فاروق مصطفى: (موشي بولص موشي) مِن كتابةِ القصصِ إِلى رسمِ الوجوهِ الكركوكيّةِ

عِنْدمَا أُحيلَ القاصُّ(موشي بولص) إلى التّـقاعدِ خَشِيَ أنَّ هذا التّغييرَ الحياتيَّ سوف يتركُ رجَّةً في مجرى سيرِ وقائعِهِ اليوميّةِ، فبعدَ أنْ قضى ما يُقاربُ ثلاثةَ عُقودٍ في شركةِ نفطِ الشّمالِ مُتنقِّلًا بينَ أقسامِ الكهرباءِ والنَّقـليَّاتِ والعلاقاتِ العامَّةِ وَالإعلامِ وتعوَّدَ على الاستيقاظِ المُبكّرِ وطقوسِهِ الصّباحيّةِ وتناولِ فُطورِهِ السّريعِ، ها هو يَجِدُ نفسَهُ متقاعدًا مُتعكِّزًا على البطالةِ وكأنّهُ شرعَ بتسطيرِ كتابِ كُهولتِهِ، أحسَّ بالحزنِ يتغلغلُ داخلَ جوارِحِهِ لسبَبَيْنِ رئيسَيْنِ، أوّلهما تركهُ عشرات العصافيرِ التي كانتْ تستقبلُهُ في مدخلِ حدائقِ مَقَرِّ عَملِهِ، وكيفَ أنّها كانتْ تزقزقُ وترفرفُ وتُصفِّقُ بأجنِحَتِهَا فَرِحةً بِمقدَمِهِ الصَّباحِيِّ وهو ينثُرُ لَهَا الدَّقيقَ وحبَّاتِ الرُّزِّ وفتافيتَ الأَرغفةِ، وثانيهما انتقالُ صديقِ عُمرِهِ(عدنان أبو أندلس) مِن منطقةِ”عرفة” إِلى سكناهُ الجديدِ في منطقةٍ تقعُ خلفَ معارضِ السّيَّاراتِ جنوبي كركوكَ. (موشي بولص) اعتادَ على رؤيةِ صديقِهِ(أبي أندلس) فِي أثناءِ الْعملِ وكذلك ساعاتِ العَصارَى أو حتّى آناءِ الْليلِ، ، عندما تـلقَّى مُهاتفةً على هاتِفِهِ الخلويِّ: تعالَ أنتظِرُكَ في المقهى، (المقهى العرفاوي) المستلقي تحتَ درج إِحدى البناياتِ مُزنَّرٍ بضجيجٍ ومُطوَّقٍ بضوضاءِ رُوَّادِهِ، ها هو كاتبُنا يكتشفُ أنّهُ فقدَ لذَّاذاتِ عملِهِ وتوحَّشَ انتشاءاتِ صديقِهِ( عدنان) وحتَّى سجائرِ(pine) الْعَرَبِيِّ الَّتي كانَ يُدخِّنُهَا اختفتْ مِنَ الأسواقِ فَجأةً، فَلَمْ يبقَ أمامَهُ سوى الْلُّجوءِ إلى كتابةِ القِصَصِ القصيرةِ علَّهُ يَجِدُ مُتَنَفَّسًا مِنَ العَزاءِ في كتابَتِهَا وسلوانًا على قهرِ هذهِ الْأيَّامِ العجفاءِ الّتي حاصرتْهُ مِنَ الْجهاتِ كُلِّهَا، إِلَّا أَنَّ مُلهماتِهِ الْقَصَصِيَّةِ ناكدَتْهُ وضايقتْهُ وَأَحسَّ بِأنّها لا تُطاوعُهُ كما ينبغي، فَمَا الّذِي يَفعلُ إِزاءَ هذه المُعضلةِ الّتي حلَّتْ في ساحتِهِ، لقد خطَّ مئاتِ القِصصِ وملأَ بها أكثرَ مِنْ عشرِ مجاميعَ قصصيَّةٍ وكانَ آخرُهَا(عُذرًا أَيَّتهَا الْمَرَايَا) وهو انتهى أيضًا مِن تنضيدِ مجموعةٍ جديدةٍ مِنَ القصصِ وتَعِبَ طويلًا مِن إِيجَادِ عُنوانٍ مُناسبٍ لَهَا أَنْ فتحَ اللهُ عَلَيْهِ فسمَّاهَا(نَوَامِيسٌ) وصَمَّمَهَا قِصّةً وتحتَهَا لوحة فوتوغرافيّة، فإِذَنْ هو كتابُ (القصَّة- الْلَّوحة) وَعمَلُهُ هذا يُذَكِّرُ بالْمُنجَزِ الأدبيِّ الّذي أصدرهُ الكاتبُ الْمِصريُّ(عبد الغفار مكّاوي) في كتابِهِ الْمُعنونِ:(قصيدةٌ وصورةٌ) (الشِّعْرُ والتَّصويرُ عَبرَ الْعُصورِ) والمطبوعِ في الكُويت وَمِن إِصدارِ الْمجلسِ الوطنيِّ للثقافةِ والفُنونِ والآدابِ، غَيرَ أنَّ صديقَنَا(موشي) تأخَّرَ عنِ طَبْعِ الكتابِ فالظروفُ التي نعيشُها وأعني ظروفَ فيروس كورونا غير مؤاتيةٍ لِنشْرِ الْكُتبِ، فَفكَّرَ أنْ يؤَجِّلَ إِلى مطلعِ العامِ المقبلِ عسى ولعلَّ أنَّ هذهِ الجائحةَ المقيتةَ تنقشعُ وتضمحلُّ وتعودُ الطمأنينةُ إِلى كوكبِ الأرضِ.

الأديبان موشي بولص وعدنان أبو أندلس

أعودُ فأقولُ: إِنَّ هذا النَّكدَ الكِتابيَّ لمْ يَدُمْ معهُ طويلًا، زارتْهُ مُلهِمَاتُهُ الكِتَابيَّةُ مِن جديدٍ فغدا جنسٌ كتابيٌّ ينبجسُ مِنْ بين أصابِعِهِ ويسيلُ حِبرُهُ على شكلِ صُورٍ قلميّةٍ تصفُ وُجوهًا كركوكيّةً-ثقافيّةً وهذه الوجوهُ تتوزَّعُ بينَ النّقدِ والقصِّ والشِّعْرِ والتَّصويرِ وفنونِ التَّصميمِ والتّنضيدِ، المُهِمُّ نوافذُ الكتابةِ انفتحتْ عليهِ وغَمَرتْهُ اشراقاتُهَا البيضاءُ فخَطَّ أكثرَ مِنْ اثنتي عشرةَ صورةً قلميّةً وأنزلهَا في موقعِ( النّاقد العراقي) حيثُ المجلّةُ الألكترونيّةُ التي يشرفُ عليهَا النَّاقدُ المعروفُ الدكتور(حسين سرمك حسن) وعملُهُ هذا إِلى ذواكرِنَا مُنجَزُ الكاتبِ المغربيِّ(محمد شكري) صاحب رواية( الخبز الحافي) في كتابِهِ المُعنونِ ب(وجوه) حاول أن يرسمَ ويصفَ شخصيّاتٍ من مدينةِ (طنجا) وغيرها منَ المناطقِ والأمكنةِ إلَّا أنَّ الفَرقَ بينَهُما ف(شكري) يُفَصِّلُ ويتوسَّعُ وَنَفَسُهُ الكتابيُّ طويلٌ، بينما صديقُنا(موشي) يوجزُ وَيُكَثِّفُ وَيُركِّزُ تركيزًا خالِصًا. معَ قَدَمَةِ كُلِّ صباحٍ يستيقظُ، يصبُّ لَهُ قَدحًا مِنَ الشَّاي ثُمَّ يخرجُ إلى حديقةِ الدَّارِ، يُشْعِلُ لفافتَهُ الأولى نافثًا دُخانَهَا ومستعِيدًا شريطَ ذكرياتِ الْعُمرِ، رحلتُهُ الأولى والأخيرةُ إِلى (لندن) مدينة الضّبابِ في سبعيناتِ القرنِ المُنفرِطِ، وما زالَ يذكرُ كيفَ أنّهُ ذهبَ إِلى حيِّ(سوهو) وَهُوَ يُمَنِّي النَّفْسَ بلقاءِ الكاتبِ (كولن ولسن) صَاحِب روايةِ (ضياع في سوهو) وفلسفة (المنتمي والْلَّامُنتمي). لقدْ أُعجِبَ بِهِ وصارَ يتبعُ كُتُبَهُ وأخبارَهُ ورسَائِلَهُ، والجديرُ بالذِّكرِ أنَّ (موشي) مُعْجَبٌ بثلاثةٍ: أَوَّلهم (كولن ولسن) والثَّاني الكاتبُ المصريُّ (سلامة موسى) اقتنى كُلَّ كُتُبِهِ وتمعَّنَ في قراءَتِهَا إِلَّا أَنَّهُ يَأْسَفُ على ضياعِ تلكَ الكُتُبِ وفقدانِهَا إبان الحرب العراقيَّة الإيرانيَّةِ وهو في مضمار العسكريّةِ وانتقالِهِ مِن منطقةٍ إِلَى أُخرى أو سوقِهِ بينَ أَفواجٍ مُختلفةٍ، وأَمَّا الثَّالثُ فهو الشَّاعِرُ(أحمد مطر) الذي يحرصُ على إعادةِ قراءةِ مجاميعِهِ وتذوُّقِ كلماتِهِ وهضمِ دلالاتِهَا، ولكنّْ حُبَّهُ لعالَمِ الفَلَكِ وَالأبراجِ لا يَخفى على أصدقائِهِ، فهوَ دائمُ النّظرِ في كُتُبِهَا والإِمعانِ في تقاويمِهَا والتَّدقيقِ في جداوِلِهَا، فبمجرَّد كشفِ المرءِ لهُ عامَ ازديادِهِ حتى يُخبركَ بِأنَّكَ في أيِّ بُرجٍ وُلِدْتَ وإِنَّ القمرَ يحاذيكَ من جهةِ اليمينِ وأَنَّ الشّمسَ ستحلُّ إِلى يسارِكَ ويعلمُ أنَّ العصافيرَ الّتي يعشقُهَا ستحطُّ على أشجارِ حديقتِهِ، فهوَ حضَّرَ لَهَا أَقواتَهَا المُقَدَّرَةَ، فسرعانَ ما تملأُ زقزقاتُهَا باحةَ الدَّارِ وهو ينثرُ لَهَا حباتِ الرُّزِّ، غيرَ أنَّهُ يكتشفُ أَنَّ قَدَحَهُ فَرغَ مِنَ الشَّاي فهو في حاجةٍ إلى قدَحٍ آخرَ لِيُصَفِّي الذِهْنَ ويُصغِي إِلَى معزوفاتِ عُمرِهِ وهيَ تنسكبُ بينَ يدي صباحٍ كركوكيٍّ يشتاقُ ويحنُّ إِلَى خطواتِهِ بذواقِ أفيائِهَا والانتشاءِ بملمسِ أصابِعِهِ الْحانيَةِ.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| كريم عبدالله : كلّما ناديتكِ تجرّحتْ حنجرتي.

مُذ أول هجرة إليكِ وأنا أفقدُ دموعي زخّةً إثرَ زخّة أيتُها القصيدة الخديجة الباهتة المشاعر …

| آمال عوّاد رضوان : حَنَان تُلَمِّعُ الْأَحْذِيَة؟.

     مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *