تَجلّيَّاتُ المرأةِ في شعْر إياد خزعل
د. وليد العرفي

تشغلُ المرأةُ حيزاً مُهماً من اشتغال الشاعر الفنيّ بالمرأة بوصفها مقولةً من مقولات نصه الشعري مثلما هي تشكل ثنائية حياتية يبدو الشاعر أنه في حالة افتقاد حقيقي لها، وهذا الفقد يتمثّل واقعاً في حياة الشاعر الذي يفتقد أمَّه حضوراً جسدياً بفعل الموت، وشعوراً عاطفيَّاً بفعل التغيير الحاصل في حياته برحيلها .
يقول في قصيدته : ( عيد الأم )
ماذا سأهديكِ
ليرحلَ طائرٌ نحوَ الفضاءِ الرَّحبِ
يحملُني بعيداً ؟
لو أنتِ باقيةٌ لكانَ اليأسُ أصغرَ منْ جراحي
ولكنْتُ أكثرَ منْ صبيٍّ ضاعَ في صمْتِ الزَّمانِ
ولكانَ صوتُكِ زنبقاً ينمو بعيداً
في حكايا الطّفلِ والُّلغةِ البريئةِ …
يبدو الشاعر في هذا النص يعيش حالة الفقد التي تُشكّل في حياته مُنعرجاً مفصلياً يبدأ الشاعر معه رحلة الضياع على المستوى الوجودي: يا أنتِ يا كلَّ المدى يا تُربةٍ في الصَّمتِ نسقيها دموعاً حائراتٍ ها همْ أضاعوني وقالوا شاعرٌ مجنون
إنَّهُ صراع الشاعر الوجودي مع المحيط الاجتماعي الذي لم يكنْ على توافق معه، مثلما لم يكنْ مُنسجماً مع تقاليد وعادات أكل الزمان عليها وشرب، وفي خضمّ هذه المواجهة يجد الشاعر نفسَهَ وحيداً يُعاني لوعة الفقد من جهة، ولوعة الوحدة من جهة أخرى، تلك الوحدة التي تُشعره أنه يعيش غربةً نفسيَّةً، ولو كان في وطنه، وبين ذويه:
الأهلُ ألقوني على الطُّرقاتِ منفيَّاً غريب
لوْ أنتِ باقيةٌ لكنْتُ أعرفُ ما أريدْ
حريَّتي أنّي تركْتُ الضَّائعين
ومضيتُ مجروحاً وفي أرضي شريدْ
يكشف النص السابق أنَّ افتقاد الشاعر أمَّهُ ليس مُجرَّد فقدٍ لجسد وعاطفة وحسب، إنَّهٌ فقد سمْتٍ في اتجاه وضبابيَّة في رؤيا يجد الشاعر أنه يمشي من دون اتجاه ولا بوصلة، وليس أمامه غير الصمت تعبيراً عمَّا يُعاني، وما غير الفراغ من حالة تُشبه قلقَه في هذا الواقع المأزوم :
يا أمُّ هذا الصَّمتُ يقتلُني
ويقتلُني الفراغ
فلكِ أحنُّ
وغُرْبتي لمْ ألقَ فيها غيرَ دمعٍ
صارَ منفايَ الجديدْ
إنها حالة المأساة التي يُصوّر الشاعر جوانب من مواقفَ عاشها في ظل غياب الأم التي كانت النخلة الوارفة الظلال التي يفيء إلى ظلالها في لحظات الضيق والألم .
تتجلى دلالة المرأة في شعره في مستويات عدة؛ فالمرأة المعادل الموضوعي للكون، وهو ما يتبدَّى من خلال خطابه المرأة التي تعني الحياة، يتضح ذلك في قصيدته الموسومة بـ :
( رسالة إلى الأم والأنثى ) وهو بهذا العنوان الذي لجأ فيه إلى العطف يبدو جامعاً بين الأنثى الجسد، والصفة الأقدس لتلك الأنثى، وهي الأمومة التي يسعى الشاعر إلى كسب رضاها يقول :
حسبي رضاكِ فهذا الدَّهرُ ينقلبُ فسامحيني ليفنى الَّلومُ والعتبُ
يا نجمةً سطَعَتْ في كلِّ ناحيةٍ فغارتِ الأرضُ منْها وانثنِتْ شُهُبُ
آذارُ مطلعُها خصباً وعاطفةُ تُعطي و تنسى فما أبهى الَّذي تهِبُ !
وفي هذه القصيدة تتبدَّى الأم بدلالاتها المختلفة ؛ فالأم هي الطبيعة بما ترمز إليه من فضاء كونيٍّ باعثٍ على الجمال والاتساع، وطالما كانت الطبيعة ملاذ الرومانسيين، ومأوى سكينتهم واطمئنانهم، إذ وجدوا فيها الحضن الدافىء والصدر الحنون، ولا يفوتنا في هذا السياق قصيدة : (مواكب) للشاعر اللبناني المهجري جبران خليل جبران ، وتُغنيها المطربة فيروز في قوله :
هلْ تخذْتَ الغابَ مثلي منزلاً دونَ القصورْ
فتحمَّمْتَ بعطْرٍ وتنشَّفْتَ بنورْ ؟
ووفق هذا الاتجاه يظهر الشاعر خزعل الأم معادلاً موضوعياً للطبيعة
هيِ الطَّبيعةُ لا تخفي سرائرُها أوْ لجَّة البحْرِ حينَ البحْرُ يضْطَربُ
مثلما تحيل على مرجعيات مرتبطة بمكانة الأم، ومنزلتها التي كرمتها إياه الأديان
يا مريمَ الطُّهْرِ يا روحاً مُرفْرفةٌ حولَ السَّريرِ ونارُ القلبِ تلتهبُ
يظهر المطلع أن الشاعر محكوم بمناسبة عيد الأم، وهو ما جعل من دلالة آذار رمزية دالة على فعل التغيير في الطبيعة الذي يرمز إلى الأم وفعل تأثيرها في الأسرة وما يحدثه فيها من إيجابية بفعل حضورها .
المستوى الثاني مستوى المرأة الأنثى الجسد الذي يُشعل في الشاعر جذوةَ الحبِّ، ويُوقد قريحةَ الشاعر فيه، وهو ما يتكشَّف في قوله:
فنحنُ نظمى إذا لمْ تسقِنا امْرأةٌ منَ الحنانِ ونبقى العمرَ نرتقِبُ
ولعلَّ جمال وصفه المرأة الأم يرتقي إلى مصاف العشق الذي لا يرتقي إليه إلا عاشق احترق بموقد الحب؛ فشكَّل من جسده أيقونةً من إيقونات الطفولة التي تحنُّ أبداً إلى الحضن الذي رُبيت فيه يقول في ختام القصيدة :
أنا اليتيمُ فأمّي كلُّ امْرأةٍ هزَّتْ بجذعٍ لكي تسَّاقطَ الرُّطَبُ
إنَّنا بتأمُّل هذا البيت نرى أن الشاعرَ قد انعتق بهيكله الجسدي؛ ليتغلغل روحاً في جسد الأم التي يفتقدها جسداً وعاطفةً، وقد حلَّق في هذا البيت حتى استعار جناح براق المُتصوّف الذي يتماهي في ذات الآخر؛ ليُشكّل معه حالة تماهٍ وانغماس، ولا يخفى ما في البيت من إحالة مرجعية تستدعيها الذاكرة الدينية القارَّة في الوجدان الجمعي للإنسانيَّة من خلال استعارته قصة السيدة مريم العذراء، وولادتها السيد المسيح عليهما السلام ، وبهذه المرجعية استطاع الشاعر أن يُحلّق بالنص في استعادة حدث في التاريخ الماضي من غير أن يقطع ارتباطه الواقعي بالحاضر عبر تشظّي دلالة، وإبهار صورة منحتِ البيتَ جماليتَهُ الخاصَّة التي يُمكننا القول بأنَّهُ بيت القصيد الذي يتكشَّف عن حالة شاعريَّة يعيشها الشاعر، وشعريَّة تكفيه ليُشار إليه بالبنان والتفرُّد .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *