على اهتمام لائق بها في الرواية. ولكن يمكن أن نذكر عملين دارت الحبكة المحورية فيهما حول فلسطين وفي فترة تاريخية سبقت عام 1967، وهما رجال تحت الشمس (28) للفلسطيني غسان كنفاني. ثم الرواية ذات العنوان النبوئي “ستة أيام” لحليم بركات. كلاهما يقف في الصف الأول من الرواية العربية، ولكن مقاربتاهما مختلفتين. فقد تابع كنفاني أحوال اللاجئين خلال كفاحهم المرير من أجل البقاء، والتعايش مع ظروف الفاجع. بينما تعامل بركات مع الموضوع من زاوية حرب فلسطين عام 1948 وبطريقة رمزية، وذلك ليكشف الغطاء عن أسباب الضعف في المجتمع العربي. وترى أن الإشارة لحروب فلسطين، وبالأخص تخاذل الجيل القديم ودوره في خيانة القضية ومسؤوليته عن نتائجها، موزعة في عدة روايات لبنانية وسورية. ولكن نادرا ما تطرقت الرواية في مصر لذلك.
وتبقى حروب الجزائر، وكفاحها الدرامي، وأهميته. فقد كانت هذه الملحمة حية في وعي كتاب المشرق. أما بالنسبة للمصريين فقد اكتفوا بقضايا وضعهم السياسي الداخلي. وقد أسست “زينب” لبداية الكتابة في مصر حيث كان الفلاح يرمز للبلد وخلوده ورسالته التاريخية. ومن النماذج المجددة التي تكرر مضمون “زينب” يمكن أن نذكر “ميرامار”. كان تداخل الفلاح مع الوطن يقابله موقف غامض لابن المدينة. فهو ينظر للفلاحين من زاوية وضعهم المعاشي ومستوى تعليمهم ومعتقداتهم والقيم المختلفة التي يحملونها. الأمر الذي أبعده عنهم بمسافة لا يمكن اختصارها. وهذا الموقف لا يتبناه كتاب لهم خلفيات حضرية فقط مثل توفيق الحكيم، ولكنه يظهر في أعمال بعض الكتاب الذين لهم خلفيات ريفية أيضا. ومن الأمثلة على ذلك لويس عوض في “العنقاء” ويوسف إدريس في “البيضاء”.
وبين الكتاب السوريين واللبنانيين لا يظهر أي من الموقفين المذكورين. حينما يختار بركات جماعة ترمز لفلسطين والعالم العربي، فإنه يستعمل صورة بلدة، هي دير البحر. حتى أن كاتبة مثل إيميلي نصر، المرتبطة بحياة الريف، لا تشعر أن اللبناني الأصلي لا يغادر قريته. فهي مرتبطة بالأرض التي زرعها أسلافها والتي تكون الحياة فيها متقاربة مع الإنسان، حيث لكل إنسان مكان خاص به، وتقارن هذه الصورة بالمدينة المنفصلة والقبيحة والمزدحمة بأشخاص معزولين. غير أن حنينها للاستقلالية كان يجذبها باتجاهها. وبرأي معظم الكتاب كانت القرية هي مكان يعيش فيه الأقل حظا. أما سكان المدينة فيستحقون الشفقة بسبب واقع حياتهم المعقد والصعب. باختصار لا يوجد أي إشارة لثقافتين متباينتين، ريفي ومديني، كما في مصر. فالمدينة هي مركز الحياة، والقرية تحاكيها بعدة درجات من الفشل أو النجاح. ومن المحتمل أن يرتبط هذا الوضع بـ ” إنكار المرء لنفسه” ولا سيما بين فلاحي سوريا، فأخلاق مجتمع الفلاحين مستمدة من أنظمة معادية للفلاح – الإسلام والمدينة والصحراء – (29) ولكن مهما كان التفسير، يبقى مختلفا عن موقف الكاتب المصري. فيما يخص تصوير اللبنانيين للقرية يمكن أن تعزو صفاتها النوعية لوجود أعراف ثقافية واقتصادية هي أقرب لأوروبا من بقية بلدان الشرق الأوسط (30). وربما ما يهمنا هنا من الفروقات المذكورة أعلاه ما نجم عن خلافات فلسفية. فمنذ الأربعينات ظهر نقاش متواصل في العالم العربي حول أهداف الأدب، وتنازع الساحة أنصار الوجودية والماركسية.
***
وجدت الوجودية مؤيدين لها في سوريا ولبنان، ومع أن الماركسية كانت معروفة في كل مكان لكن تأثيرها كان أقوى في مصر بزعامة عبد الرحمن الشرقاوي. ويمكن ملاحظة أثرها في التأكيد على الصراع الطبقي، وكان من شروطها التفاؤل والإيجابية (31)، وذلك ليس في روايات الشرقاوي فقط، ولكن أيضا في أعمال يوسف إدريس ومنها “الحرام” (32). وتوجد في روايات محفوظ مثل “السمان والخريف” (33) و”ميرامار” آثار من التفاؤل الإيجابي مع ميول لاعتبار الشخصيات بشكل أساسي ممثلين للطبقات التي أتوا منها، وهذا ملحوظ في بقية أعماله. وترتب على ذلك عدم التركيز على الصراع الداخلي للشخصيات بالمقارنة مع أحوال الرواية المصرية قبل الخمسينات (1950)، وهو تراجع عن شخصيات المازني وجيله. لقد غيرت النخبة من وعيها بمشاكلها بعد التعلم في أوروبا. لكن الموضوع لم يعد معارضة للأصول والبيئة الاجتماعية المفروضة عليها. فقد بدأ منطق الصراع الإيجابي، وانتهى وقت اختيار القيم والمعايير التي يجب استعمالها.
وعلى الضد من ذلك وسع سهيل إدريس أفكاره المستعارة بوضوح من الوجودية، وذلك في رواية “أصابعنا التي تحترق”. وهي إعلان عن سياسته المتبعة في تحريرمجلة شهرية ثقافية . حتى أن عنوان رواية “قلق” لجميل جبر(34) يكشف عن تأثير الفكر الوجودي، وكان لمعظم الكتاب السوريين واللبنانيين اهتمامات من هذا النوع. وقد ركزت رواياتهم على الأفراد وتطوراتهم الفلسفية، ومع أن أحدا لم يكن يدعو للعودة إلى البرج العاجي، لم يكونوا ميالين لوصف بانوراما المجتمع أو لمتابعة الصراع الطبقي باعتبار أنه عامل مؤثر ومحدد. وكان أبطالهم أقل انغماسا بالسياسة لو قارنتهم مع المصريين. وهذا الفرق في الاتجاه الفلسفي يفسر نوعا ما عدد الروايات التي نشرتها النساء السوريات واللبنانيات الأمر الذي يؤكد استقلاليتهن النسبية. وذلك في وقت اختفت فيه الدعوة للتحرر في الرواية المصرية. لم يكن في الماركسية كاتبة على شاكلة سيمون دوبوفوار لأن الماركسية تؤمن أن تحرير المرأة هو جزء من تحرير الطبقات المقهورة. بينما كانت المؤثرات الوجودية تؤكد على ثورة الأفراد باعتبار أن هذه الثورة وسيلة مناسبة يمكن للفتيات المثقفات استغلالها للتعبير عن الغضب من مجتمع لا يحترم المساواة والقيم الإنسانية. ويعتقد أن تفضيل السوررين واللبنانيين للوجودية يعود لاتساع حركة الترجمة في بيروت ولا سيما ترجمة الوجوديات، وعلى هذا الأساس انتشرت المفردات والمصطلحات الوجودية في هذه المنطقة، وغابت عن غيرها (35). ولكن هذا صحيح جزئيا، لأنه لا يفسر لماذا كان محفوظ ، على سبيل المثال، من أنصار الفكر الوجودي. هناك عامل آخر أشار له، بطريقة غير مباشرة، الناقد المصري طه بدر في إحدى قراءاته لرواية “جيل القدر” لمطاع صفدي. فبعد أن أشار لمزايا الرواية وبعد أن ناقش نقاط الضعف بروح لا تخلو من الذكاء ودقة الملاحظة، أدان تجاهل المجاعة باعتبار أن “ المشكلة الأساسية للجيل المعاصر هي توفير الضروريات” (36). ولا يمكن أن تفهم ذلك إلا على ضوء الحقيقة التالية: أن الناقد المصري عانى من تفاقم هذه المشكلة في بلده، ورأى أنها جزء لا يتجزأ من شروط الحياة. ولكن من الخطأ أن نفترض أن المشاكل الاقتصادية في سوريا هي مساوية ومشابهة لما يجري في مصر. لم أقرأ رواية واحدة في سوريا أو لبنان لم تميع النقد الاجتماعي، والأسباب الموجبة بنظري هو عدم إلحاح المشكلة الاجتماعية على وعي المجتمع. لقد كانت الماركسية فلسفة جذابة، غير أنها ليست هي الفلسفة الوحيدة القادرة على الإجابة على سؤال النخبة: هل الرواية العربية موجودة؟. الجواب يتوقف، لبعض الدرجات، على الارتفاع الذي تنظر منه عين النسر للمشهد الروائي. على نحو عام إن الرواية العربية موجودة بالتأكيد، لأنها مكتوبة بلغة واحدة، وتشترك بتراث ثقافي متشابه، ولأن الخبرات التاريخية المعاصرة التي تمر بها كل المنطقة تقدم للروائيين في مختلف البلدان مادة واحدة. وبهذا السياق تكون الرواية العربية متميزة بموضوعاتها لو قارنتها مع الرواية الإفريقية أو الألمانية، على سبيل الذكر لا الحصر. غير أنه في نفس الوقت لا يمكننا إنكار وجود فروقات تطال تقاليد الرواية في العالم العربي. ويمكن أن تلاحظ ذلك في الأسلوب أو الموضوع أو الفلسفة التي تلهم الكاتب. وقد تتأثر الاختلافات بعمق التقاليد في البد المعني. ولأن كل الاختلافات تعمل بنفس اللحظة يمكن أن تكون النتائج مختلفة تماما بين بلد وآخر. وأود أن أضرب مثالا عن التقابل والاختلاف في كل من “طيور أيلول” و”ميرامار”. إذا كانت الاختلافات متدرجة بحدتها إن هاتين الروايتين تحتلان نقطة متطرفة. إن الاتجاهات المحلية لا تعتبر تقاليد مختلفة ومعزولة. ولو أن تطور الأساليب تواصل على نحو مستمر دون أي انقطاع في هذه البلدان، سنصل لرواية مختلفة حتما. ولكن على ما يبدو أن نشر الرواية في مصر يتعرض لطور استراحة لأن الجيل الحالي لا يجد فرص نشر متاحة بسهولة. وأنت تكتب حاليا، كما يقول الروس، “لتحتفظ بروايتك في درج الطاولة”. وسيصبح معنى رواية عربية ،في حال اتساع رقعة هذه الأحوال، يدل على الروايات المكتوبة بلغة عربية في فترات مختلفة وفي بلدان مختلفة. ولكن التواصل العشوائي للشكل النوعي قد يمنع تطور خط واحد في أي بلد. وعليه سيكون على النقاد الإشارة لمتشابهات عامة، كما هو الحال منذ سنوات. وآمل أن لا يكون هذا التفاؤل المحدود والضعيف هو كل ما لدينا من احتمالات، لأنه في آخر خمسة عشر عاما تشكلت أساسات واعدة لرواية لها شخصية واضحة في كل أرجاء العالم العربي.
هوامش الكاتبة:
1- د. جونسون دافيس. لندن. 1967.
2- الكتابة العربية اليوم: القصة القصيرة. إعداد: ن. منزالوني. القاهرة. 1968.
3- القاهرة 1963.
4- القاهرة. بلا تاريخ نشر.
5- سهيل إدريس. القاهرة. 1958.
6- شاكر مصطفى. القاهرة. 1958.
7- على سبيل المثال صبري حافظ: نكبة فلسطين في الرواية العربية. الآداب. نيسان. 1964. أزمة الحرية في الرواية العربية المعاصرة. حوار. أيار – حزيران. 1964.
8- ر. ول. مكاريوس. أنتولوجيا من الأدب العربي الحديث: 1- الرواية (بالفرنسية). باريس. 1969. مقدمة.
9- أهملت شمال إفريقيا الفرانكوفوني والذي ينتمي لتقاليد وأصول مختلفة. وتوجب استبعاد كتابات من المغرب والسودان لأسباب عملية.
10- بيروت 1962.
11- هذه المعلومة ومعلومات بيوغرافية إضافية مصدرها هو ج. كمال الدين. الآداب. أيار. 1968.
12- انظر طه بدر. مصدر سابق.
13- القاهرة 1914.
14- سلمى خضراء الجيوسي: اتجاه وتطور الشعر العربي المعاصر. رسالة دكتوراة غير منشورة. لندن. 1970. ص 264.
15- لا طه بدر (مصدر سابق) ولا يحيى حقي (مصدر سابق) ذكرا ما يدل على معرفة بالسرد العربي المكتوب خارج مصر بأقلام كتاب من تلك الفترة. أضف له إشارات سلمى خضراء الجيوسي (مرجع سابق) عن ميول كتاب مصر في تلك الحقبة للانعزال.
16- يحيى حقي. مصدر سابق. ص 74-100
17- شاكر مصطفى. مرجع سابق. 223.
18- هذا هو موقف نجيب محفوظ. منشور في حوار . آذار – نيسان. 1963.
19- في قنديل أم هاشم على سبيل المثال (حوالي 1947).
20- في رواية الحداد لمحمد القعيد على سبيل المثال. القاهرة. 1969.
21- في الحداد. وفي الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي. القاهرة. 1954. ص 53-54.
22- ستة أيام. بيروت. 1961. ص 93.
23- لويس عوض: العنقاء. بيروت 1966. وعادل كامل. مليم الأكبر. القاهرة. 1944 أمثلة على ذلك.
24- في رواية حليم بركات المذكورة سابقا. وفي الحي اللاتيني لسهيل إدريس. بيروت. 1955. والخندق الغميق. بيروت. 1958. وفي المهزومون لهاني الراهب. بيروت. 1961.
25- جيل القدر. بيروت. 1960.
26- باسمة بين الدموع. بيروت. 1959.
27- أصابعنا التي تحترق. بيروت. 1962.
28- بيروت 1963.
29- توجد تفاصيل عن أخلاق الفلاحين في
J.Weulersse : Paysans de $yrie et du Proche Orient, باريس. 1946. ص 64-89.
30- ص 266. مرجع سابق.
31- إحسان عباس: الاتجاهات الفلسفية في الأدب العربي المعاصر. الآداب. آذار. 1962.
32- القاهرة. 1959.
33- القاهرة. 1962.
34- بيروت. 1961.
35- إحسان عباس. مرجع سابق.
36- الآداب. تشرين ألأول. 1960.
هوامش الترجمة:
*المقصود مواليد 1889
**من غير المعروف إسهامات جميل جبر بالأدب العربي. ولكن سقط أيضا اسم كرم ملحم كرم الذي يعزى له نهوض الرواية التاريخية في لبنان من خلال انتقام الخيزران (صدرت عام 1953) وصقر قريش (1948) وصرخة الألم (1936). بالإضافة لإصدار مجلة قصصية شهرية بعنوان “ألف ليلة وليلة” وتضم روايات متسلسلة مؤلفة أو مترجمة. ومن رواد الرواية اللبنانية أيضا سعيد تقي الدين (1904) ومارون عبود (1886)صدرت له أتالا ورينة عام 1912.
***كان الشرقاوي شخصية هامة في حكومة عبدالناصر. ومثله كان العجيلي وزيرا للثقافة في سوريا لفترة قصيرة.
هيلاري كيلباتريك Hilary Kilpatrick : مستشرقة ومترجمة. من أهم ترجماتها رواية “رجال تحت الشمس” لغسان كنفاني.