عبدعلي حسن: مابعد (المطبوع)

لا يخفى على أحد التحول الحاصل في وسائط الإتصال بين البشر ، فقد بدأت شفاهية ثم كتابية ثم طباعية ثم رقمية وهذه الأخيرة امتلكت قدرة الهيمنة على وسائط الإتصال الأخرى القبلية ، إلّا أنها لم تلغها ، إذ لايزال الإنسان يتواصل شفاهياً وكتابياً وطباعياً مع الٱخر ، وهذا الوسيط الجديد الرقمي الذي سأسميه (مابعد المطبوع ) قد أجرى تحولاً في الوسائل ، فغدت الصورة هي الوسيلة التي تتجاوز الإختلاف اللغوي بين الشعوب ، وصارت المعلومة والإشهار يتم عبرها ، وبذا فقد وسم هذا الوسيط المرئ كلّ أنشطة الإنسان ، حتى صار اسم عصر المعلومات سمة تنتمي إليها كل شعوب الأرض ، ولايمكن إدارة الظهر إلى ماتحققه هذه الواسطة التي تميزت بميزتين أساسيتين ، الأولى تقصير المسافة بين البشر زمانياً ومكانياً حتى تحوّل العالم إلى بيت صغير وليس قرية صغيرة كما أطلق عليها في بداية ظهورها كوسيط اتصالي ، والثانية هي مقدار حرية التعبير الذي توفره ، وبذلك فقد تقوّضت سلطة المؤسسة الرقابية ، إذ أصبحت هذه الشبكة متاحة للجميع ، ومثلما كان الإختلاف في مستوى ماتبثه الوسائط الأخرى من رسائل بين البشر غثه وسمينه ، فإن الرسائل ايا كان جنسها ونوعها _ التي يبثها الوسيط الرقمي هو الٱخر يخضع لمعيارية الجودة والرداءة ، تبعا لمستوى وعي وإدراك ومعرفية الباث ، وكذلك الشعور بالمسؤولية الفردية والجمعية في تبني الرسائل المجدية التي تسهم في اضطراد المعرفة والقيم الجمالية ، إلّا أن لهذا الوسيط مهمات أخرى مسكوت عنها وضعتها موجهات العولمة التي ظهرت في أوائل التسعينات من القرن الماضي ، وهي تنويع وتقوية هذه الوسائط المرئية باتجاه إشاعة النمط الثقافي الأمريكي تحديدا ، اي تعميم القيم النفسية والسلوكية والعقائدية الأمريكية على الأذواق والسلوكيات والأعراف التي تشكل ، فضلاً عن الأديان والعقائد ، بالمنظومة المتكاملة للخصوصية الحضارية لباقي شعوب في العالم ، وهذا لايعني أن الدول الأوربية الأخرى التي تمر بمرحلة الرأسمالية المتأخرة متكاسلة أو متقاعسة عن تصدير انماطها الثقافية ، وانما لم تتمكن من مجاراة قوة الوسائل الأمريكية في إشاعة برامجها الرقمية وتنويعها ، وهي _ الدول الاوربية تعاني أيضا من التنميط الثقافي الذي تصدره أمريكا ، وتحاول المحافظة على هويتها القومية والاجتماعية للوقوف بوجه اتساع التنميط الثقافي الأمريكي ، وبذات الاتجاه فإن الدول والمجتمعات من خارج منظومة الحداثة الغربية ومنها المجتمع العربي وأغلبية المجتمعات التي كانت تسمى بدول العالم الثالث ، قد وجدت نفسها إزاء هذا (الاحتلال ) المعلوماتي والصوري عاجزة عن وقف اجراءات التنميط الثقافي هذا ، الأمر الذي يجعل الهوية الوطنية لهذه المجتمعات مهددة بالتحول إلى هوية استهلاكية بحكم اتصال اقتصادياتها بدول العولمة التي تصدر انماطها الثقافية لتحقيق الهيمنة ، وبذا فقد ظهرت دعوات الحفاظ على الهوية الوطنية و بذات القدر ظهرت دعوات ضرورة إدخال عناصر التحديث المعاصر إلى مجمل أنشطة المجتمع ، وازياء هذا الصراع الداخلي والخارجي على حد سواء فإن المجتمعات التي تعاني من التنميط الثقافي وبغية الحفاظ على هويتها من جهة والاستفادة من المعطيات الجديدة الوسائط الاتصال الجديدة ليس أمامها لتحقيق هذا التوازن سوى الاهتمام بمفصلين مهمّين في هذه المواجهة ، وهما العائلة والمدرسة وتحويل دفّة هذا التطور لاستثمار المعالجات الوسائلية لتنمية وتقوية روح المواطنة والحفاظ على هذه الهوية المعبرة عن شخصية الفرد والجماعة وتنقيتها من عوامل الضعف عبر إعادة قراءة مكونات الشخصية وتخليق فواعل إمكانية المواجهة الهوياتية ، باتجاه تحديث الخطابات الدينية والاجتماعية والسياسية ، وبذلك ستضمن هذه المجتمعات التي سقطت في براثن العولمة _ رضيت بذلك أم لم ترضَ _ تحقيق معادلة التوازن ، متجنبة بذلك موقفين ، الاول هو الإذعان كليا لإجراءات هذا التنميط الثقافي وفيه ستتعرض الهوية الوطنية إلى الضياع ، والثاني هو الوقوف بوجه العولمة عبر الإنغلاق السياسي والاقتصادي والإحساس المستديم لسكونية وقدسية الخطاب المؤسس الساكن ، وفي هذا الموقف الحكم على المجتمع بالتخلف المستديم الذي لا يوفر مساحة كافية للمساهمة والتشارك في صنع الحضارة الإنسانية الشاملة ، وفي الوقت الذي لم تستطع مجتمعات العولمة التوقف عن استكمال مهمات الرأسمالية المتأخرة ، فإن امام مجتمعات خارج جغرافية الحداثة فرصةً لإعادة قراءة وإنتاج خطاباتها وعلى كافة المستويات

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *