مدخل لابد منه..
في أوّل رسالة تعارف كتبت له بخط خجول:
ـ أمنيتي الخالدة، أن أكون لك، أو.. أموت معك!
***
صمت طويلاً، كان غارقاً في أشياء قادمة من أعماق الكلمات، مثل أسماك صغيرة تجتهد ضد تيارٍ جارف، هاربة من حيتان عملاقة، عالم غامض في الماء يتشكل، هناك على جرف النهر وقف كثيراً، هارباً من ضوء غامض ومنعش سكنه، جاء يبحث عن نفسه، اكتشف رمال هائجة، اكتشف غابات تمشي، طوى الورقة، عصرها من غير شعور، لثمها بثغر يرتجف، وحين أفاق من نشوة الحلم، وجد الورقة مركباً شراعياً يتراقص في النهر، لم يكن يعرف السباحة، فظلّ يمشي على الجرف وراء مركب الحلم.
***
لقطة: [ ظلام كثيف، تخترقه أشعة النجوم، غابة كثيفة لأحراش وقصب وبردي، ضجيج ونقيق ضفادع وحشرات ليلية، شبحان يمشيان، يدخلان منطقة الوضوح، فتى وفتاة، يبدو عليهما الخوف والتوجس، يتلفتان إلى الوراء، إلى اليسار، إلى اليمين، يتوقفان برهة، قبل أن يواصلان السير ببطء]
***
حوار:
ـ بدأت أرتجف.
ـ أمتار قليلة يا عزيزتي ونجتاز الحاجز، تماسكي قليلاً يا حبيبتي.
ـ عليهم اللعنة، لم سدّوا المسالك هذه الليلة، يا لحظنا الخائب.
ـ يبدو أنهم شمّوا رائحة حبنا.
ـ يا رب أتم رحلتنا بسلام.
ـ ليس بيننا سوى أمتار يا عزيزتي، تماسكي، ذلك هو معبر حلمنا.
***
لقطة:
[ مركبات حربية متأهبة، متراصة بشكل نسق على طول الشارع الرئيس المحاذي للمستنقع، تشرخ الصمت رشقات رصاص باتجاه المستنقع]
***
لقطة:
[هذيان بشري يرتفع من بين الأحراش، أنين امرأة، فتاة، شيء من هذا القبيل، النجوم تشع وتذوي، عينان من داخل الظلام تحاولان الكشف عن ملامح الأشياء، قامات طويلة، هي قامات القصب والبردي والأحراش المتشابكة، تتحرك، يميناً.. يساراً، برد يواصل حفر الأعماق، بطبيعة الحال ليس برد الطقس، فالوقت هو ليلة تموزية خانقة، البرد يضرب حيث موطن الخدر، يمشي عبر عروق بدأت تتكاسل، هذيان.. حشرجات.. أنين..]
***
صوت:
( آآآه.. أغثني، آآآه.. تعال، أين أنت، لا تتركني، تعال وخذني، ما هذا الظلام، ما هذا البرد، لم تتحرك الأشياء، لم تدور الأرض، آآآه.. لم تمطر السماء ثلجاً، أين أنت يا حبيبي، خذني معك، ألست أنا لك، لم تتركني، تعااال، لا أطيق هذا البرد، عيناي بدأت لا تريان، أين اختفيت يا روحي، تعاااال.. تعاااااااااااااااا..)
***
لقطة:
[ تمد الفتاة يديها، لهاثها يتواصل، تريد الوصول إلى جسد تراه يتضح شيئاً فشيئا، جسد خالد، لا تعلم الفتاة أنه ميت، مات وتركها تحتضر، الموت تسلل سريعاً إليه، رغم أنّ الموت جاء مثل السهم وخرق الجسدين في طرفة عين، الفتاة مرتمية على عشب ندي، يحاذي المستنقع، صمتت ضفادعه عن النقيق، والحشرات الليلية عن الطنين، ما أن شرخ المكان صوت اطلاقات، لابد من حيوانات مثل الثعالب خمدت أنفاسها خوفاً، فالمستنقع كبير يشرخ بلدة جلبلاء إلى نصفين، في المستنقع تحدث معارك بين مجاميع كلاب كثيرة، يتواصل صوت النباح حتى الفجر، الفتاة تموت قليلاً قبل أن تنهض لتهذي..]
***
صوت:
[ لم تأخرت كثيراً، آآآه.. يا موت تعااال، لا تأخذه وتتركني، خذني معه، لم أخذته وتركتني، لم يا حبيبي تأخرت، آآآه.. لا أحتمل هذا الألم، كيف تتركني وتذهب، لم أنت تسكت، لم تنظر بشكل مخيف نحو السماء، تعال وخذني، أما تتذكر، أرجوك لا تقل نسيت، كنت أقول لك، لا أطيق لحظة واحدة على فراقك، ألم تعطيني صورتك، ألم تقل: ضعيها أمامك، ضعيها تحت وسادتك. تعااال، أي شيطان جاء وقطع حلمنا، ألم تقل: الحب خبز الحياة. أنت قلت هذا الكلام، لا.. لا.. أنا لم أقله، أنت همست في أذني هذا الكلام، آآآه.. ألم أكن حلمك، أنا قلت لك أنت حلمي، أنت أملي، آآآه.. من أين جاءوا، لعنهم الله، هل الحب جريمة سياسية، حاربوا كل شيء، حتى حبنا لم يسلم منهم، آآآه.. لم تأخرت، كنت غزالة ترتع في براري أشواقك، ياااااه.. كلماتك الآن تنهض، تزحف من أعماقي، يااااه.. أراها مناشير أضواء ساطعة، يا لجمال الدنيا، تعااال، لننهل من هذا الفرح، آآآه.. كنت تهمس في أذني ليل القبلات: أنت غزالتي. آآآه.. تعااال، اشتقت لقبلاتك يا حبيبي، تعااال، أحرث هذا الألم من جسدي بلسانك الحار، تعااال، أنا.. أنا.. كنت أصيح غزالتك، أنت تضع أناملك على فمي، تكتم صرختي، أنا أريد أن أُسمع العالم فرحتي، أريد أن أتحدى الجيوش الزاحفة لتدمير بلادي، آآآه.. أين هي أناملك، تعااال، لا تتركني أموت وحدي، دعني أموت في حضنك يا روحي، آآآه.. كنت ترفع أناملك من فمي، لا.. لا.. أنا لم أعاهدك على السكوت، فقط كنت أريد أن أتنفس قليلاً، أملئ رئتي بالهواء، يااااه.. كنت تقول: علينا أن نعب كمية مضاعفة من الهواء. كنت أقول: لم ياروحي؟ هل تغيرت قلوبنا؟ كنت تقول: هواءنا أصبح فاسداً مذ داس أرض بلادنا أحذية العدو. آآآه.. تعااال، هذا الهواء أصبح كما قلت فاسدا، كل شيء من حولي يفقد روحه، آآآه.. كنت أرغب أن أصرخ من جديد، دائماً كنت أرغب أن أملئ الفضاء بصرختي، كنت أريد أن أهتف يا كلاب العالم لن تسكتوا صهيل حبنا، دائماً كنت تخمد براكين فرحي بأشواط قبلات، راضية كنت، آآآه.. تعااال، أين أنت يا حبيبي، كنت أقف وأرقص، كنت تضحك، تضع يدك على فمك وتضحك، كنت أحاول أن أسحب يدك من فمك، كنت أريد أن يسمع العالم ضحكتك، آآآه.. كنت أنهض من بين أحضانك وأهرب إلى الليل، كنت تهرب خلفي، كنت تخاف أن تكتشفنا العيون، تخاف من عيون الطائرات الحربية، كنت تقول: طائراتهم ترى النمل في الليل. كنت تقول: أخشى أن يستهدفنا طيّار وينتقم منّا. كنت أقول: لا أخاف طياراتهم، هم جاءوا ليسرقوا بلادنا. كنت تقول: يا عزيزتي، الحب أقدس ممتلكات بلادنا، جاءوا ليسرقوا الحب منّا، حين نفقد الحب لا قيمة للوطن، تلك هي فلسفتنا في العيش. كنت أقول: وماذا يعملون بحبنا، أنه لا يليق بهم. كنت تقول: يريدون موت حضارتنا. أبقى طويلاً كي أفهم كلامك، كنت تفهمني كل شيء، تفهمني السياسة، كنت تقول: السياسة عدو الحب. آآآه.. كنت أتعب وأقول لك: هيّا نواصل حبنا على عنادهم. كنت أركض داخل فناء البيت، أنت تركض خلفي، تريدني أن أتوقف، تريدني أن تسحبني لمزرعة عواطفك، ياااه.. كم كانت فواكه مزرعتك مغرية، آآآه.. ضاع كل شيء، ضاع حلمنا، ماذا فعلنا؟ أردنا بيتاً صغيراً يؤوينا، أردنا أن نبني عشاً على شجرة الحب، آآآه.. أين أنت؟ لم اختفيت مرة أخرى؟ لم الظلام يعود؟ لم البرد يأتي؟ لم النجوم تنفلق؟ تعااااااا..]
***
لقطة:
[ تحاول الفتاة الوصول إليه، هو يتوحد ببهاء الصمت، ناحتاً عينين مشعتين نحو الفضاء، تشعر باستحالة الحركة، يداها تحاولان اختصار المسافة، هي تشعر بأنها تواصل الزحف، تجهل أنها محاولات ذاتية، جسدها نابت على العشب الداكن، الضوء كامل، يأتي من النجوم المتلألئة، كل شيء من الممكن رؤيته بوضوح، جسده الغارق في موته، جسدها المرتجف، الأحراش، نقيق الضفادع بدأت تعود للمستنقع، رأسها منحوت في جهة الجسد الخالد، عيناها جامدتان، أنين يتواصل، حشرجات ينتشر، نقيق، طنين..]
***
مشهد:
[ الفتاة تطل رأسها من باب البيت، الزقاق يخلد لصمت متخثر، نباح كلاب من بعيد يتواصل، تعود إلى الداخل، مرتبكة، عيناها تجولان في كل ناحية، نفسها عميق، شهيقها مفضوح، تصعد درجات السلّم الخشبي، تلقي نظرة من وراء السياج الطيني لسطح البيت، الصمت ثوب العالم، تستقر نظراتها، هناك حيث شمس الحياة كل صباح تظهر، من هناك يأتي فارس الأحلام كل ليلة، مثل مركب شراعي يعود من رحلة صيد موفقة]
***
صوت:
( أين أنت؟ لا تدعني اكتوي بنار الحيرة، متى تجيء، تعال لنذبح طائر الخوف على حجر اليقين، الليلة نقول الحقيقة، لن أتراجع عن قراري، أرجو أن تكون شجاعاً مثلما عهدتك، لم كل هذا التأخير؟ لا داعي للتفكير، أعلنا موعد حياتنا، تعال، لا أطيق نيران الانتظار، لم تأخرت يا روحي؟ عليك أن تخترق الحواجز، عليك أن تحارب من أجلي، تعال، هناك نزرع مسراتنا في حديقة الحب، لا تخشى أقوال الناس، ليقولوا ما يرغبون، حبنا صخرة يا روحي، كل شيء سيتضح، ستصفق لنا الناس، سيقولون في هذا الزمن القذر، زمن الحروب والمجاعة، زمن التكفير والتهجير، يوجد شبّان شجعان، تعال، لا تدعني أنتظر، لا أطيق الوحدة، الليل يلتهم ساعات الحياة، لم كل هذا التأخير؟ لن ننهزم مهما كانت العوائق، أخاف أن أنهار من هذه اللهفة، تعال، ليس كل ما يقال لصالح الحياة، ألم تقل: الحياة وقودها المغامرة. تعال، لنكن روميو و جوليت هذا الزمن، ياااه، ما زلت أحتفظ بالقصة كاملة كما حكيتها لي، لنا عزيمة ولنا إصرار، الليلة يا روحي، الليلة سنبرهن أننا نستحق الحياة، الليلة سيختبر حبنا، لم تأخرت، لم أعهد فيك هذا التأخير من قبل، هل هناك مانع، تعال، علينا أن نقاتل من أجل حبنا، أين أنت، أووووووف ربي، لم كل هذا الشقاء، أووووووووو..)
***
مشهد:
[ يظهر الفتى من بين الظلام، تتنفس الفتاة براحة تامة، تغمض عينيها وتسحب الهواء، تزفر شهيقها بأنين، يتقدم الفتى نحوها، يتلفت وراءه، تهرع الفتاة إليه، يفتح ذراعيه ليحتضنها، تجهش الفتاة، يحاول تهدئتها، يتواصل صوت ربتات يده على ظهرها، تسحب الفتاة نفسها، تنهال على وجنتيه، صوت قبلات يتردد في الظلام..]
***
حوار:
ـ لم تأخرت؟
ـ الأزقة ملغومة بالعسكر.
ـ وكيف أتيت؟
ـ أحياناً كنت أزحف، كلما تتاح لي فرصة مناسبة.
***
مشهد:
[ في غرفة قليلة الإنارة، يجلسان معاً، فوق رأسيهما لوحة كلمات.
تقول الكلمات: )لا أريد شيئاً، / لا أخاف شيئاً، / أنا حر.. / كازنتزاكي)
يبدو التعب عليهما، الفتاة شعرها يتناثر على وجهها وكتفيها، في عينيها بقايا دموع، الفتى مسكون بالصمت، مثل صمت البحار قبل هبوب الأعاصير، مثل صمت جبهات القتال قبل الهجوم]
***
حوار:
ـ كيف نمر والبلدة محتلة؟
ـ دعيني أخمد نيراني أولاً.
ـ أنت مختلف هذه الليلة؟!
ـ لم أجد مسلكاً من غير أسلحة متأهبة للحرب.
ـ عليهم اللعنة، حتى الليل أحتلّوه!
ـ لم أعد أحتمل البقاء هنا.
ـ علينا أن نخرج.
ـ دعيني اتخلص من القلق أولاً.
ـ لا عليك، القلق شيطان البغضاء يحاول قتل حبنا.
ـ يجب أن نغادر، أنهم يريدون تفريقنا.
ـ سأرافقك أين تريد، المهم أن ينتصر حبنا.
***
صوت:
( آآآه.. كلماتك ما تزال ترن في صدغي، ما زلت احتفظ بحرارة عناقك، تعاااال.. لم يا روحي فعلت هذا؟ آآآه.. حملتني ورحت تدور بي حوش البيت، أنت لم تفعلها من قبل، آآآه.. كنت أضحك، وكنت تمنعني من الضحك، كنت دائماً تقول: لا ترفعي صوتك، العدو في الزقاق. فقط هذه الليلة أطلقت حريتي لأفرح كما أشاء، لما لم تقل لي ذلك؟ كان يجب أن تبوح لي بما تعرف، ألم نتعاهد على الصراحة، ألم تقل: الصراحة مفتاح خلاصنا من التعاسة. كان يجب أن تعلمني بما في خيالك، كي أشاركك الفرح، لو قلت لي ذلك، لكنت أرقص وأضحك وليأتي الموت كيفما يرغب، عبر طلقة أو صاروخ، لا.. لا.. يا روحي لن أخشى الموت، كل كائن يجب أن يموت، الموت معك غاية الحب، ألم تهمس في أذني: لم أجد فتاة تحمل شجاعة في الحب مثلك. في البدء زعلت من كلامك، صمت، سامحني، كنت أتصور أنك خضت تجارب كثيرة في الحب، قلت: لا تفهمي كلامي كما تصورت. قلت: أنت أشجع فتاة في الحب. كنت تمطر فمي بالقبلات، كنت تشم رائحة عواطفي، كنت تعصرني، سامحني، قلت لك: أنت أملي. قلت لك: لا فتى اهتدى لمملكة رغباتي غيرك. ألم نقسم على أن نموت معاً من أجل حبنا؟ ألم نتعاهد على هدم كل الحواجز أمامنا؟ تعاااال.. أرجوك.. آآآه.. بنيت حبّي من كلمات الصدق، نثرت من أجلك دموع اليقين، كنت أراقبك بخيالي أينما تكن، أراك من مسافات نائية، رسمك في قلبي، أسمع صوت قدميك، أميزها من بين كل أصوات أقدام العالم، حتى بساطيل العدو لم تلوث نغمة أقدامك، لم تتركني وترحل؟ ما زلت أحتفظ بكل همسة من همساتك، ما زلت أحتفظ بكل جملة قلتها لي، ياااه.. ألم تقل: أحبك حتى آخر لمسة ضوء في عيني. لم أستطع مسك مشاعري، أجهشت بنحيب أنت أوقفت بحر دموعه، قلت: لم تبكين وقت الفرح؟ لا.. لا.. يا روحي، كلّما كنت معك، أشعر بحجم السدود أمامنا، آآآه.. عاد الظلام، عاد البرد اللعين، بدأت النجوم تنفلق من جديد..آآآآآآآآآآآآآآ..)
***
مشهد:
[ الفتى والبنت يجلسان تحت لوحة كلمات على الجدار.
تقول الكلمات: أعرف أن هذا القلب لم يخلق أبداً لحبٍ طويل، / غير أنّ شيئاً يتوقد فيه، / غريباًً جداً،/ قلقاً جداً، / لا يعرف التدجين، / ماثيو آرنولد]
***
حوار:
ـ حاولت أن أقنعهم.
ـ ماذا يريدون؟
ـ قالوا هو كردي ونحن عرب!
ـ أليس الدين يجمعنا؟
ـ الصخور لا تحطمها الكلمات.
ـ علينا أن نطرق عليها بمطرقة الحب.
ـ هذا خيارنا الوحيد يا حبيبي.
***
صوت:
( أرجوك.. أنهض، ليس هذا وقت النوم، لم لا تجيب؟ لم أعهد فيك هذا الصمت، هيّا قم وخذني، أحملني لنرحل، لم تأخرت؟ آآآه.. نهداي تؤلماني، أنت السبب، نعم أنت، ألم تعصرهما؟ آآآه.. كدت تنهش وجنتي بلسانك، ياااه.. أشعر بحرارة لسانك، فرحت حين رأيتك، أعذرني، بكيت من الفرح، قلت: جاء حبيبي ليخطفني. قلت: جاء حبيبي ليخرجني من هذا العالم القاسي. قلت لنفسي: يا بنت دعيه يفعل ما يشاء، هو جائع، هو عطشان. آآآه.. هيّا قم ونرحل، الفجر في الطريق، سيكتشفون أمرنا، قلت لك: لا تجهز عليَّ دفعة واحدة، دع بعض فواكهي لرحلتنا، هناك سأفرش فواكه مزرعتي أمامك، هناك يا روحي يحلو الحب. هيّا.. لا تصمت كثيراً.. آآآه.. آآآه.. ما هذا البرد اللعين، لم تنطفئ النجوم، ألسنا في الليل؟ لم تختفي؟ أين اختفيت؟ آآآه.. آآآآآآآآآ..)
***
مشهد:
[ تتواصل المداعبات، تتواصل القبلات، أشياء وامضة تتساقط، تمتد الأيدي لتضعها في سلّة الحب، ينهض الفتى، تنهض معه، يمسك يدها ويقودها إلى الجدار المقابل، يقفان تحت لوحة كلمات:
تقول الكلمات: / مرة واحدة، مرة واحدة فقط لا غير، / رفعت عينيها، / وفجأة أحمرّت خجلاً على نحو عذب، / غريب، / لتجد أنهما التقتا بعيني../ تنيسون]
***
حوار:
ـ أعجبتني كلماتها فاقتنيتها من أجلك.
ـ بدأت تغوصين إلى أعماق الكلمات؟!
ـ من تحب شاعراً عليها أن تفتح حواسها للرياح العاصفة.
ـ ليتنا نكمل هذا المشوار؟!
ـ الطريق إلى سعادتنا تبدأ من هذه الليلة.
ـ آه.. أرجو أن تتزودي بالشجاعة، فالقرار الذي اتخذناه، قرار حياة.
ـ تدارست الأمر من كل الاحتمالات، وجدت الطريق إلى حلمي تبدأ من مغامرة.
ـ كنت أتمنى أن نحصل على فرصة أمل، من الممكن أن نجد بوادر الرضا.
ـ لم تنفع كل الجهود، القرار انتهى، أنت كردي، لا أحد يقتنع بكم مهما أبديتم من معجزات.
ـ أأمل أن أثبت للعالم صدق نواياي.
ـ من أجل إصرارك النبيل أنا اتبعك.
***
صوت:
[ آآآه.. احتويت كفي، لكم فرحت برغبتك، فرحت لإصرارك، قلت: مادام يريد سعادتي، علي أن أثبت جدارتي به. قلت: يجب أن أخوض هذه الحرب، طالما حبيبي يريد الحياة، وأنا أيضاً أريد الحياة، يجب أن أكون ساعده وسنده، طالما يريدني، سأرحل معه، ليس بوسعي أن أبقى في عالم يريد تدمير زوابع العشق الذي يسكنني. آآآه.. يريدون منّي أن أرتبط برجل فان، رجل جاء يعرض ماله، رجل كبير، لديه جيش أطفال، لديه امرأة عليلة، رجل جاء يريد أن يجدد عمره بي، ضغطوا علي، كان يجب أن أنهي النقاش، نعم يا حبيبي، علي أن أرافقك، لا.. لا.. لن أفرط بالحلم الذي سقيته بدموعي، لن أدع شجرة عواطفي تجف، وأمتلك خزيناً هائلاً من المطر، نعم يا روحي سأغامر،من أجلك، من أجل الحب، من أجل الحياة، فحياتنا القادمة تستحق المغامرة، لا.. لا.. ليس هذا خروجاً من بيت الطاعة، أنا أمتلك إرادتي، أنا بنت تفهم الأمور، أنا أعرف أين موطئ قدمي، آآآه.. تعاااال.. ألم أعاهدك على الموت معك؟ لم تركتني؟ لم لا تصطحبني معك؟ آآآه.. ما هذا البرد، أنه جليد يصقع روحي، أين اختفيت؟ أين؟ لم تظلم السماء؟ أين ذهبت النجوم؟ آآآآآآآ..]
***
لقطة:
[ المركبات الحربية تواصل شرخ الظلام بمصابيحها، البلدة متخثرة تحت ظلام دامس، المستنقع مغتصب من قبل ضجيج الضفادع، طائر الطيطوى يشرخ الفضاء بصياحه، أنين خافت يتواصل، حشرجات متقطعة، أصوات كلاب بدأت تنبح..]
***
مشهد:
[ الفتى يحدق في سقف الغرفة، الفتاة تنظر إليه، على ثغرها ابتسامة لا تريد أن تنطفئ، تنقل الفتاة نظرها إلى حيث ينظر، يشعر الفتى بها، ينحت عينيه فيها، تتأوه الفتاة، يمد يديه، يسحبها من يديها، ترتمي الفتاة برغبة في حضنه]
***
حوار:
ـ لم تنظر إلى السقف؟
ـ لا أعرف!
ـ لابد أنك تبحث عن شيء؟
ـ هذا السقف يخزن أسرارنا!
ـ من يدري ربما له عيون، مثلما الحيطان لها آذان؟!
***
صوت:
( آآآه.. ما زلت أتذكر يوم رأيتك، كنت مع صاحبتي، كان الوقت ظهراً، كنت تقف على الشارع، رأيتك من بعيد، قلت لصاحبتي: ولد غريب واقف في المكان. قالت صاحبتي: ربما يريد مركبة. في ذلك المكان، كان يقف ولدٌ له صلة قرابة بصاحبتي، كان يأتي ويقف، كل يوم نذهب إلى المدرسة، نجده تحت مظلة دكان متروك، قالت صاحبتي: يأتي من أجلي. في ذلك اليوم، وجدتك يا حبيبي تقف، قلت لها: من اليوم المكان لي. قالت لي: هل يقف من أجلك؟ لم أجبها، كنت غريباً، لم أرك من قبل، آآآه.. كم كان يوماً جميلاً، مررنا بك، كنت تنظر إلى الأرض، رمقتك، رفعت رأسك، التقتا عيناي بعينيك، شعرت بشيء خرق كياني، في البيت يا حبيبي، وقفت أمام المرآة، وقفت طويلاً، أريد أن أعرف مدى التغير الحاصل في جسدي، لم أنم الليل، في اليوم التالي وجدتك تقف، قالت صاحبتي: ربما يقف من أجل واحدة. قلبي رجف من كلماتها، تمنيت أن أكون أنا تلك الواحدة التي كنت تقف من أجلها، آآآه.. يا لسرعة الحب، قل لي: لم كنت تقف؟ أنا لم أطرح هذا السؤال من قبل، هل كنت تريد واحدة، ألم تقل لي: أنتِ صيّادة ماهرة. نعم اصطدتك وربطت مصيري بك، أتتذكر أوّل ورقة بعثتها لك؟ قالت لي تلك الطفلة التي حملت مستقبلي بكفّين من نور: لم يستلم الورقة منّي، رميتها أمامه وركضت راجعة. لما لم تستلمها؟ ربما وجدت فرصة مناسبة ورفعتها، قل لي: أين مصير تلك الورقة الأولى؟ لما لم أسألك عنها طيلة هذه السنوات؟ يااااه.. الحب يخنق كل شيء، فقط يسمح للرغبات الفائرة أن تتفسح كيفما ترغب في ساحة اللقاء، آآآه.. عاد البرد، عاد الظلام.. آآآآآآ.)
***
مشهد:
[ ساحة عامة، يجري عليها احتفال، شباب يرقصون، نساء يرقصن، حشد من الصبيان يواصلون التصفيق مع طبل ومزمار، عروس وعريس يجلسان معاً، من فوق البيوت فتيات واقفات، فتاة كانت ناحتة عينيها في فتى غريب، كان يقف بصمت، أحياناً يرفع عينيه، يرتجف جسده لابتسامة تنطلق كالوميض من ثغر الفتاة]
***
حوار:
ـ لم سكنتم في زقاقنا؟
ـ من أجلك!
ـ أرجوك قل الحقيقة!
ـ الحب قرر ذلك!
***
صوت:
( آآآه.. أين اختفيت؟ لم تذهب وتعود؟ هيّا قم، الفجر يقترب، كان يجب أن نكونَ الآن قريبين من حلمنا، لم تأخرت؟ قلت لك: لنذهب. لا أعرف لم أرجأت رحيلنا؟ لابد هاجس الموت سكنك، ماذا تقول الناس عنّا؟ أرجوك خذني معك، لا تمت وتتركني، لا أريد البقاء في هذه الحياة، خذني معك، هناك سيعطيننا الله بيتاً يكفينا، ألسنا شهداء قضية، ألم تقل: الحب قضية كبرى في مجتمعنا. حبنا أصبح من الآن القضية الكبرى في البلدة، ربما في البلاد، ربما في العالم، لابد أن العالم سينشغل بنا، الأعداء حولونا إلى روميو و جوليت، لعنهم الله، لم قتلووووووك يا روحي؟ آآآه.. أتتذكر يوم العرس، لم يا حبيبي كنت تخاف من نظراتي؟ كنت أنحت عيني فيك، العالم كلّه مشغول بالفرح، وحدي كنت أصنع فرحي، قلت: لأكتب له ورقة، سأعلن حبي له. أتدري لم كتبت الورقة؟ شعرت بصديقتي تريد أن تكسبك، خفت منها، هي أجمل منّي، وهي كردية منكم، قتل أبن عمها في الحرب، ذهب وعادوا به ملفوفاً بالعلم، لم تبك، وجدتها صامتة، ربما أعدّت بديلاً لعواطفها، خفت أن تكون أنت، نعم يا حبيبي، أنت، كانت تريد أن تصطادك، وجدتها تنظر إليك بعيون غريبة، شممت رائحة غرامها، قلت: لأكتب لك ورقة. آآآه.. فزت بك، وجدتها تحسدني، قالت لي: وجدت من يظللك بحنانه. قلت لها: أولاد الحلال في بلادنا لا ينتهون. قالت: من أين أأتي بواحد يشبهه؟. كانت تقصد يشبهك، آآآه.. تعااال.. الفجر جااااء، أنت ما تزال غارقاً في النظر إلى السماء، آآآه.. تعاال.. آآآآه.. ما هذا البرد في تموز؟ لماذا تختفي النجوم والسماء ليس فيها غيوووو..)
***
مشهد:
[ داخل الغرفة، الفتى والفتاة، يتعانقان، صوت طائر الطيطوى يشرخ الصمت، يصغيان، ينهض الفتى، الفتاة تبقى جالسة، تراقبه، الفتى يقترب من الباب، ينظر إلى السماء، الفتاة تنهض وتتقدم منه، تقف وراءه، تضع يدها على كتفه، تطرح رأسها على كتفه]
***
حوار:
ـ لو وافقوا على طلبك، لكنّا الآن في عالم آخر.
ـ ليس أمامنا سوى ترك البلاد، هناك سنبني حياتنا.
ـ لم تنفع توسلاتي ولا دموعي، أبي ظلّ صامتاً، أخوتي قالوا ـ سنعطيك لكلب أجرب ولا نزوجك من كردي.
ـ صراحة أقول، أنهم ليسوا بشراً.
ـ أقل لك صخووور.
ـ أحياناً الصخور تستسلم لقوة المطارق.
ـ دعنا لا نفتح الجراح، علينا أن نفكر برحلتنا.
ـ هناك، خارج البلاد، لدي أقارب، أنهم ينتظروننا!
ـ هيأت ما عندي من قطع ذهب، وتركت لهم ورقة كتبت فيها رغبتي.
ـ حتماً.. سيندمون.
ـ هذا ما أريده.
***
صوت:
( لو لم تتأخر يا روحي، لكنّا الآن قرب الحدود، ربما اجتزناه، آآآه.. ضاع حبنا، ضاعت حياتنا، لم الكلاب سدّت الشوارع هذه الليلة؟ لم بالضبط اختاروا هذه الليلة؟ لم دخلوا بلدتنا العزيزة هذه الليلة؟ ألم تقل: ربما شمّوا رائحة تهريب حبنا؟ قلت لك: هل هم كلاب بوليسية؟ قلت لي: لعنهم الله، يعرفون كل شيء عنّا. آآآه.. تعااال.. لم تأخرت؟ كان يجب أن نرحل قبل ليلتين، لم أرجأت الرحيل؟ أنتَ أخرّت الحلم، أنت سبب فقدان حياتنا، كانوا يقولون: الكردي قلبهُ بارد. كانوا يقولون: الكردي يفكر بعيداً. لما لم تستعجل لإنهاء قضيتنا؟ هل ترددت قبل أن نرحل؟ شمّمت فيك رائحة الخوف، لكن لا.. لا.. ربما كنت على حق، العدو في كل مكان، لم أطلب أرجاء رحلتنا، لم أقف ضد رحيلنا الليلة، لما لم أفكر بذلك؟ آآآه.. أعذرني يا حبيبي، أنت تعرف حجم النار في أحشائي، لم يبق سوى يومين كي يأتي ذلك الرجل المأفون ويأخذني، ماذا كنت أعمل؟ آآآه.. فليكن ما يكن، فليأت الموت، أنا أردت حياتي معك، لا.. لا.. لن أتردد، ربطت مصيري بك، رحلت يا روحي بدري، خذني معك، تعااااااا.. آآآه.. مااااااا.. ظلللللااااا..)
***
مشهد:
[ الفتاة تنظر إلى الساعة المعلّقة على الجدار، الساعة تواصل بث الحياة في الغرفة، تك.. تاك، الفتى صامت، الليل في الخارج هادئ، من بعيد كلاب تعوي، ديك يباغت الصمت بصياح غير عادي، الفتاة تطرح نظراتها جانباً، تلقي برأسها في حضن الفتى]
***
حوار:
ـ أما حان الوقت؟
ـ أشعر بشيء من الظمأ.
ـ دع عواطفك إلى هناك.
ـ لا هنا ولا هناك يخمدان نيران شوقي إليك.
ـ دائماً تضعني في سلّة الرغبة بكلماتك.
ـ حين أكون معك، لساني يلبس ثوب الشعر.
ـ علينا أن نفكر بالرحلة، قبل أن يداهنا الفجر.
ـ أرجو أنهم قد خرجوا من البلدة!
ـ ماذا يعملون؟ نقل لهم أننا مسافران.
ـ أنهم يطاردون كل شيء يا حبيبتي.
ـ لنمشي مع المستنقع، هذا المكان لا مجال لمركباتهم أن تمشي فيه.
ـ هذا ما وضعته في بالي، هو المكان الوحيد الذي ينقلنا إلى حلمنا.
***
صوت:
( آآآه.. بدأت أفقد ملامح الأشياء، جسدي بدأ يتخشب، ما هذه الغشاوة، لماذا تظلم الدنيا؟ أين أنت؟ لا تتركني أموت وحدي، ألم نتعاهد على الموت معاً، أين هو ميثاق الوعد؟ أين أنت؟ تعااال.. خذني معك، أنا أموت، لا أريد أن أموت وحدي، لنمت معاً، آآآه.. تذكرت كلامك، ألم تقل: أمنيتي العظيمة أن أموت بين يديك. ياااه.. أنت حققت حلمك، ها أنت تموت وأنا أرى موتك، تعااال.. لأحقق حلمي معك، هذه الدنيا لا تستحق الواحد أن يعيش فيها، دنيا بلا حب، دنيا بلا رحمة، آآآه.. خذني، لا.. لا.. أنتظر أرجوك، أنت تمشي، أنت تطير، آآآه.. من أعطاك هذه الأجنحة الجميلة؟ أرجوووك أعطني واحدة، آآآه.. دعني أمسك قدميك، لا.. لا.. لا تخف ، سأمسكك بقوة، طر بي، أين تريد طر بي؟ آآآه.. لا.. لا.. لا ترحل أرجوووك، لا تتركني أرجووووك، خذني أرجوووو.. آآآه.. لحظة يا حبيبي، آآآآآآآ..)
***
مشهد:
[ الفتاة تتناول حقيبتها، الفتى يتناول حقيبة يدوية صغيرة، يقفان لحظة، الفتى يحدق في سقف الغرفة، الفتاة تمسك يده، يقرب الفتى ثغره من ثغر الفتاة، يردد الصمت صوت قبلة طويلة، يبدآن بالمشي، أمام باب الغرفة يقفان، الليل يحتفل بالنجوم، الديك يخبر العالم بوجود شيء غريب في البلدة، طائر الطيطوى يعود ليخبر الناس، أنه الحارس الوحيد لليل، يتنفسان معاً، شهيقاً طويلاً، ويزفران أحزان الحياة القديمة بزفير طوييييييييييل]
***
حوار:
ـ وداعاً لغرفة حبنا.
ـ سأبكيها طويلاً هناك، سأكتب عنها قصيدة.
ـ أقسم أنني سأفرش غرفتنا الجديدة بكل ما تشتهي من عواطفي.
ـ هيّا.. الوقت يمضي يا حبيبي.
ـ آه.. شيءٌ ما يشدّني.
ـ أرجوك لا تتردد، كل شيء انتهى.
ـ لا.. لا.. لا تتصوري يا حبيبتي أن أتراجع عن قراري، لكن الحب الذي سكبناه في الغرفة، سيورق وراءنا، ربما سيقررون هدمها انتقاماً لهروبنا.
ـ أرجوك.. الفجر بدأ يقترب.
ـ هيّا..
***
لقطة:
[ يمشيان، يداً بيد، النجوم تنثر عليهما باقات من الورود، طيور الوطواط تحف من حولهما، غابات من البعوض تصنع مظلات داكنة على رأسيهما، القمر يمشي بكامل نوره معهما، يتوقفان لحظة، يردد الليل صوت قبلة ناعمة، ربما هي قبلة الخوف، ربما قبلة ضخ المعنويات والعزيمة، تبدأ الأقدام بضرب الأرض، مع كل خطوة تسكت مجموعة ضفادع عن النقيق، قرب المعبر الغارق بين أحراش متشابكة، يقفان، يبحث الفتى عن المسلك الصحيح، الفتاة تلتصق به، هنا تنطلق رشقات رصاص قادمة من الشارع البعيد]
***
صوت:
( آآآه.. أغثني، لا تدعني فريسة لوحوش الدنيا، خذني معك، ما هذا؟ ألم غير طبيعي يمزقني، ما هذا؟ ظلام مخيف؟ لماذا بدءوا بسحلي؟ أرجوووك لا تعدهم يمزقوني، أرجووووك أبعدهم عنّي، لم يزحف العالم نحوي؟ آآآآه.. يا لخيبتي، العالم كلّه يركض نحونا، يا حبيبي، تعااااااااااا..
***
مشهد:
[ نور الصباح يهيمن على العالم، فتى وفتاة يسجيان على عشب أخضر يغرقان في بركة دم مشتركة، كلاب واقفة تنظر بريبة، طيور مائية تحط وتفر، عصافير مذعورة، مجاميع من الناس من كل جهة تبدأ بالركض نحو المكان، المركبات العسكرية تبدأ بعملية انسحاب غير منظم]
***
تحسين كرمياني: الليلة سيختبر حبّنا
تعليقات الفيسبوك