جابر خليفة جابر: قراءة في شواهد الاشياء للقاص باسم الشريف (ملف/4)

بمناسبة جلسة الاحتفاء بالصديق القاص باسم الشريف التي يقيمها التجمع الثقافي في مقهى الادباء بالعشار بعد غد الجمعة ، أقدم هذه القراءة تحية له ..

أوشام القص وجغرافية الرائحة

تتضامن عوالم القصص أو النصوص القصصية في شواهد الاشياء مع بعضها لتقدم للقارىء ما يصح ان نسميه كتابا قصصيا تنمو أحداثه مع تراتبية النصوص الثمانية وانجذابات الراوي فيه الى عوالم الامومة الاولى ،بدءا من الحنين للمكان الآسر والحبيب والعودة اليه هروبا من جحيمية الراهن ومكانيته القسرية / أي المنفى النفسي المتلازم مع المنفى الواقعي والمفروض بقوة وقسوة تدفع الذات دفعا تجاه حميمية الجغرافية الاولى، مهبط الطفولة والصبا والدفء وهي هنا في شواهد الاشياء( هذي المجموعة الضاجة بالاشارات وسيمياء اللغة والترميز العالي) ممثلة بجغرافية منطقة الداكير(المزلق البحري او معمل اصلاح السفن الواقع على ضفة شط العرب في العشار) لكن القص الصاعد باشاراته وايحاءاته لا يكتفي بها مكانا صغيرا وجعلها تتوهج متسعة بما تضمه وتشع به من تطلعات الإنسان المقصي عن ذاته الى حميمة الرحم الامومي المنتمي اليه، سواء كان هذا الرحم جغرافية ام انتماء فكريا ام ثقافيا ام روحيا وهكذا تمر ارتحالات الشخصية الراوية أو المروي عنها في هذا الكتاب /المجموعة، بمراحل عدة تتجه فيها الخطى نحو منطقة الداكير عبر انجذابات الرائحة /العطر، رائحة المخاض وعطره ورائحة الحبل السري المبتور والموجود في المكان الجاذب.

والانجذاب الى الرائحة / الدفء ، هنا تمثل محورا أساسا قاد المريد المنجذب الى جنته الاولى وصعدت روحه الى انتظار الإبحار وانتظار المخلّص (منتظر) والتسامي معه واللقاء به أخيرا في النصين الاخيرين (الكتاب الجامع واستبشار) واذا حاولنا تحديد الملامح وتقصير مساحة التأويل ، نجد المخلّص مجسدا بشخصية عراقية فذة خلقت ما يشبه المعجزة أواخر القرن العشرين بشدها الجماهير العراقية وإحياء آمالها وتطلعاتها للانعتاق والتحرر وإطلاق كوامن الشجاعة والتوهج المقموع بقسوة، وأعني هنا رمزية الشهيد محمد الصدر كمنقذ أو مخلص ملأ مساحة ذاك الزمان التسعيني بردائه الابيض الوهاج.
إذن رمزية الانشداد للدافيء والامومي لا يعني عرضا مباشرا وتقريريا لحلة شخصية محدودة الافق يمكن ان يمر بها اي انسان، وانما تتسع هنا في (شواهد الاشياء) وباسلوب رائع أجاد القاص باسم الشريف من خلاله توظيف اللغة وطاقاتها التأويلية الهائلة لخدمة ما رسمه من مسارات كانت الرائحة/العطر، محورا اساسا فيها، ولولا ان باسم الشريف كتب ونشر نصوصه وحتى مجموعته بسنوات قبل رواية العطر ل زوسكند لتسارع النقد الببغائي المنبهر بالآخر لوصمه بالتناص وغمزه بالتلاص ربما، ومع الرائحة وجاذبيتها الفريدة تتحرك الاصوات لكن باتجاهين طارد وجاذب وهذا ما يكون واضحا في النص المهم (مرايا وانعكاسات) والذي تتجاور فيه مثيرات الجذب والطرد المختلفة من لون وصوت ورائحة وتمتزج او تتفاعل لتخلق حلما ما، وتؤثثه بإجادة أو تفرضه ليكون سيد المكان، واليه يكون الانشداد، وبه يمحى الواقع المر،(قال لها: تماسكي سأعود بمرايا من نور…. ها هو ذا المدُ يومض من أرض خضراء، أصداء جامحة، أصداء من وقع خطى ورؤى وأنفاس تتصاعد بخارا من حلم، حيث الواقع يمحى/ المجموعة ص 65-66) ونلاحظ هنا الدور الفاعل للمد كظاهرة بحرية معروفة في البصرة وبحصول المد يتحقق الإرواء والإغتسال والحياة وتنجرف النفايات ومخلفات البزل وكل ما هو ميت الى البحر بعيدا، المد هنا عامل اكتساح حر و حي لما يسعى الراوي للخلاص منه، وسط تقابلات وتضادات يحتدم القص في (مرايا وانعكاسات) ليتقابل الرجل الحالم مع الجدار، الجدار المثقب والمضمخ بالدم، الحلم هنا مصدود بجدار دام وقوي ولا إختراق له ولاهدم الا بالأحلام ، فيما يتقابل المد مع الدار وما تمثلة عملية تقابلهما رمزيا من دور المد بمائه الطيب الخصب من تهيئة لأرض الدار واخضرارها إستعدادا لاستقبال الحلم الجميل الدافيء والمؤجل حتى إنهيار الجدار وغسل الدم عنه.
واذا كان المد كحركة مادية أو مائية ، هي القادم المنتظر والمعادل لرجل البياض الجميل في قصتي (استبشار والكتاب الجامع) فإن قصة (المسفن) تستحق ان تكون قصة الرائحة الجميلة بامتياز وتنضم اليها قصة (مقبرة الدوب ) أيضا،حيث العودة فيها الى القاع للنغماس الشهي برائحة المخاض والحبل السري الذي يريد الاتصال به وعبره بعالم الولادة والرحم الاول السعيد وتكمل قصة(شواهد الاشياء) وهي عنوان المجموعة/الكتاب، هذا المسار، مسار العودة الى الذات عبر الحنين الى هدهدة الام ورضاعتها، عبر الحنين الى الماء مقابل الاقصاء الى السباخ والتوجه نحو المرأة ذات الجسد الغسقي الأخاذ، وهكذا ترسم القصص الثلاث الاول ( المسفن/مقبرة الدوب/شواهد الاشياء) ما أسميه بالقسم الاول من ارتحال الراوي : قسم الحنين والعودة الى الذات.
فيما تمثل قصة(عوالم جنوبية)منطقة توضيح لماهية المكان/الجنوب ، أو الجغرافية التي تتجه اليها بوصلة سعد السيد في ارتحالة تتصاعد تدريجا مع الاصوات وألوانها ،صوت فيروز وهي تنشد للجنوب وما يحويه اسمها فيروز من لون لحجر كريم ومشع وما تمثله الاوشام الفيروزية على اجساد الجنوبيات من جمال وإحساس بالسلام والطيبة والدفء ،ثم ترتحل مع سناء محيدلي الإستشهادية والمسماة ب عروس الجنوب، إنه هنا يستعير جنوبا آخر، هو الجنوب اللبناني ليعبر به عن جنوبه الخاص، الجنوب العراقي الرافض والمتمرد والجريح والحزين، ويحول الإستعارة المكانية هذه إلى مدى يوسع به جنوبيته ويحولها إلى امتداد عالمي أوسع خاصة مع الإرتحالة الثالثة، مع أورنيلا مونتي ملكة الجمال المنحازة لليسار الايطالي.
تنضم قصة(عوالم جنوبية) الى النص التالي المهم (مرايا وانعكاسات) ليضعنا باسم الشريف على عتبة الانتظار، انتظار المد ، المد الغاسل للادران والمُوقِد لتوهّجات الروح الجنوب، وبتضامن هاتين القصتين/النصين ،يتحسس القارىء القسم الثاني من المجموعة/الكتاب، وأسميه: بيان الذات وجوهرها ، والذي سيكتمل توهجه في القسم الثالث بالحضور القوي الناصع للبياض الجميل في القصتين الخاتمتين(الكتاب الجامع واستبشار) وبحضور (منتظر) المنقذ والذي نستخلص اسمه من (سعد السيد)من معرفتنا بمرجعية النصين واحداث التسعينيات العراقية وانجذاب الملايين حول السيد المرتدي للبياض والرافض للقباحة بتساوق مع رفض الراوي لقباحة السباخ وعقمها وانشداده لجمال الشط وعطر المد ورائحته الزكية.
باختصار استطاع القاص باسم الشريف ومن خلال معابر اللغة وتجلياتها وهو أمر يفرضه تكاثر الرقباء وقتها/وقت كتابة ونشر النصوص/ استطاع أن يأخذ القارىء في ارتحالات ممتعة نحو جمال الروح وانجذاباتها الصادقة وعبر مستويات عدة تتدرج من مباشرة الواقع وانحصار المكان بالداكير وضفاف شط العرب الى المدى الأوسع للجغرافية /عربيا عبر فيروز وسناء محيدلي ، وعالميا عبر اورنيلا مونتي الايطالية / تدرج من تجلي المحلية اللازم لكل نهضة حقيقية وتصاعد الى وحدة عالمية الرفض الانساني للظلم والظلام، وتوحده بانتظار المخلص الابيض المنير.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *