
إشارة:
مثل قلّة لامعة من الروائيين العالميين كإرنست همنغواي وإريك ريمارك وغيرهما خطّ الروائي العراقي “سلام ابراهيم” نصوصه بدم التجربة الذاتية ولهيبها. وفي اتفاق مع إشارة خطيرة للباحث الأناسي العراقي البارع د. علاء جواد كاظم الذي اعتبر روايات وقصص سلام إبراهيم من مصادر الدراسة الأنثروبولوجية الناجعة في العراق نرى أن نصوص سلام يمكن أن تكون مفاتيح لدراسة الشخصية الوطنية مثلما استُخدمت نصوص ياسانوري كاواباتا لدراسة الشخصية اليابانية ونجيب محفوظ لدراسة الشخصية المصرية مثلا. الفن السردي لسلام ابراهيم هو من عيون السرد العربي الذي يجب الاحتفاء به من خلال الدراسة الأكاديمية والنقدية العميقة. تحية للروائي المبدع سلام ابراهيم.
أسرة موقع الناقد العراقي
أتذكر إنني كتبت عن “سرير الرمل” المجموعة القصصية للقاص والروائي ” سلام إبراهيم” وها أنا ذا الآن أكتب للكشف عن مضنون ومضمون روايته الأخيرة “الإرسي” الصادرة عن دار(الدار) في القاهرة أواخر 2008 وما يثيرني في هذه الاستقراء الروائي هو أنني قد تعرفت على قاص وروائي من الطراز الخاص له ثقله وثقته بكل ما يكتبه من نصوص سواء كانت قصصية أو روائية تشكل جزءاً هاماً من مذكراته السيرية التي هيمنت على مناخ السرد العالي الذي يطفو على النص الذي لن يأتي من فراغ ، ولا يؤول إلى فراغ لأن النص حسب “ايكو” لا يقول ما أعتقد القارئ انه قرأه ، ربما كان منساقاً في ذلك وراء هواه ومزاجه ، فما بين قصديه الكاتب الصعبة الإدراك ، وبين قصديه القارئ ، هناك قصديه شفافة للنص تدحض كل تأويل هش ربما نقع نحن به إزاء هذه القراءة أو الرؤية المترعة بمخاضات النص الذي يمثل في ذاته حضوراً مكثفاً للروائي الذي راح يبحث عن تجربته الرؤيويه عبر الانغماس الكلي في الجسد واستنفاد كل الطاقات الجنسية والنشوة الصوفية التي يبقيها على طول المتن الروائي الطافح بهذيانات لفظية لا يمكن سبر أغوارها بسهولة لأن الحياة الخاصة لدى الروائي “سلام إبراهيم” شبيه بنصه الذي يحتاج إلى قارئ عنيد … قارئ حقيقي يفهم أن سر النص يكمن في عدمه ؟؟ ولا نريد هنا أن نكون أغبياء أو خاسرين ونقول ( لقد فهمنا)كما يقول “ايكو” لأن الذين لا يعيدون قراءة النص سيحكم عليهم دائماً بقراءة نفس القصة وهذا ما نخاف منه ومن “رولان بارت “الذي عدَ هذا جزءاً هاماً من قراءة النص الذي شكل تأويلاً أخر قد لا يدخل في حسبان الروائي “سلام إبراهيم” الذي أصر في نصه على أن الجنس(الجسد) يحمل في روحه العودة إلى فجر العلاقة الحية بين الرجل والمرأة منذ أول الخليقة ، وبهذا المعنى يحمل النص عريّ للعلاقة الحسية البريئة التي تشكل جزءاً حيوياً وطبيعياً من الوجود الذي قدس سره بمكاشفة نصية انمازت منذ الطلوع الأول بثنائية: (الجنس/ المحرم ، و(الموت/ المعلن )الذي يسطو به على ذهنية وذائقة القارئ الناقد أو ما يسمى بالناقد القارئ (المتخصص) الذي هو الأخر يحفر بأدواته المعرفية عن أثار وطقوس “سلام إبراهيم” المظلمة في غرفة المحذورات أو ما يسمى ب(الممنوعات الإرسية) ) التي يستحفرها على طول المتن الروائي المحصور بهكذا موضوعة منعشه لا تدعوا للاختفاء والاختباء والتستر عليها لاعتبارات إن الجنس هو الحياة ، والحياة بدون ممارسة هذه الطقوس هو الموت المعلن بطريقة”ماركيزية” اعتنقت مفهوم الحياة بكل أشكاله وتمخضاته الزمكانية (الحب في كل مكان ، وفي كل زمان، ولكنه يشتد كثافة كلما أقترب من الموت ) هذه هي فلسفة النص الروائي الواقع ضمن منظومة القيم والأعراف والتقاليد التي تحتاج إلى تعرية وفضح لذلك الازدواج الحاصل في ذهنية “الروائي” أولاً ، ومن ثم الشخصية العراقية(الشيزوفيرينية) الملغومة بإشكالية كبيرة تحكي عن مخاضات نفسية متوترة(مشوشة) بحلقة من العقد والمعاناة اللانهائية التي يبوح بها النص في زمن عمره ثمانية أعوام ابتدأً من صفحة(الإهداء) إلى أخر صفحة (262) عن هموم ومتاعب وأحلام وغربه وطفولة وشخصيات تحفر في الذاكرة العراقية بكل ما تحمله من أسرار ومكاشفات جريئة تعلن عن ذاتها للمرة الأولى في “أرسيه عراقية” يمهد من خلالها إلى شخصيات حية أعتبرها مشروع ذاكرته وعمره ومدينته التي قد تمنحه حق اللجوء إلى “الداخل” حيث الديوانية المدينة السمراء بأهلها البسطاء (حبيب الأجرب، رياض لفته ، حسن شطاوي ، مجيد حرز ، فليح حسن ،…..،….و….,..الخ)،

وان تمنحه حرية البقاء دون العودة والرجوع إلى مغامرات الهروب من الجندية ، والاختفاء في غرفة العمة “الإرسية” ومن ثم الالتحاق في جبهات القتال مع إيران أو نصيراً مقاتلاً في مهاوي وذرى جبال كردستان ضد الطاغية “صدام” الذي صير الحضارة العراقية إلى حرب ودمار يعشش في الذاكرة العراقية التي منحت هذا النص( الوافد) جوازاّ للدخول إلى حيثيات الداخل (الهروب والاختباء)في برزخ الإرسي ، وجوازاً للخروج من الداخل إلى حيثيات الخارج (برزخ الجبل) أنها”الإرسي” الرواية التي تحكي عن جدلية (الحرب والحب، الظلام والضوء ،الصمت والضجيج ، القيد والحرية ، الواقع والخيال ، الهروب والعزلة ) الثنائية المزمنة بأواصر متينة (رابطة) لا تنهار على الرغم من شراسة “الحرب” .انه صراع من أجل البقاء…من أجل الحياة …من أجل الحرية . المموضعة في حجريات بيت “العمة “المهملة التي اتخذ “الروائي” منها مخبئاً وملاذاً أمناً له رغم قساوة ومرارة الوقت الذي صيره إلى أن يكون”صرصاراً” على الطريقة الكافكوية ، أو يكون لصاً على الطريقة “الباربوسية” يراقب بحذر كل ما يدور حوله من مغامرات وطقوس سرية تحدث في بيت العمة الجميلة التي اشترطت عليه البقاء في عليته “الأرسية” طوال النهار ، ولا ينزل إلا لقضاء الحاجة أو للأكل إلى أن يجن الليل بصمته وحزنه وملامحه الموحشة التي انتشت لحظة الترقب والترصد بعين واحدة مثابرة أقعدته في عزلة موحشة ضيقة تشابهت فيها النهارات والأيام والليالي التي منحته في بعض الأوقات فضاء ٌ أوسع ولذة لم يجد لها متعة في مكان أخر . لذة في عشاق يسرقون القبلات ، ولذة تذوب في تكور المؤخرات الضائعة بالعباءات ، ولذة يعري بها الجسد المفضوح برؤية ضيقة مظلمة يبصرها من ثقب الباب ، ومن شقوق الجدران ، ومن زجاج النوافذ المغبر الذي أتيح له حرية التلصص على نهر الحياة من نافذة الدنيا بضجيجها ووجوهها المخرمة التي من خلالها يشترط علينا (الروائي ــ البطل )بعض الرؤى المتخيلة والمشوشة التي خلطت الواقع بالمخيلة ضمن جدلية العيش مابين(الواقع) الذي تعيشه الشخصية (البطل) ، وكأنها في أمكنة الكابوس والخيال ، ومابين(الخيال) الممزوج بالواقع الحاضر وكأنه في أمكنة الواقع الذي يُستدرج ضمن الذاكرة(المنظومة المشوشة)المتحجرة في بعض الأحيان جراء الخوف والرعب المستديم الذي ينتاب الشخصية ويفترسَها علناً في عز النهار، وفي صمت الليل الذي يبقيه دائماً في عزلة متوحشة (مظلمة) جراء الهروب من الجيش ، وتحسباته لكل شاردة وواردة قد تلقي القبض علية ويعدم؟؟ أنها الحرب( العفريت) الحريق الدائم الذي لا يريد أن ينطفئ من ذاكرة (الروائي ــ البطل) بشخصياتها الزيتونية المرعبة ، وبمخاتيرها الأشاوس؟؟ بالتقارير والمذكرات المرفوعة حصراً بكل بيت وشارع وبلوك وحي ومدينة . إنها اللعنة والازدواجية التي صيرت (البطل ـ الروائي) إلى شخصية مركبة(قلقة / مشوشة/ خائفة/ مضطربة/) ، وصيرت (الروائي ــ البطل)إلى مسرود متخيل بالكثير من الأختلاطات المشوشة التي أقعدت النص منذ البداية بسيرة ذاتية لكاتبها الذي رفض الحرب (الموت) بالفرار من الجيش ، والتسلل من الجبل ليكون مع الحياة… مع الزوجة.في دهاليز العمر المخيفة التي لاتغادر “الظلمة ” الطاغية التي جردت الضوء من سطوته ونصوعه الذي يظهر على شكل بقع داكنة أو أضواء قمرية فجريه ، وأحيانا تكون نارية أو بنفسجية تنسلل من ثقوب الجدران.” أليس الظلام هو الأصل؟ وما النور إلا لطخة منسية في غوره العظيم” ص42 إلا يذكرنا هذا بفحولة (نوال السعداوي) في ” الأنثى هي الأصل”التي شكل منها “سلام إبراهيم” دلالته الذكورية المشار إليها ب(الظلام، والعتمة، والأمكنة المغلقة الرطبة التي يلملم بها أشتاتهُ المبعثرة مابين ” الهنانك” ليمتلك به الدنيا بسمائها وأرضها ” في الغرفة المعتمة نمتلك الدنيا كلها بسمائها وأرضها “ص49 جراء عزلته الموحشة التي صيرته في بعض الأوقات إلى (مومياء) تعتنق الظلمة بكل أشياءها المخيفة والمرعبة ، والى “كائن حجري ” يلتصق بالجدار الذي طالما احتجزه وهو يسرق الرؤية بعين اليمين لا بعين اليسار؟ عين أرهقها التلصص من ثقب الباب ، أو ثلم في الجدار وأحيانا أخر يجرد أو بالمعنى الدقيق يعري الروائي (الضوء) في مكاشفه مفضوحة الشكل( في ضوء الممر العاهر أجلسته على سلالم السطح واعتلته كما تُعلى الفرس) ص108 وفق هيكلية (المبنى) النص الروائي الذي يأخذ من (الأحواش ،والغرف المظلمة ، والجدران المثلومه ، والممرات ، والنوافذ المغبرة ، ،والسطوح ، والسقوف، والأركان ،….) مكاناً ومنفذاً متسعاً يؤثث به مناخاته السرية(طقوس في ظلام) الطافحة بأجساد عارية ومتعرية (أجساد نائمة، صبايا مكشوفة الأفخاذ ، نسوة ناضجات مهجورات في بحر الأفرشة عاريات تماماً، أجساد تتعانق غافية، أجساد طافحة بالشهوة والعذاب.، أجساد ملساء، …و…،و…..) لذلك نجد إن عين الروائي(البطل) الملتهبة بأمكنة النساء منذ الطفولة كانت دائماً ما تقع على (سرير النوم ،والأفرشة ، والصدر العاري ، والنهدين البيضاوين ،….و….و…الخ)، وفي هذا عودة إلى أيام الطفولة(من يومها لم أكف عن الاختباء في حجرة المخزن للتلصص والابتلال الذي عاد لاحقاً غير مصحوب بتأنيب الضمير)ص75 وعودة للفراش المشترك الذي جمعه اخأ وحيداً لسبعة أخوات جميلات كنّّ” ّفي غمرة النوم يتحسسن جسده بأصابعهن الناعمة الغافية”ص139 ، وعوده لـ”غرفة نوم العمة المفتوحة تحت ناظريه المتوقفين على سريرها المرتب”ص33، و”للغرفة الضيقة المزدحمة بست نساء ، والفائحة بروائح الأنوثة والعطور السرية المسكرة” ص133، وفي كل هذا يجد متعة حالمة غاطه بفراغات الأسئلة (العافطة؟)التي تقتحمه منذ الطفولة حين يجد نفسه غير قادر على فهم لحظته التي التبست فيها كل الأفكار والأحداث والمشاهد والأزمان والمعاني (أين أنا؟. وما متاهة اللذة هذه؟.)(لم هو هنا؟..لماذا يجري له ما يجري؟.. وعلام هذا القلق والتوتر؟..وأين يبغي في الغد؟) ، وهذا يدل على تمسك الروائي بالحياة حتى في حالة (الموت) نجده يعري الجسد (الحي) ويسقطه فوق الجسد(الغافي) الميت ليشكل لنا علاقة حميمة مابين الجسد الحاضر(الحي) الذي يعري ذاته بذاته, والجسد الغائب(الميت)المتعري من ذاته (في الصمت الخاطف ..أزاحت الأزرار ثانية ، وسقطت فوق الغافي عارية ممدة على طوله ..ظلت هكذا دون حراك)ص32 وبهذا نستشف إن للجسد حضور ملفوف بالأسرار ينام بين ضلوع النص (الجسد) ،وهذا يؤثر بدوره على عملية التنفس لدى الروائي الذي بدء يتنفس حريق الجسد المجنون بكل تمخضاته الغريزية بما فيها من( شهوه ،وألم، وأهات وعذوبة،و متعة ، وعادة سرية)يستنطقها بعذوبة الوحدة الساطعة في ظلمة( الفراش ، والغرفة ،والعناق العاري ) إزاء جبروت(الزوجة) وعنادها المطلق غير العابئ (لا بمحبه ، ولا بعائلة ، ولا بتقاليد) لا يعطيه أي شعور وأي أحساس به ” أنها لا تحس بيّ، ولا تشعر حتى بحماستي الزائفة “ص 111 ورغم حماسته الزائفة التي يشعر بها تجاه الأخر الذي قد لا يريده في بعض الأوقات نجده يتعلق بشكل جنوني بأميرته الملحدة التي تقوده كخروف ضال ؟؟ يحتضنُ به حضورها وحنانها الهارب في كل لحظة خوفاً من (إشكالية الوجود ) الضياع الذي يبحث من خلاله على الذات من اجل الذات ، وبالتالي نستشف بان الجسد(خشونة الفحل) لا يستطيع أن يتذوق الدنيا دون “الجسد” الذي ينضح ويضج بالأنوثة ، وهذا قد يشكل إشكالية بين الطرفين: إشكالية (الأنثى) التي تحلم بمدينة ماركس الفاضلة ،وتحلم بالثورة وبجيفارا الثائر ، وإشكالية(الذكر) البطل الذي ” لم يكن ملحداً مثلها” هو الأخر يحلم بمدينة بعيدة عن ماركس والثوار ، مدينة لا حروب فيها ولا خوف،شوارعها خالية مهجورة ، وهذا ديدن “سلام إبراهيم” الطيب القلب إلى حد السذاجة الذي لم يفكر لحظة في إيذاء الآخرين منذ الطفولة الساحرة التي منحت هذا النص مرتعاًَ خصباً لكل الأفكار والأحداث والمشاهد والأزمان والمعاني التي اختلطت وتداخلت في رأس الروائي(البطل) وصارت تشبه بعضها جراء تواجده في الأماكن المظلمة التي أتلفت الذاكرة “ثمة مسحٌ في الذاكرة لدىّ ” ص192 ، و(ثمة من شطب ذاكرتي وطمسها في بطون الظلمات )ص195 ضمن إرهاصات الجسد الأنثوي المعسكر في ترسانة ضاجة بالصراعات والأستيهامات التي من خلالها يستطيع أن ينحت كل التفاصيل المرافقة لماهية ولعنة(البيضات) بياض الجسد العاري الشاخص إزاء الظلمة المتوحشة التي يستنطق بها معنى الوجود الذي يعانق به الجسد(الحياة) المتجدد في ثوب السواد العظيم الذي أصبح
فيه مذعوراً من فكرة “الموت” التي استدعاها في الربع الأخير من النص ليكون شاغله الآخر وفق التساؤلات المبهمة لذلك الوجود أو العدم المطعون بصحوة الموت المتأخرة بضبابية الأسئلة الوجودية التي لم يجد لها تفسيراً منطقياً لتعشقه بـالظلام (لولا الظلام لفضحه ارتجاف جسده) ، والعمى( منذ أن أصابني العمى، لم أر نوراً) واللاضوء ،واللارغبة ,واللاإحساس، واللاشعور(لا أشعر بشيء سوى بالسواد الطاوي كينونتي)، واللاشيئية،( لاشيء خلفي ولا إمامي) ،وبالتالي يستدرجنا الروائي ضمن منولوج “رباني” إلى أن نفسر نصه الضاج بالأسئلة بعد أن ضاقت به السبل لإيجاد معنى واضح للوجود وإلا ماتفسير وجوده عارياً ملطوشاً في الطابور الأعمى.. وما معنى قدرته السالفة على العوم والتقلب والغوص في أحشاء الظلمات ، وما دلالة الأمكنة المدفونة بتراب الظلام…
تساؤلات لطالما كانت بحاجة إلى إجابة واضحة .. لذا انماز هذا النص بالإنسانية أولاً وبلغة سردية شعرية عالية فيها الشيء الكثير من الصدق والمحبة والطيبة والوفاء إضافة إلى الجرأة الكبيرة التي حملها النص في تدوين “التابو الجنسي” وبالتالي هي مكاشفة وفضح لكل الأعراف والقيم والتقاليد الصارمة التي تمنع كل شيء في العلن وتبيح كل شيء في السر.. ..هكذا هو”سلام إبراهيم” في رواية ” الإرسي”