(يالكَ من مُستَفزٍ أبيـَض)
قراءة في المجموعة الشعرية للشاعر فراس الاسدي
إستقراء/ عبد الحسين خلف الدعمي

لقد اختلف الباحثون والنقاد في تعريف قصيدة النثر ومنهم من إبتعد بتعريفه لها بتسقيطها من جنس الشعر بيد إننا نرى ان التاريخ لا يقر لهم ذلك من خلال الغور في اعماقه حيث أعلن الشاعر الراحل محمد علي الخفاجي في إحدى محاضراته .. إن قصيدة النثر ضاربة في القدم من خلال النصوص البابلية والسومرية ومن خلال الاستقصاء المتأخر لما ذهب إليه الخفاجي وجدتُ ان الرُقَم الطينية تحمل من النصوص الشعرية الكثير .. وجاءت رواية (آدم سامي مور) للشهيد الدكتور (علاء مشذوب) لتؤكد أن قصيدة النثر كانت هي المتداولة في تلك الحضارات السالفة بين العامة وطقوس المعبد وأورد (مشذوب) نصوصاً تحاكي تلك النصوص وحينما سالته عن القصائد النثرية التي وردت في روايته تلك والتي تزيد على العشرين قصيدة قال انها من بنات افكاري حاكيت بها النصوص الأثرية التي إطلعت عليها عن قصد مسبق .. هذا بالنسبة لتأريخ قصيدة النثر ، أما بالنسبة للنقاد الحداثويين فقد إختلفوا بين مؤيد ورافض ومنهم من أكد رفضه من ان تكون من جنس الشعر بينما غيرهم أصل لها بإتجاه آخر فالناقد الأدبي (عبد الهادي الزعر) يؤكد بأن أول من قام بتثوير موروثها هو (جبران خليل جبران) وهو من أدباء المهجر ومؤسس الرابطة القلمية في نيويورك عام 1921والتي إستمر نشاطها حتى وفاته عام 1931 من خلال كتابه (النبــي) المترجم للعربية ومن بعده توالت الكتابة في هذا النمط الجديد القديم ، وفي هذ الخضم من المتناقضات أقول إن شعراء النثر هم السبب الرئيس في تذبذب الآراء حول القصيدة المتبناة من خلال النصوص التي يكتبونها فترى الاكثرية منهم يسهبون في السرد اللغوي دون فكرة واضحة في موقف لايحسدون عليه ، ففريق منا يرفض النص لأنه غارق بتمويهاته باعتماد الهيروغليفية عن قصد أو بدونه وفريق آخر يعتمد تأويل النص عسى أن يجد فيه شيئاً لعدم وضوح الرؤيا فيه مما أدى ذلك وفي كِلا الحالتين الى أن تقع قصيدة النثر في شبهة التجنيس هل هي (شعر أم نثر) بيد إننا لو عدنا مرة اخرى الى الملحمتين الشعريتين الإغريقيتين (الإلياذة والاوديسا) 8000ق.م نرى إن الملاحم الشعرية لبلاد مابين النهرين قد سبقتهما بأكثر من ألفي عام و النصوص التي أوردها العلامة طه باقر وغيره في بحوثهم الآثرية وكذلك التي أوردها المجذوب محاكاة في روايته (آدم سامي مور) نراها واضحة الفكرة والمعنى بتشخيصها وأنتمائها للواقع بالإشارة المباشرة و لا أرغب الخوض في موضوعة المقارنة الأدبية بين الموروث الآثاري من النصوص والحاضر لان ذلك يستدعينا الى بحث مطول منفصل ولَسنا الان بصدده وإنما أوردنا ماأوردناه لتعلقه بالمجموعة الشعرية حديثة الإصدار (يا لك من مستفز ابيض) للشاعر (فــراس الأسدي) الصادرة عن دار المفكر للطباعة والنشر 2020 والتي تتميز بإنتمائها لقصيدة النثر ذات الأصول البابلية / السومرية كما سنثبت ذلك من خلال الإستقراء للمجموعة الشعرية معرض البحث .. وكلنا يعلم ان قصيدة النثر قد تخلت عن الوزن والقافية وهما العمود الفقري لقصيدة الشعر العربي ولكنها بقيت ملتزمة بعناصر القصيدة والتي هي .. (العاطفة ـ الفكرة ـ الخيال ـ الإسلوب ـ النظم ) وكذلك الأغراض الشعرية (الوصف ـ المدح ـ الهجاء ـ الرثاء ـ الفخر ـ الغزل ) .
لقد تمادى بعض النقاد في اسقاط نظرية ما على النص الأدبي وفي ذلك حكموا مسبقاً على النص بالخروج على تلك النظرية وتبدأُ سهام نقدهم بتهشيم النص وهذا خلاف لما يجب ان يقوم به الناقد فمن الأحرى إعتماده على النص أولاً ومن ثم يختار من النظريات النقدية ما يتوافق معه ومن ثم يبدأ بطرح رؤآه النقدية حول النص وقد يعترض البعض على هذا الرأي فاقول قد إتهم البعض النصوص القرانية وقال لا تتفق مع النحو العربي وهنا أسال هؤلاء : هل إن علم النحو وجد قبل نزول القرآن أم بعده ؟ والجواب سيغنينا لانه سينسحب على الشعر الجاهلي فالبعض منه لا يتفق ولا ينسجم مع بحور الخليل الفراهيدي عبر منظومةِ اوزانه العروضية .. إذن فالنقد لا يسبق النص وإنما هو إستنطاق له وإستنباطي منه .. وبهذا نكون قد انصفنا المُنتِج شاعراً والأدب نصاً وليداً .. وبناء على ما تقدم من الوصف يتضح لنا جلياً بان مجموعة ( يا لكَ من مُستفِزٍ أبيض للشاعر فراس الاسدي) تنتمي لجنس قريناتها السومرية والمهجرية من القصائد الواضحه المعالم ففي مجموعته الشعرية هذه يفصح الشاعر عن هوية إنتمائه والتصاقه بالواقع ولم يفقد سمات القصيدة المشار اليها بيد اننا نرى ان قصائد النثر الأخرى وفي الأعم الأغلب منها تفقد حتى تلك السمات والتي أهمها الفكرة والصورة والمفردة المكتنزة بالمعنى الدلالي الذي يتناغم مع الآخر ويحرك مشاعر المتلقي لتتفاعل مع النص بينما الأخرى ( أي القصيدة الهيروغليفية) التي تعتمد في تكوينها على العبث اللغوي في الجملة ثيمة أساسية في بناء النص وفيما بينها وبين الهذيان خيط رفيع جداً قد لا يتمكن كاتب النص من تجاوزه فيقع في المحظور بيد اننا نرى ان قصائد الأسدي سريعة الوصول لذات القارئ من خلال ملامستها المباشرة لهموم حياته .
العافية ُفي زمنِ الوباءِ
ثلجٌ أبيضُ في دائرةِ الشمسِ
تفاصيلُ الطفولة ِالتي غذَّيتَها ماءً
أنتجَت بعطفِكَ رجلاً شاعراً
الطيبةُ التي يفتقدُها الكثيرونَ
أتمتعُ بها عندما ينظرُ إليَّ قلبُكَ
وَتَمسحُ وجهي كفُ عينيكَ
الشمسُ تغزلُ آياتها من عطفِكَ
….. عباءة الوجود ص55 …………………………….يالَكَ من مستفزٍ أبيض
* بني الأرض الذين يقيمون على الأرض من أقصاها الى أقصاها
ويحملون كنوزها من مكان الى آخر …
لتعم الرفاهية سائر أمكنتها
هكذا ستعلو الإبتسامة في وجوه الجميع ..
وهكذا ستنمو حقول الآلهة بغزارة
مكتبة آشور بانيبال / القرن العاشر ق م …………….. آلآم أنـــانا ))
من خلال النصين المتقدمين نشعر بمدى التناغم والتوافق فيما بينهما رغم الفارق الزمني الذي يفصل بينهما بآلآف السنين ، أدرجناهما لنؤكد أن ماجاء به فراس الأسدي في مجموعته الشعرية ( يالَكَ من مستفزٍ أبيض) هو إمتداد طبيعي لقصائد شعب بلاد مابين النهرين وللتراتيل التي كانوا ينشدونها في المعابد البابلية والسومرية المقدسة لديهم وقيثارة أور كانت ترافقهم بأنغامها عند إداء طقوسهم في معابدهم وقد لاتختلف كثيراً عن ترنيمات الكنائس في حاضرنا الراهن ، ولتوثيق ماذهبنا اليه أكثر نعود لمقارنة بعض النصوص الشعرية في مجموعة ( يالَكَ من مستفزٍ أبيض) للشاعر فراس الأسدي مع ماوجد مكتوباً على الرُقَم الطينية في بلاد مابين النهرين .
وطني / ياأولَّ الحرفِ / جاءَ جرحُكَ
بمقدارِ الذينَ طالبوا بقلوبهم فيك
ودافعوا عن خريطتِكَ
التي تشبهُ أيامهم المتعرجةَ
دمُكَ الثائرُ / منارةُ نبيٍّ
العمرُ الذي تَكسَّرَ زُجاجهُ
وتشَظَت مساماتُهُ / وتمزقت خرائطهُ
جَمعهُ خجلُ الوجوهِ / المملوءةِ عشقاً بأولِ التأريخِ
من على الجسرِ / جرحُكَ ودمعُ كربلاءَ
يتلاقيانِ في كلِّ لحظةٍ بصدري
يالَكَ من مستفزٍّ أبيض
طيور الخريطة التشرينية ص7……………………………………………… يالَكَ من مستفـزٍ أبيض
* أقدم لك بخوراً زكي الرائحة
لقد صنعت لك خمراً من نبيذ العسل
أرحمني وأصغ الى صراخي …
تقبل تنهداتي ، وأقبل تضرعاتي
وليكن صوتي مقبولاً عندك ..
ترفق بي فأنا أخاف منك ………………………………. ( نص من المزامير البابلية)

تَكاد لاتشعر وأنت تقرأ بأي فارق بين الأسلوبين البابلي القديم والأسدي الحديث فكلاهما ينتميان الى جنس واحد هو جنس الشعر النثري المُختلف على هويته والذي أثبتنا عمق جذوره التأريخية التي تؤكد عراقته من خلال مئآت القصائد المدونة على الرُقُم الطينية والمحفوظة في متاحفنا الآثارية ومتاحف العالم أجمع والمدونةِ في أغلب الكتب الآثارية المعاصرة .. وفي العودة الى ( يالَكَ من مستفزٍ أبيض) نجد إن المشتركات كثيرة وتكاد تتماهى فيما بين قصائد الأسدي وماوجدناه مدوناً من القصائد عبر آلآف السنين فكلاهما يتحدثان عن الهم المجتمعي لذلك حَملا سِـر ديمومتهما .. يقول فراس الأسدي في قصيدة تسريبات :
لاشيءَ
يُدهشني في هذا العالمِ
سوى مدينةِ الماءِ
لاشيءَ يستفزّ مَشاعري / ويُسَيِّرُها إلى حيث لاإرادتي
سوى / خارطةِ عشقي
لا مَجمورَ قلبٍ أكثرُ مني
لا شيءَ يستطيعُ تسليتي / سوى الحرفِ
لاشيءَ يعرفُني سوى (شيلةِ أمي)
لا شيءَ يثيـرُ إنتباهي / سوى / جمالِها الوحشيِّ لاشيءَ يفزِّزُ وحدتي
سوى صوتِها / لاشيءَ يشبهُ روحي … سـواها
تسريبــات ص43 ……………………………….. يـا لَـكَ من مُستفـزٍ أبيــض
هذا ماقاله فراس الأسدي ، فلننظر الى ماورد في النص السومري في ذات السياق لنتأكد من عمق الصلة فيما بين النصين
* أنتِ أيتها الأم المقدسة القديسة أورورو
إمنحي أبناءك فيضاً من حسن الطالع
إمنحيهم رجالاً شامخين بالفنون والأوسمة الكبيرة
رجالاً مثمرين …
من سنابل الذرة التي تنمو وتتحد عاماً بعد عام
نصٌ سومري ……….. وجد في مكتبة آشور بانيبال القرن العاشر ق. م

لقد قرأنا عن شعر النثر وأتكأنا على ماكتبه الأدباء والنقاد الغربيين عنه أمثال سوزان بيرنار وغيرها مستسلمين لأملاآتهم وحري بنا أن نَجِدَ الخطى واثقة لأثبات حقنا فيه لأن مسقط رأسه كان في بلاد الرافدين ولاتزال بلادنا للآن حاضنة الأبداع فيه من خلال ترجمة النصوص الشعرية ومقارنتها بالأصل البابلي ، السومري ، الآشوري وغيرها ففي ذلك البينة الجلية والحجة الدامغة التي لاتحتاج الى أي برهان آخر .
وبهذا نترك الشاعر متحدثا عن السنوات العجاف بأسلوب أدبي رائع يقترب كثيرا من مجسات المتلقي وينأى في أحايين عن المباشرة حتى لايقع في المحظور، بيد أنه أعطانا مفاتيح الدخول الى عوالم الشعراء الذين ترجموا لواعج الحزن العراقي فرائد من الشعر ولكن أكثرنا قد جُبلَ على حب الذات وألغاء الآخر ..
وبعدَ هذه الرحلة بين دفتي المجموعةِ الشعريةِ (يـا لَـكَ من مُستفـزٍ أبيــض) للشاعر فراس الأسدي وقريناتِ قصائدهِ على الرُقم الطينية والدراسة المتأنية والمشاكسة أحياناً لنصوص الأسدي الشعرية خلصنا الى أن الأسدي تمكن من إجتياز الخيط الرفيع بين الشعرية واللاشعرية من خلال إلتصاقهِ بالهم الإنساني والتعبير عما يختلج في صدور أبناء جلدته بأمانة وصدق إضافة الى شاعريته المتكئة على عناصر الشعر التي أوردناها معتمداً على مخياله الشعري الخصب والجملة البِكر والفكرة المنتقاة من بين خلايا الحياة المهملة في زوايا النسيان حريٌ بنا أن نعيد قراءة نتاج الشاعرففيه الكثير مما نريد البوح فيه وهو إضافة نوعية للشاعرية العراقية بل والعربية فيالَـهُ من ( مستفزٍ أبيض) .
عبدالحسين خلف الدعمي
15 أيلول 2020

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *