إشارة:
ببالغ الاعتزاز والتقدير، تبدأ أسرة موقع الناقد العراقي بنشر فصول كتاب الناقد والموثِّق البارع “ثامر الحاج أمين”: “سيرة وجع عراقي: محطات في التجربة الحياتية والابداعية للشاعر علي الشباني” الذي يتناول جوانب من المسيرة الإبداعية الباهرة والثرة للراحل الكبير “علي الشيباني” وكفاحه الحياتي المرير الذي رسم نهايته المؤلمة. يأتي نشر فصول هذا الكتاب ضمن ملف الموقع عن الراحل علي الشيباني الذي تدعو الأحبة الكتاب والقراء إلى إغنائه بالمقالات والصور والوثائق. تحية للناقد ثامر الحاج أمين.
أسرة موقع الناقد العراقي
مقدمة
علي الشباني
مسيرة لاهثة بالصدق والضوء ومجد الإنسان
ثامر الحاج أمين
من الصعب على النسيان، أن يطوي تجربة شعرية ونضالية وانسانية، مثل التي كانت عليه تجربة الشاعر الراحل “علي الشباني”، ذلك انهـا تجربة مضيئة، حافلة بالعطاء والتضحيات والألم، فمع تباشير فجر الشباب وعنفوانه، وجد “الشباني” نفسه مبهوراً بألق الشعر واشراقة الوعي الوطني اليساري اللذان مهدا له الطريق للانتماء ـــ مبكراً ــ لهذا المشهد الحياتي الشامل:
بچة ابدمي العراق وترس بّي الليل
سكت بّيه الضمير ودنـﮕـت وحشه..
وهظيمة الخيل
وكان انتماءه انتماءاً مبدئيأ، صادقاً، جسدته مسيرته التي جاءت لاهثة بالصدق والضوء ومجد الانسان، وظل مخلصا ً لقناعاته، فلم تتمكن كل وسائل الاغراء النيل من ارادته الصلبة التي ظلت شامخة بكبريائها ولم تنحن الاّ لسلطة القلب:
أموتن من تصل بيّه المذله…
وما أصيحن لا
وطبيعي ان تكتنز تجربته بهذا العناد والشجاعة والمكابرة على الألم، فقد ولدت من رحم المعاناة العراقية، وواجهت ـــ وهي يافعة ـــ ظروفا بالغة القسوة ، كان أبرزها دخوله السجن وهو ابن السابعة عشر وبذلك تكون السجون العراقية قد شهدت أصغر سجين سياسي بين جدرانها في ستينيات القرن الماضي ، ومع هذا لم يهادن جلاديه بل واجه العسف بجلادة المناضل الشجاع، واجتازالامتحان الصعب بكبرياء، محققا نجاحه في الاحتفاظ بكرامته واسرار احلامه ورسالته:
يمه والعباس ماينزع ولد عندﭺ الغيره
يوگف الطاري المراجل بيرغ أبيض
روحه ديره
فـ “الشباني” لم يعش ظلاً للآخرين، بل كان حاضراً وفاعلاً في قلب العاصفة والمواجهة، واستحق عن جدارة المنزلة التي توج بها الشاعر “رسول حمزاتوف” اصحاب التجارب الحقيقية والمشعة بالجمال في قوله:
ايها الزمن، لاتتباه، فنحن لسنا ظلالاً.. تلتمع في نورك
فينا يعيش رجال
تمنحك فضائلهم بريقك
ابطالنا وشعراؤنا، والفلاسفة
ينيرون طريقك
وانت بروعتهم وليس بروعتك
تشع كل ساعة وكل يوم
كان الشباني ـــ باعتقادي ـــ واحداً من الرجال الذين أسهموا في تقديم مايشيع الجمال في فضائي الانسانية والابداع، تمثل ذلك بقيم الايثار والتضحية التي شاعت في شعره وتجربته الحياتية حيث نذر نفسه بمحبة:
احط روحي نهر واكعد جرف للناس
ولكنه للأسف انتهى وحيدا، يائساً، فقد تخلى عنه الصحبة والأحبة ومن نذر” ايام شمسه ” لغرسهم، تركوه يتلظى في جحيم وحدته تتنازعه الهواجس المخيفة والخسارات المتلاحقة، يطلق آهاته خائفاً من المصيرالمرعب، فلا يجد من ينتشله من انحداره السريع الى قاع الامراض ثم الموت:
ياروحي ماظن محب… ساعة الشدة يلوح
بين الهوى والدرب،.. مابيّ خطوه بعد
طولي مهر ينثني،.. مايعرف يطيح
جرحي يصل للكلب،.. بس يستحي يصيح
جم دوب اظل بالدرب… بيرغ حزن مشبوح
بين الهوى والقهر.. بينك وبين الروح
ساعه واكلك تكف… وك روحي غفلة تروح
ويتوقف القلب الذي نبض للحقيقة والحب، بعد طول معاناة مريرة مع الوحدة ومن ثم المرض وبعد حياة زاخرة بالمواقف الانسانية والعطاء الابداعي، حياة انصف فيها مع الآخرين، لكنه للأسف لم ينصف نفسه.
الفصل الأول
تجربته في كتابة المقالة الأدبية والصحفية*
* لم تقتصر التجربة الاٍبداعية لـ “الشباني” على كتابة الشعر بشقيه العامي والفصيح فحسب، انما تعدت الى كتابته المقالة الأدبية والصحفية. نورد في هذا الفصل نماذج من كتاباته في هذا الحقل.
الشعبية.. أداة شعرية رائعة
اللهجة الشعبية بسبب واقعها النفسي وارتباطها بقطاعات معينة ذات مستوى ثقافي معين ولبعدها من ان تكون لغة ثقافية غير قادرة على تقديم نتاجات أدبية وشعرية ذات مستوى عال. ان عدد اللهجات الشعبية الموجودة في الوطن العربي تعد بالعشرات والتمسك بهذه اللهجات سيؤدي بالتأكيد الى انفصام كامل في الثقافة العربية الموحدة ويؤدي الى مزيد من التمزق في صفوف الامة. صحيح ان اللغة العربية الفصحى لغة غير محكية الاّ ان لهجة المثقفين العرب بصورة عامة قريبة جدا من اللغة الفصحى ولذلك فاننا نعتقد ان تطور اللغة الفصحى من جهة وارتفاع مستوى لهجة المثقفين من جهة اخرى خلال السنوات العشرين او الثلاثين القادمة سيؤدي الى مزيد من الاقتراب نحو اللغة الموحدة التي تكتب وتحكي.
على الرغم من ان الفارق بين اللهجة المحكية واللغة العربية الفصحى كبير في نظرنا الاّ ان هذا الفارق ولكن بصورة أخف موجود حتى في اللغات الأخرى وأرى ان لهجة لوركا التي نتحدث عنها ليست لهجة عامية عادية. ان لغته تجمع بين البساطة الشعبية واللغة الأدبية العالية. وفي رأيي ان الشعراء العرب الجدد الذين يكتبون الشعر الحر قد ساهموا بصورة فعالة في اسقاط لغة الأبراج المحنطة التي تعتبر اليوم بعيدة حتى عن اللغة العربية الفصحى المستعملة. ان ارتفاع المستويات الثقافية للجماهير العربية وبالتالي ارتفاع مستوى اللهجات المحكية وتخلص العربية الفصحى من الخلفية النفسية وبالتأكيد الى ظهور اللغة الموحدة ومع ذلك فأننا في انتظار مايكتبه القراء حول هذا الموضوع.
تزهر العلاقة بين الشاعر وارادته الشعرية –اللغة- بالقدر الذي يمتلك ذلك الحس الخاص باللغة واسرارها.. واستخدامه السحري للمفردة، تلك الشارة الغاضبة بوجه مختلف الضغوط.. واللصيقة ابدا بهذا الانسان الوحيد الذي يمنحها طاقة التوهج، والكشف.. وهي التي تأتيه طبعة في دنيا يجد نفسه ازاءها بلا اسلحة.. اللغة اذن وبالنسبة للشاعر خاصة، مسألة تأتي خطورتها.. وثوريتها من طاقتها الهائلة لامتلاك الاشياء وتنسيقها مجدداً.. بفعل الشاعر واللهجة نهر صغير منفعل، خرج من منبعه الكبير، واتجه صوب الناس مثقلا بكل مايأتي به دربه الجديد.. وهذه (اللهجة)، والذي يبدو الريف متهما دوما باتيانها، رغم ممارساتنا اليومية لها، نحن ابناء المدن، مع اضافاتنا الاخرى والتي هي كذلك ليست -قاموسية- محضة بالقدر الذي تشكلت به لضروراتنا الحياتية المختلفة. اللهجة أقوى، وليست (اللغة) هي بالامكان استخدامها فنيا. لاستشراف افق الانسان، والذهاب معه حيث يحزن، ويموت، ويبكي ويسقط، وقد يكون فرحا.
لو تجردنا قليلا، ووضعنا المسألة الوحيدة الجديرة بالنقاش، الفت.. والشعر جزء منه وعلمنا ان الانسان في لحظة خوفه البدائي واجه العالم بقبضة من الطين، او برموز جدارية مرتعشة، كان فنا هذا الذي نحس خلوده اليوم.. ونعيش اسقاطا زمنيا مرعبا ازاءه، ونمتليء نحن بخوف انسانه الأول، وكان ذلك الانسان بعيدا عن صياغة التبريرات، وايجاد مرتكزات معينة لدعمه، سوى الحس ومن ثم المواجهة.. ولو اقتربنا قليلا لكانت الملاحم والاساطير شموخا حضارية اخر، واسئلة كبيرة للانسان نصف العاري والذي بدأ لقتل ويبني ويمارس لعبا طفوليا ازاء العالم.. الخلود.. الجنس.. كتب كل ذلك بلغة لم تناقش صلاحيتها مسبقا.
وتراثنا العربي، رغم شحة شوامخه دليل آخر لحرية الفنان -الشاعر في الممارسة الفنية، والتي تغدو قوانين بالتالي على ايدي المؤرخين –الثقاة- وكلاسيكي الأدب. والعالم الأوربي الان او قبل فترة ليست بالطويلة، يمتلك الشواهد العديدة للدلالة على عبقرية وأصالة عدد من شعرائه، كتبوا بلغة انسانهم وبحرية تامة شعرا خالدا. ولوركا احدهم.. ان لم أوكد وجود الظاهرة الان في معظم العواصم الأدبية الأوربية وليست ببعيدة السنين التي سمعنا بها بالشاعر الشعبي السوفياتي، الذي كتب شعرا جديدا ومعاصرا وبلغة التداول اليومي هناك.. وتحضرني دراسة -مكليش- الناقد والشاعر الامريكي -التجربة والشعر- والذي يتحدث فيها باعجاب وعمق عن قصيدة صينية قديمة -قبل الميلاد 4000 سنة- كتبها شاعر صيني مجهول وبلغة -شعبية- ويكتشف هنا الناقد الفذ بعد القصيدة الزمني، وهاجسها الكوني ويتحدث من خلالها عن سحر القصيدة وطاقتها الرائعة للذهاب بالانسان عبر العصور، ويؤكد امتلاك القصيدة اي قصيدة جيدة لقانونها الخاص واسقاطها لكل شروط وقوانين وترخيصات موضوعة ومشكلتنا هي، هل بالامكان الكتابة – بالشعبية- عن الانسان ومختلف تجاربه الاجتماعية…. والحضارية..؟ وقبلها هل للشاعر الذي يكتب القصيدة الشعبية مبررات معينة لاستخدام هذه الأداة الفنية؟
اللهجة الشعبية عندنا، ونتيجة لاستعمالها اليومي الواسع دخلت اعماق الناس وحملت كل هذياناتهم، وابعادهم النفسية واتسعت لتشكل ظاهرة شاملة، ليست للتفاهم اليومي والعابر فقط، وانما لمختلف الممارسات الانسانية، فواحدنا عندما يغضب، او يغازل امرأة ما.. او على الأخص عندما يظل مع نفسه يتكلم، لاأظنه يحكي كما في الكتب المنسقة ولايصمت لتتأكد من صحة تركيب الجملة، واعرابها.. اننا ونحن صادقون نتكلم هكذا، ان ذلك انفصام نعانيه وننهمك به يوميا، وينعكس في مختلف الفنون الأدبية، فالقاص الذي يكتب بالفصحى قصته لايتورع من ان يتكلم بطله غير المثقف بلهجة يومية، والمسرحي كذلك.. وحتى في القصيدة الفصيحة نفسها، يأتي الشعر الشعبي احيانا وفي داخل القصيدة ليمنحها شيئا تحتاجه، وانا لاأعتبر ذلك مرضا في جسد البناء الفني، كما يترأى للبعض ان يسموه، انهم يعيشون ازدواجا اخر، فالذي يتمرد ويعلن رافضه لمختلف التقاليد المنهكة، والشروط المقيدة للفنان، يقف من هذه المسألة تقليديا وان لم تمسه (الغيرة) من أجل لغته الأم، فهو بالتالي حذر ومتردد في مسألة حيوية تمس حياتنا الأدبية. وذلك ايضا، لايعني القصور للفصحى، وضيق ميدانها. ابدا… ولايعني استخدام (اللهجة) في مختلف الفنون الأدبية عيبا، وخطرا على مستقبل اللغة، ان لكل ميدانه.. وكل الأدوات تشترك في عطاءاتنا الأدبية والفنية.. والذي يبدأ حرا في تناولاته، مادام مع الانسان. ويمتلك ذلك الشيء النادر والذي اسمه الابداع.. اذت فلماذا لانكتب عن الانسان الذي نحسه والذي نعتقد ان اداة شعرية كالتي نكتب بها هي الأبعد غورا في كنفه، وتناول تجاربه، والتي هي بالاساس تجاربنا..مع ملاحظة ان القصيدة الشعبية الجديدة. ومنذ ان بدأ مظفر النواب صوتا جديدا وحتى الان كتبت، قصائد كثيرة عن الريف وتجاربه، لم تكتب لهذا الانسان الذي يسكن هناك، لان شاعرا مثقفا لايستطيع ان يساوم على حساب قيمه الفنية من من اجل واقع متخلف بالاساس.. ولايكون الريف سوى مادته الشعرية، اما العطاء فللفن وللانسان هنا.. وللمستقبل.
وكما تزدهر الفصحى في مختلف الفنون الأدبية مرتكزة على ذخيرة قاموسية ضخمة وتراث لغوي وأدبي كبير، مع معرفتنا جميعا، ان لغة طرفة بن العبد، هي ليست اللغة التي يكتب بها أدونيس.. فاللغة دائما انتقاء وتوالد العبقرية الشعرية هي وحدها القانون اللغوي المتواثب والديناميكي. وقصيدتنا الشعبية.. تمتلك تراثا قصير الامتداد في التاريخ وشحيح النوعية، ولكنها بالتالي تلتصق بالانسان الذي يحزن ويبتهج ويعشق بحسية هائلة، وثراء روحي خصب، اما الجودة والشعر النقي.. ومعاصرة القصيدة الشعبية.. وازدهارها فمرتبطة بما يطرحه الشاعر الشعبي… والدراسة الحقيقية المتجردة من الانانيات والنفعية هي التي تسطع برقا، وتفتح بابا اخضر للريح، وما النواب والجيل الآخر من الشعراء الشعبيين الشباب الاّ ظاهرة فنية بحاجة الى رأي انضج ورعاية جديدة كما يحدث الان في القاهرة للأبنودي وسيد حجاب وصلاح جاهين… وغيرهم.. وفي اقطار عربية اخرى.
ــــــــــــــــــ
مجلة الف باء العدد 79 السنة الثانية 31 كانون الثاني 1970.
ماذا فعلنا، للقصيدة الشعبية الحديثة؟
اغدو تقليديا، لو ناقشت منذ البداية، مسألة اللغة، واللهجة.. ولماذا الشعر الشعبي؟ ولكنني اعتقد اننا هنا، وخاصة الأوساط المتنفذة في مجال الأدب مازالت تعاني حسا ارستقراطيا ازاء اللغة، والتراث، وواقع الحركة الادبية.
ان روحا من القسر والتعالي وسوء الفهم.. تحاصر بعضهم، لدرجة بات من غير المجدي حتى الكتابة عن شيء ما… فلا عجب ان ينبري احدهم وبين الفترة والاخرى ليعلن خوفه من ظاهرة أدبية معينة، وكان حركة الحياة، وحتى الناس من الغباء لدرجة بات على اصحاب – القضية – انفسهم ان يوقظوا حسا، او يوقفوا تيارا نما خطأ.. فكم سمعنا عن لاشرعية الشعر الشعبي والرعب الغير مبرر من تنامي وازدهار هذا النوع الأدبي الرائع.
الشعبية – ظاهرة غير مخيفة، ففي كل لغات العالم يصنع ضمير الناس مفردات اخرى، حسية وذات عمق خاص، يمارسه الناس، كثير من الناس في حياتهم اليومية، وعندما يبزغ من اعماقهم شاعر ما.. يكتب بلغتهم،فان ذلك اكثر شرعية وعمقا وشمولية، من اكثر كتاب اللغة القاموسية، والعواطف المفتعلة، وقصائد الترف.. ولو نظرنا للأدب العالمي، فلا يدهشنا ان نجد كبار الشعراء، كتبوا بلغة الناس شعرا رائعا.. وحتى الملاحم التاريخية، ولكن الذي يذهلني حقا، ان نجد احد النقاد العالميين، يخصص في كتابه عن الشعر دراسة مفصلة لقصيدة شعبية صغيرة لشاعر صيني قديم، كتبت منذ الاف السنين، وبلغة بسيطة، ويكشف – هذا الناقد – وبعبقرية البعد الكوني وأزلية الحس الشعري فيها… هي حين يجهر أدباؤنا هنا، بالعداء او التجاهل للشعر، لا أقول فيه مدحا ولكنه لازال، رغم عطاءاته المميزة.. ماذا يدل ذلك؟.. والذي يقع فيه بعضهم، عندما نتحدث هكذا، انه يعتبرك منذ البداية تعقد مقارنة وكأننا من السفسطة، حتى بتنا لانمل الحديث عن العامية والفصحى، وو.. الخ.
انني مع الشعر الجيد بأي لغة كتب، وبأي لهجة، ويظل دائما شعرا، فأن اللغة لم تكن في يوم ما موضع نقاش، وحتى اللهجة.. فان الشكل واللغة جزء منه، لايتألق بدون حس، ومضمون جيد، ولو ان ذلك يخص اساسا اداة الشاعر نفسه ومدى استيعابه وفهمه لمسألة اللغة وأبعادها ودرجة حسه وشاعريته. ان شاعرا كالمتنبي، ولبيد، وحتى شعراء القرى والقبائل القدماء كالهذليين مازالوا ينبضون في دمائنا.. واليوم لانملك لشعر السياب، وسعدي يوسف وأدونيس الا ان نرتعش حسا.. ولكننا ازاء شاعر اخر لايختلف عطاءا، عن هؤلاء، نحن مع شاعر يصعق الحياة في اعماقنا، بلغته الحسية المفعمة بعمق التراب، والحناء.. ومؤنقة بالاضواء والحزن.. فكما اخذوا بيد هذا الشاعر في بلدان عربية عديدة، نحن مطالبون هنا بالالتفات رسميا، ودعم هذا الرجل الشاعر، انصافا على الاقل.. فالابنودي، وقاعود، وسيد حجاب وغيرهم في القاهرة هم الان مع جمهرة الادباء المصريين يكتبون بهكذا لغة، عن الانسان، طموحه، احزانه، ومعاركه… وتطبع مجاميعهم على نفقة الحكومة، وتفتح وسائل النشر والاعلام ابوابها لهم، وبعناية جيدة، وفي لبنان وفي سوريا نفس الظاهرة كذلك.. ولكننا هنا مازلنا نطرد القصيدة الشعبية من على صفحات مجلاتنا، وصحفنا الشحيحة وان شئنا فالصفحة التي تعطى لمن يحررها بجدارة، ولامبالاة ظاهرة على الرغم من ان شعرنا الشعبي العراقي الجديد، واقولها بفخر عراقي جدا، أروع بكثير مما يكتب هناك، مع العلم ان وزارة الثقافة والاعلام عندنا لم تطبع للان وأظنها لم تفكر بطبع دواوين الشعراء الشعبيين الشباب، والتي اكلها التراب.. وثمة شيء يحزن حقا، فان الهيئات العديدة المؤلفة لمؤتمر الادباء العرب لاتضم في عضويتها الا شاعرا شعبيا واحد، انني هنا وبهذا الاختصار لاامنح مجدا لكل الشعر الشعبي فان كثيره مليء بالاسفاف، والتخلف، ولكنني ادعوكم لشعر جديد، يحمل كل الاهتزازات التجديدية والحضارية لحركة الشعر عامة، ولشاعر مثقف لاتزعج اسماعكم رطانته الريفية وسذاجته.. ان شعرنا الشعبي الحديث وشعرائه الشباب هم أولى بالعناية والدعم.. فمن اجل ذلك اقول.
1. وكخطوة سريعة من اجل ادخال قصيدتنا الشعبية المتطورة في المحافل الأدبية وازدهارها، وذلك باشراك الشاعر الشعبي في ندوة مؤتمر الادباء المنعقد قريباً.
2. تخصيص صفحات جدية، في بعض مجلاتنا وصحفنا والتي تشرف عليها مؤسسة الصحافة واعطاء تحريرها لشعراء شعبيين جدد.
3. يقع على عاتق وزارة الثقافة والاعلام، جزء من المسؤولية، وانا ادعو بالأخص السيد الوزير، وذلك لاهتمامه الجدي في قضايا الأدب، ليبادر سيادته ويضيء هذا الجانب الرائع من شعرنا العراقي. وذلك بطبع بعض الدواوين الشعبية والتي تحمل عطاءها الجيد وكم يكون رائعا لو خصصت الوزارة احدى مجلاتها للاهتمام بهذا الفن الشعري..
4. وعلى نطاق الاذاعة، فكم يكون مفرحا تخصيص البرامج الهادفة وذات النهج الشعري الحديث.
ـــــــــــــ
-جريدة النور 1969.
شعر الطفل…. طفولة الشعر
يبدأ وعي الطفل الداخل توا للعالم الخارجي بالنمو مع اتساع مداركه ومعرفته بالاشياء عبر منافذ عدة، اهمها الاصابع والفم وذلك على ايقاع لفظي أولي يتناغم ويمتزج بالنطق المتفاعل مع الفضاء الطفلي والمتساوق وحركة الاشياء وضرورات التواصل النفعي العفوي الفائض يمسكه ويضع بصمته عليه التفاعل الديناميكي المتبادل بين الذات الطفلية ” الواعية ” بمستلزماتها المبكرة وبين العلم المفتوح باحتمالات التماحك والقبول. يرصد ويؤثث هذا المشهد الايقاع الامومي الاول المحشود بطاقة الحلم. والغياب اللذيذ لذائقة حسية مطلقة ومفتوحة لفعل الكلمات.. والموسيقى المجردة والحالمة، وعندما تكتمل اغنية الام “الحزينة غالبا ” والمستلهمة لوعي الطفل الابيض، تبدأ دراما المشاركة الغريبة والتفاعل الثنائي الكوني بين صوت وكلمات وشجن الام الخاص. وغرق الطفولة المبكر بترديدات النغم الأمومي العذب. ثمة انتقائية خطيرة في المشروع الأمومي الغنائي المسلط على حسيات الطفل الاولى، ذلك يتأتى من اسقاطات الواقع الاجتماعي المباشر وحضور الذاكرة الجمعية الممتدة عميقا في التاريخ الانساني وتجارب الزمن المتنوعة مع المرأة، عبر مراحل وضعها التاريخي وسياقات الواقع المادي والتجربة التارسيخية المعاشة، ونحن اذ نستقبل المتغيرات الشاملة في الارض العراقية وانسانها الجديد ونطمح بجدارة لتغيير الكثير من المواضعات السالفة ووضع التأسيسات الجديدة لا بد لنا من اتخاذ الكثير من سبل الدراية والمعاينة الثقافية والحضارية المتداولة عالميا، للبدء بمشروعنا الكبير في الغناء الطفلي الزاهر ضمن مديات عمرية مدروسة ومحددة وعند الشروع في تأسيس اغنية جديدة للطفل العراقي، اكرر ” العراقي ” كونه من بين الكثير من اطفال العالم يتمتع بوضع خاص تماما، ذلك ان التربية الايدلوجية الشمولية المقيتة والمكرسة في نظام الدكتاتورية الهابط وكل السبل والمفاهيم الموضوعة لتشويه الواعية الطفلية ومسارها المستقبلي الملوث باتجاه بناء روح العسكرتاريا الفريدة في بلد الحضارات والسلام “وادي الرافدين” والذي اود ان أوكده من ملاحظات مهمة عند المباشرة بهكذا بداية، مع احترامي الكبير لاساتذتنا المجربين من خارج السرب الدكتاتوري الملوث ولي في كتاب الاستاذ الجليل “حسين قدوري” أغاني الاطفال الفلكلوري الشهير الريادة الميدانية الرائعة والتأسيس الحقيقي والفعلي لمن يود الدخول لهذه المهمة الكبيرة في ارساء معالم والسير بعد ذلك في اسماع الطفل العراقي لغناءه الجديد وفتح الباب الاخضر لخياله الخصب. وقبل ان ادعوا المعنيين بالامر لمناقشة واغناء هذا الموضوع بجدية ومسؤولية كبيرة ارى مايلي:
*للأغنية الطفلية جسد لغوي بريء وملون يلامس حسيات اللعب الطفولي بالحياة وفضاء المدركات الطفلية بلا اي افتعال لشعر يفترض فيه ” الرؤية الطفلية للعالم “.
*للشعر الطفلي علاقات لغوية خاصة وايقاعات داخل اللغة والمدرك الحسي، لايمكن لها ان تكون غيرها، تتناسب وحرية الطفل أزاء التعامل مع الاشياء المتداولة ضمن حدود جسد الغارق بالترديد والحركة العشوائية التي تبحث عن نظام خاص والفم المفتوح لأصابع هائمة ووعي ينفذ في المحيط دون مدركات مسبقة.
*يمكن استدعاء وتنشيط ومفاعلة مخيلة الطفل البيضاء بالشعر الواقع والحسي والمتجاوز للكثير من بناءات اللغة الرسمية الصارمة.. للطفل مخيلة تتعب بالمعانى والتوصلات الخارقة والتجريدية وايقاعات الحياة المعاشة للكبار والامهات المتعبات.. ذلك ان الذائقة الطفلية مسورة تماما بالجلد الشفاف.. والحواس البكر.. والأصابع المشرفة على البناء الحلمي والفم الذي يسمع ويرى ويتذوق كل شيء.
*لايعرف الأطفال طعم الحزن وقسوته، يتعاملون مع العالم بانفعال غنائي عذب.. الطفل مشروع للفرح الانساني الجميل، من هذا الباب لابد من دخول لغة الفرح المتناغم مع واقع لابد ان يكون وعاءا لبهجة الحياة الحقيقية.
*لابد كما أرى من عزل الطفل عن الموروث الغنائي الأمومي التقليدي المشحون بالعذاب والغارق بدموع وموسيقى الامهات المتعبات، دون اغفال المتحقق فنيا وابداعيا منه لأغراض انتقائية لاستلهام المفيد منه.
*ثمة علاقة غنائية مائية أكيدة بين الطفل واللعبة، ان نزوع الطفل الساخن نحو اللعب، وعلاقته من خلال ذلك بالعالم تتوضح من خلال نوع اللعبة” التاريخية المفضلة لبناء مخيلة طفل عراقي يفتح باب العالم توا باتجاه أفق لحضارة الأطفال السعداء “علاقة الطفل تدرس باهتمام خاص من هذا الباب ” اللعبة” وتراقب ميدانيا رياض الاطفال المدارس الابتدائية ساحات وحدائق اللعب العامة.. التربيون.. الخ للطفل العراقي صلة بالطين غير عادية، حتى القاتل “صدام حسين” حاول وجهد في هذا الميدان ليضع البندقية الكريهة على كتف الطفل عبر مؤسسات مدنسة عديدة، لكن ابننا العزيز كان يرمي الحديد ويتجه الى الطين الرافديني المقدس ليصنع منه لعبا جميلة وبريئة.
*لاتتسع مدركات الطفل لاستيعاب تجريدات الشعر اليابسة ومعانيه المغلقة حتى ولو كانت ذات منحى وطني وحسن النية. ان كتابة قصيدة ذات مناخ طفلي وبناءات مصيوغة لأغراض فنية خالصة تختلف عن مشروعنا في انشاء وتقديم أغنية للطفل العراقي الناهض.
*لابد لنا ان نعلم جيدا ان التنغيم الايقاعي المبتكر بفنية عالية وفهم متميز كفيل بانبعاث روح اللعب والغناء وفضاءات المخيلة النشطة في مواحهة الأرض وأشيائها واكتشاف المسافة الطفلية الحاشدة بالاهتمامات وانشغالات الانسان المولود على أرض صعبة، كما وانني أرى ان للطفل “عقلا” خاصا متفتحا وقابلا للتداول الايحائي والفني والنفاذ الضوئي عبر المحيط الغامض، كما واني لا أدعولاٍهمال البرمجة والٍاعداد، ليس باسقاطات الكبار المهلكة انما باتجاه المعرفة الأقرب للشفافية منه الى جفاف المحاولة لتأكيد قيم العمل والحب والوطن والحرية.. والعائلة وكل المثابات الرائعة لبناء الصبية الجدد. واعود لمحاولة الاستاذ الفنان “حسين قدوري” وغيرها لنتعرف على غناء الابناء العراقيين قبل أن تشوههم ماكنة الفاشية الموحشة، عندما كان الغناء الصغير ينشأ ويترعرع في البيت والملعب العراقي البسيط والعميق كذلك.
واخيرا اتمنى لوزارة الثقافة الوطنية الجديدة الاٍهتمام الجدي لهذا المشروع الهام وتشكيل لجنة مختصة، عبر دار ثقافة الطفل لأغراض الدراسة والتأسيس.
ـــــــــــــ
-الصباح الجديد 2004.