إحسان وفيق السامرائي: المخرج “بهاء الكاظمي” في فيلم الموت شرقاً ركوب العاصفة لتلمس الجحيم

في الفن التشكيلي وخلق اللون تنبيء اللوحة المختارة عن تكوين شكل سينمائي معّبر هو الاساس المعماري للغة السينمائية التي ولدت في صالة الفنون الجميلة.
والسينما علي مقاساتها الجمالية والنقدية افردت عن ذريرات لونية كانت هي البناء الجمالي الذي ساعد ويساعد في تكوين اللغة الخاصة التي يتحدث بها الفنان ويروي للجماهير للشكل التعبيري الاخير.
الا اننا عندما نقف بمواجهة فيلم “الموت شرقا ” نشعر بان الصورة تمكنت من خلق ايحاء توازن قياسي صار هو الباعث والمحرك لما تنبئا به ” دافنشي ” عندما حدد في لوحاته اساس الحركة السينمائية.
وعندما ينفرد “مخرج عراقي” مثل ” بهاء الكاظمي ” في ايجاد اللغة التواصلية يفرض علينا الوقوف والتجرد فلا ندرس الشكل الذي اختلقه انما مضمون الهيكل الجمالي الذي فتح نوافذه لكي تتواصل المهارة البشرية في تكوين ما ابتدا به فهمه.
فالسينما ألة وفن وشكل منظور تمكنت من ايواء ثلاثية الفراغ الزماني والمكاني والمعني في أنتاج مرأة عاكسة هي الذروة التي يفكر في وصفها الانسان.
وفيلم “الموت شرقا ” حمل أكثر من معني عندما جسد التواصل التكويني في تحريك الة الزمن وعرض صورة سينمائية مقاربة انبثقت من تكوين وجود روحي محدد.
فالقصة تمثل ” صحفيا غربيا ” ولد متاثرا بالاشاعات والفبركة الاعلامية الا انه إنسان ” لم يقنعه التفرج فاراد ركوب العاصفة والوصول الي مشاهدات وملامح ذات نهج انساني واجتماعي فدخل الشرق ليتأمل ويكتب عن الواقع الذي مسه التغير وهللت له الابواق الامبريالية وجاء جاهزا بحكم القوي الغازية ليوظف الكفاح الشعبي التي البسته ثوبه الجاهز ليكون سقفا ورقيا يحتوي العقل الاستعماري والوطني.
وقد وقع علي “مدّرس عراقي” تبرع بقيادته وايضاح المعاني الغامضة امامه فكان من الطبيعي ان يسعي الصحفي الي واقع يجّد في البحث عنه لتوليف صوره الدائرة بين محورين.. “الدبلوماسي المعلن والشعبي الواقعي” المتوارث وما بينهما من مفاهيم واعراف! ,
وفي الفيلم كان الذكاء عند الكاتب والمخرج متوازيان , فالصورة اشد بشاعة من خلال تراكمات الماضي وطوفان المفاهيم الوطنية والدينية واساليب تطبيقاتها,التي استغلت من قبل الاطراف المشاركة في الغنيمة عبر مشاهد يومية عم فيها القتل والخطف المسلح والارهاب لتوضع في حفرة المزايدات وموازنة الاحداث والشعارات .
وعبر مسار الفيلم. نجح ” المخرج ” في لمّ الاضواء التي شكلت طبيعة هذا الانعكاس الا انه وجد نفسه بين ممرين: “الصحفي”الذي واجه الاختطاف ووجد نفسه مطروحا علي ارضية طبنية وامراة ريفية تفتقد عنصر اللغة بينها وبين الرجل فتقسره علي ازدراد ملعقة رز.
والمدرس الذي يواجه تركمات البيئة وموروثاتها الذي تعاني زوجته المتحضرة منها وهي مسألة ” العقم ” فتربكه بالبحث عن حلول عجز العلم عن الوصول اليها الا انها تلتقطها من الموروث الشعبي الذي يمثله ” المشعوذون” والذي اعطاها الخيارفي ان تغتسل بدماء قتيل حتي تحل مشكلة عقمها والخيار الدرامي جاهز في شخصية الصحفي الاوربي !
و هي الذروة التي التقطها المخرج والتي يشابه نسيجها المورث الشعبي ” القرد والغيلم ” المأخوذة من ” كليلة ودمنة ”
و تلك العقدتين أداة التحكم في البنائين الدرامي والسينمائي للفيلم ؟
وكان لمخرج الفيلم ان يحدد عمليتة الصعبة بالوصول الي الذروة فكان له ان يوزع مسار البناء عندما احتوي السيناريو و النص والمونيتير و الموسيقي و المصمم وهي خطوة ذات دلالة علي الاختزال من اجل تنفيذ عمل سينمائي متقن كسر حدود الوافعية الميلودرامية التي تواصلت لها السينما عبر سنواتها العاصفة
فقد صاعد “بهاء ” الدراما وفك خيوطها المتشابكة عندما قارن بين ما تريد الامراة وبين ما كان يريد الزوج فاستبدل الدم يماء ابحر فيه كل شي.. الموت والخير والانماء والعدم !
لقد عرف المخرج ما تعني اللقطة الشبيهة بالمقطع الشعري في عكس علامات اللقاء الذي مثّله الوضع العمومي بما فيه من حرائق وفتن ودماء وتعصب وخير وشر , فاذا هو صورة تجريدية نقرا فيها الاصرار علي جرد المشاهد للوصول الي التجسيد دون ان يستعمل المشاهد روافد الظاهرة من ميلودرات وتاويلات تفسيرية وحوار ,
وبهذا المبدأ كسر المخرج طوق السينما الانسانية التي نبئتنا وبقوة بانه فنان يقود مجموعة متجددة مثلما “فيلليني وغودار مثلما قاد فيتوريو دي سيكا سينما الحقيقة.”.
وقد حقق “بهاء” علي طريقة الفنان “يوسف شاهين” واسلوبه في تجميع الصور المختزلة عندما كشط الشكل من شوائبه وجدده ليفتح في الصورة موروثاتها التحررية واختصر السرد التي لم يخرج بها من الكادر المتخيل , بعد ان ابتعد عن السردية واستعمل اسلوب النقد التوجيهي الواقعي في تقديم الشروح والتحليلات التواصلية و حدد المحور المشابه للفنان ” الاثاري”الباحث في اصل الحضارات ليكوّن بخيالة الشكل والمضمون في التحديد والتحليل عندما يكون بواجهة واحدة من” اللقائط” الاثرية المبهمة
وفي واقع مثل واقعنا لم يغادر ” ثيمتة ” الارتدادية و انفك من كوامنه لم يمارس لعبة الصورة الاعلامية عندما نفي عنها حدودها ليكوّن الكادر الخلاق .
فكشف الفيلم عن مدي نهر حفت به اشجار النخيل عندما سلط المصور لقطة اعتراضية insert الي جثة طافية في النهر لاعبها بالالوان فكانت لوحة انطباعية مزجت الشعر بالموت فانعكست صورة العشب والماء حين أنعكست الظلال علي المياه والنخيل والجسد الطافي المجهول..صورة مائية مجددة ,وحينها نسمع الزوج “المدرس ” وهو يسكب قنينة ماء معقمة علي سطح النهر ويعود ليملاءها بماء النهر..
قائلا…أنا ارسل لك أكثر المياة تلوثا ودموية ..
فيستبدل اللقطة الاعتراضية بلقطة distance shot تكشف النهر متعاكسا مع النخيل والبيوت والشمس والحياة !!
ان التجمع اليومي الراهن يحفز المشاهد علي تخيل منظور ما زال يحيا ويعيش في داخلنا ليكون ذريراته التعصبية البدائية ووحشيته ومجهوليته.
فالبراءة والوحئية يخلفان التصاد فيكون الرفض هو محور الصدام بين الساكن والمتحرك.
ان “الموت شرقا ” صيحة تشغل فكر الانسان والمثقف ,نجح المخرج فيها بالخروج من شبكة الصيد بحركة سينمائية لم تات عرضا وانما حلت وافردت مكانتها في ما يشبه التلاشي فكان ظهورها بلا تمهيد , فدلل الفنان علي ان ما يبحث عنه هو اقتناص الصدمة الديناميكية بين الاضداد بادخال الصراع مكرها والصراع ليس في حالة الموضوع الفني بل في الاشكال التقنية الاخري لان الفن كما كان يراه الفنان “ايزنشتاين” امتداد للطبيعة نفسها ,
وعبر الزمن الذي صاغه المخرج لم يستعمل اللقطات الاعتباطية او اللقطات المتوسطة والكبيرة جدا او لقطة الانقضاض zoom shot وانما استمر علي لقطاته المتوسطه وحتي في فترات التوتر التي كان بمكن استغلالها كما ينهج المصورون في استعمال الزوايا المعلقة و المائلة الا ان “بهاء الكاظمي” استمر في انسيابية جميلة وحرة فيلم يكون التقائها مقحما ولم نشعر خلال الفيلم بان المصور استعمل wipe او المسح fade in وهي من ملامح المخرج الذكي
ان قصة الفيلم تتقارب وفهم الروائي ” اندريه مالرو ” في فيلم ” “الوضع البشري ” عندما يواجه البطل استاذه “جيزور ” ليحلل له تبرير القتل الذي تريده الحركات الثورية الا انها تترك المنفذ الثوري لوحدته بعد التنفيذ وهو القرار الاخير.
فالفن براي “ارسطو” يمكن ان يكون سياسة “لو قدرت مكانته.”

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *