عدنان أبو اندلس: للقصيدة ظل آخر.. رعشة في كوامن النفس

ان الرعشة الاولى في بداية أي عمل هي العفوية والفطرة التي تكون لحظة الحدس، اشبه بالحب الاول أو عطاس في مستهل الشتاء، ولقد فاجئنا الشاعر (يونس علي الحمداني) في ثاني مجاميعه الشعرية المنشورة (للقصيد ظل آخر) الصادرة عن دار أوستن ماوكلي/ 2020 والتي احتوت على نصوصا تنوعت في مواضيعها لكن الظل الصوفي يغمرها جميعا، والتي خزن فيها كوامن وخلجات النفس كالزهد والتصوف والفلسفة وراح يبصر بعين ناسك ويظل كذلك مهما تعاقبت السنون منزويا ـ كذكرى طيبة ـ في ركن قصي للنفس ما تزال حرارتها تسري فيه ويحس بدفقها. حاول جاهدا أن يجسد اتصالاته الهادرة وأن يحيل الحرف الى كائن يحتضن قلبه لعله يحس بما يعاني من حرقة اللوعة ووقدة العاطفة التي يحيلها أحيانا الى دفقة تأمل فلسفي نابع من الاعماق التي لا ترتكن الى الثبات والانغلاق:
سواحٌ لستُ بسائح
أتبصرُ شارد اللبِ ليس مخبول
أثبُ وثبة الذئبِ حين
يُجاري البراري والفصول
لستُ فيلسوفا بل أروض ذهني
وكذلك الخيالة بالخيول
والخيل تسطو سطوتها
ان كان على متنها أبناءُ الاصول

تحيلنا المجموعة الشعرية(للقصيدة ظل آخر) الى نظرة بعيدة تتجاوز الافق المنظور ف ـ الظل المتخيل بلغة آخري جانبية، ربما صوتا، والاخر قد يكون المقاربة على تلك الشاكلة من التأويل، وعلى هذا الاساس بنى رؤاه باندفاع حواري ومصاحبة صوفية ترصعت بعض من نصوصه. نراه استهل دفقة قصائده بحوارية ومساجلة بينه ك ـ شاعر منفتح على الحياة وبين كاهن مغلق عليها… هذا السجال الساخن اعتدنا عليه موروثا مستديما ـ أي تناقض دائم بين الشاعر ورجل الدين على طول المدى ـ ربما اللحظة أو في الزمن الغابر شكلت رؤاه ادوارا مسرحية من متخاطبين ـ متخاصمين ـ ثنائية جدلية بينهما ولنقتطف ثنائية من قصيدة (الكاهن والشاعر) أولى قصائد المجموعة:
الشاعر:
نعم.. اغفر ليّ فأنا مسكين
مثلما الكبرياءُ في العرينْ
الكاهن:
المسكينُ عِندنا مَن ليس له أهل
مَن ليس له مالٌ وعشيرٌ وولد ..
هنا الشاعر متفائل
والكاهن متشائم
ـ الشاعرُ يُجذب للحياة وينجذب لها بوصفها لحظة دائمة وجميلة، والكاهن يحذر منها ويتنكر لها ويحسبها عابرة وقبيحة، أراها أي الحوارية أشبه بمطاردة فكرية راسخة عمقا. من هنا نستشف من أن الشاعر رصد الفكرة وخمرها فكانت كما يريد لها أن تكون، فكانت المجموعة التي بين أيدينا.
أن الدفقة الاولى، لحظة نقاء وصدق لأنها تأتي دوما دون مقدمات وبعفوية صادقة غير مرتب لها وتسمى بالرعشة التي تحفها هالة من التقديس والضياء حيث يقول في قصيدة محراب:
في حضرة من أهوى
استحال الشوقُ الى وجه
الى عينين نابضتين
الى روح في القدمين
تعبث بأقدار أرادتين
ان الادباء يبدؤون قصائدهم أو موضوعاتهم عفو الخاطر بحيث تتلاءم جملهم الاستهلالية مع نوازع خفية لعملية التلقي والادراك والتعبير، ويلاحظ استهلال الشاعر كان موفقا في هذه القصيدة ( في حضر من أهوى). وان عنوان القصيدة هي بداية رحلة التصوف والزهد. وتبدو قصيدة (رابعة العدوية) مكملة لاستهلاله ومزاوجته مع قصيدة (محراب) في تتبع ماء الزهد في كل مظهر ومكان:
الشياطينُ هم مَن يغروني عندما يضربون
الارضَ بأرجلٍ من حديد ليخرجوا ماء
الزهدِ من قلبِ الحياةِ لما ينثرون غُبار
أقدامِهم فوق رؤوس المقيمين على حال
ولقد تدرج على سلم التصوف حتى أدرك( الزهد) كما جاء في نصه:
صمتُ الحياة مُر
وكنوزٌ لا ترى الا بالظل
لا تنبتُ شموسا
والبدر بدر
وما بين بين
يسكر المرءُ بلا خمرٍ ودن
أن في الزهد لصمت يحاكي النفس كالحوار الداخلي (حوار النفس) أي أن صفاء الذهن قد يتحقق باعتزال الناس والانصراف عن الشهوات المادية والتأمل الطويل والاستقراء في التفكير حتى يخوض في ظاهرة التجلي ـ تولج عن نور يشع في القلب فذلك يغني عن الظلام الماثل أمام العين ـ فترى المرء يسكر دون خمر أو ما شابه ذلك.
وان للقمر منزلة رفيعة في حياة الزهاد والنساك حيث لتجليه خاطبوه بأشف المسميات، وشاعرنا (كالحلاج) يخاطب حينما يحدق مليا ب (القمر) يا رفيقي حيثما يتعالى في السماء بدرا ويضيء العتمة الروحية، أنه يبصره كجوهر تأنس السماء به وتشد اليه الانفس وتشتاق اليه الابصار، يقول الشاعر مخاطبا اياه في مقطوعة القمر:
أيها القمرُ
حين ترى صورتك البهية في الماء
مثلما يرى الماءُ صورته فيك
وكم تقلبت لوعة في صفحته
أم أمواجه هامت في سواقيك
ان عالم الزهاد يتير العجب بحنانهم والمستغرق بالحب من غير وعي مخمور بنشوة أولى، فيلتقي هو والفيلسوف عند نقطة واحدة هي الحكمة وعند تتبع سيرة المتصوفة، نرى أن انصرافهم الى العبادة والرياضات الروحية انساقوا اليها ربما نتيجة احوال نفسية عانوا فيها كتجربة غرامية فاشلة أو حياة معاشية انتهت بالخيبة والمرارة، ولهذا فقد افحمنا الشاعر يونس علي بقوله:
أنه عالمُنا الذي
احتويناه
بَعد ان احتوانا فأفسد
خيالاته تُعدد عطاياه التي لا تعد
فلا حسد في شيء لا يُرد
لم يكن في كؤوس
الندى
ولا ثمة سحر..
ان هذا الناسك المتفلسف أستدرجنا خطوة بخطوة حتى ولجنا في الظل الذي أبدع فيه ايما ابداع، وتجرد عن يومه وأمسه فأتبع سره وهذه حقيقة الوصول اليها ب (الخلوة). فالشمس القوة الساطعة التي تطرد الظلام حينما تلقاه حتى قبل ( لا جديد تحت الشمس) وكما يقال (هل من جديد؟) فنقول (لا جديد تحت الشمس) حتى جاء هذا التشبيه المغري بالتأمل الأقرب الى الذهن:
الليلُ
شجرٌ بلا اخضرار
يولد جبار
حقا ان مفردة (الليل) تقابل (الشجرة) حتى آتت تسمية بلاد السواد من هذه التركيبة، حيث أن الغابات ترى من على بعد معتمة كالليل وأن الليل طاغ وجبار، لأنه يقتل الشمس ويغتال الضياء حتى نرى خيال نبض شعري مبدع وساحر، وعلى هذه الشاكلة كذلك الشاعر البصري أحمد عاشور يخاطب الليل في مجموعته الشعرية( خلف زجاج معتم): أيها الليل/ أيها الجنرال الكبير/ كم شمسا قتلت/ حتى أعطوك كل هذه النجوم.
أن حالة العرفان تتجسد في أهل التصوف والزهد فلهم دراية في أحوال لم نفقهها تتمثل أمام خيالاتهم واخيلتهم وتجلياتهم كحدس ملموس والتنبؤ بما سيصار اليه من كشف وكما يقول شاعرنا يونس علي في قصيدة (الظل):
نفسي ترقصُ لمخلوقات
لم تخلق بَعد
بقيتْ في خَيال الله
بلا ظل
في أرض تستحقها
هؤلاء أهل الذوق والعرفان يفترشون الندى ويلتحفون الثريا، ليس لهم حدود تذكر الا حدود الخالق كون معرفتهم تتركز بالحدس قبل العقل الصارم، يجوبون المعمورة سائحين لله، يبحثون عن الحقيقة فأرض الله واسعة تسعهم ومجذو بيتهم، لهذا ذكر الشاعر ( بلا ظل) لأن حالة الحركة وعدم الاستقرار لا تسفر عن ظل ثابت أو مثابة أو عنوان. وأن قصائد الشاعر جاءت متتالية في مقدرتها على ادهاشنا وفي تلون عناوينها ك ( المجهول):
أيها المجهولُ.. يا رفيقي
أنا وأنت نسير
الى حيث أعثرُ يوما
وتبقى أنت في الهجير
تأخذ آخرين كأخذي
حَظهم من الحياةِ قليل..
ان مخاطبة المجهول شيء عسير ربما ارتشفه الشاعر من خلجات النفس وتجاربها، أنه المبهم الذي عنده ربما سر الاسرار، أنه الدرب الذي يوصله الى حقيقة ينشدها هو…. ربما النهاية السعيدة كما يتمناها بانقضاء هذا العالم المادي المحسوس كل من يتعلق قلبه بالصفاء وسعادة النفس بالوجود.
ولقد تدرجت مفردات عائمة في بحر الذاكرة التي تفيض منه خزائن مغمورة يصطادها السباح الماهر الذي أتقن فن العوم الصوفي لعالم المثل كالفطرة والخيال. و(فيما قال الهدهد) القصيدة.. الطائر الذي ذكره القرآن الكريم نوعا من الصيغة الروحية لما لطير الهدهد من افعال ذكرها القرآن اضافة الى دور الموروث الشعبي في تخليد طير الهدهد:
قال الهدهدُ: ما أحلى وادينا
لكن غادرته الغزلان
وما أحلى الاصيل
لكنه طعن خاصرة النهار
قصائد كثيرة نمر بها تحتاج وقفة (المرايا، المطر، حلم الحب، نفسي، رحلة بحرية.. عندما كنا صغار.. الخ) لا يتسع المجال للوقوف عليها كلها في هذه المجموعة الروحية، لكن قصيدة (رباعيات الحب) هي التي تتكلم عن الحب بشكل صريح الحب كما نعرفه بين الذكر والانثى، ورغم ذلك جاءت مكملة لذاك الوهج ذي الشطحات المتكاملة ببلوغ المرام والغاية المتوخاة فيها كما في نصه:
أن وصلتُ الى نبع جمالكِ
أموتُ سيدتي شعريا
وأن وصفتكِ بالتمام
فماذا أصف بعد الآن ..
كان ما شأن الهوى حين يمتزج بالروح الاسلامي أن قضى أول مرحلة الى التصوف الخالص، لا تشوبه شائبة في فكر أجنبي او مغاير، تلك قصة رابعة العدوية المتصوفة العربية التي طمرت ماضيها وبذرت شعلة على خرائب النفس فشعت مكنوناتها بالتفرد بحب الله، فالشاعر اجاد بذكر الشخصية فكرس العنوان ذاته (رابعة العدوية).
وقبل الختام وطي الصفحة الأخيرة نكون قد دخلنا الى الظل وانعشنا الندى الشفيف لما أذخره الشاعر يونس علي الحمداني في قصيدته الحوارية ذات النفس الطويل (الشاعر والكاهن) التي افتتح بها ديوانه، ربما قصيدة مستوحاة من نفس تواقة للتطهر والتطهير لابد أن تكتب بحوارية مثيرة في عمقها. أما قصائد مثل ( محراب، زهد، القمر، رثاء، المطر، عـ، مرايا، صحوة، رحلة بحرية، الفطنة، قلب الشعر، عالم الزهاد، ….الخ) قصائد تخاطب رموز عليا بالمقام (كالروح، الزهد، النفس، الفطرة، القلب، الخيال، الذوق، الحياة، المحراب، الغيب، الحب، الجمال …. الخ) حتى انبرت نصوصه تتقاطر الى مناخ قدسي عميق.
وكنت قد توسمت به شاعرا لثم ويلثم قلب القصيدة عبر جهات يحددها بالولوج الى المركز بكل اتقان داعيا له كما يود من قلب شغوف بالشعر والحياة.

 

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *