مونودراما جهاد الخطيب… تتألق
سليمان كبول
كاتب سوري يقيم في فينا

خشبة مسرح متَّشحة بالسواد، فضاء هائل، وجسد يضج بالإبداع ووجع الذكريات يتنقل على ‏خشبة المسرح بثياب شديدة السواد وشعر أشعث مربوط على شكل ذيل حينا، و منسدل على ‏الكتفين أحيانا ، مشجب ليس للملابس فقط وإنما يتقن صنعة التحول إلى كواليس مكشوفة في ‏صدر الخشبة، بحسب المسرح الشرطي الذي أراده المخرج أسلوبا ومفتاحا يقودنا عبر مشاهد ‏العرض المتتالية التي يؤديها ممثل وحيد يملأ كل هذا الفراغ الهائل، يشغل أرجاء الخشبة و ‏يخطف أنظار المتفرجين حيث يشاء وكيفما يشاء. هذا الممثل المنسجم مع الخشبة حدَّ التماهي، ‏كأنه جزء لا يتجزأ من الفضاء المسرحي والديكور، والمنتمي حدَّ العظم إلى الخشبة والنص ‏حتى تحسبه يتنفس من مسماتها كجلده الذي يرتديه‎.‎

(Mein jiehad)‎

‎ ‎‏”جهادي”
هي عنوان
المسرحية التي أطلق عنانها في فضاءات وحدائق مدينة فيينا الرحبة، كان ‏صوته المغمور بالحزن حينا والألفة والدهشة أحيانا أخرى يجوب عنان السماء وآذان ‏المتفرجين‎..‎‏ إنها لمعاناة لا يحمد عقباها في أوروبا أن يكون اسمك جهاد. اسم يرعب المجتمع الأوروبي، ‏اسم متهم بالإرهاب والتطرف من الباب الواسع، لذا كان إقناع المجتمع الأوروبي وتغيير ‏وجهة نظره ومفهومه نحو الاسم الذي له مدلولات واسعة الطيف في أركان الثقافة الأوروبية ‏والعالمية يحتاج إلى عمل متقن ومحكم نصا وتمثيلا وإخراجا. ‏‎ ‎لذا ولعلاج هذا الوجع الآثم في ‏قناعات المجتمع الأوروبي، جعل جهاد الخطيب ممثلا وكاتبا من اسمه عملا مسرحيا لهذا ‏العرض، جعل الاسم الذي فخخه الإعلام السياسي الممنهج بالتطرف والإرهاب وسيلة لتشريح ‏هذا الفكر وإدانته.
وإنه لفخر كبير أن يكون نص جهاد الخطيب أحد النصوص الأربعة الفائزة ‏من بين مئات المشاريع الفنية التي قدمت للمسابقة في مؤسسة
‎( Kultur Gema) ‎وهي ‏مؤسسة داعمة للمشاريع الفنية الخاصة بالمهجّرين عام ٢٠١٧
‎‏ وهذا الفوز يدل على جودة ‏النص الفنية وعمق الحوار فكرا ومضمونا، حيث استطاع جهاد الخطيب بكل براعة وإبداع ‏إيصال فكرة (الجهاد) التي لا يرتبط معناها بالقتل، بحسب المزاعم المتداولة في وسائل الإعلام ‏الغربي الممنهجة سياسيا، فالجهاد هو ضرب واسع المقام من الكفاح والتعب من أجل لقمة ‏العيش، يوازي الكفاح والنضال من أجل الحرية بأشكالها كافة (الشخصية والدينية والسياسية. ‏والثقافية… الخ) كما أنه وسيلة عمل من أجل الديمقراطية، وسعادة الشعوب وحقها في العيش ‏الكريم
هذا هو الممثل العربي القدير جهاد الخطيب، الذي ولد في السعودية من أب فلسطيني ونشأ في ‏فلسطين، جدته مصرية الأصل ومرييته في الطفولة من السودان الحبيب، زوجته نمساوية، لذا ‏قال: أنا قوميتي الأولى الإنسانية، والثانية العربية، وأفتخر في قوميتي‎. ‎ممثل لاجئ في بلاد ‏غريبة و لغة غريبة على لغته العربية وعاداته.
جهاد الخطيب يقتحم هذا المجتمع المفعم بالمدنية والتطور، ويخاطبه بكل ثقة وجرأة بلغته الألمانية الأم لمدة تتجاوز الساعة والربع تقريبا‎.‎
تلك المساحة التي لم تكن غنية إلا بالفضاءات الواسعة وبراعة الممثل و حشد كبير من المتفرجين‎. ‎حيث استطاع بحنكة وإبداع، أن يتنقل بين الشخصيات التي يقوم بأدائها من خلال تغير بعض ‏الملابس المعلقة على المشجب والإكسسوارات التي تغني الشخصية وتساعد على تطوير البناء ‏الدرامي، وإضافة جماليات جديدة للأداء والدور .‎‏ ‏‎ ‎ومن خلال الكوميدية الهزلية السوداء، استطاع أن ‏يجذب الجمهور إليه ويجعله يتفاعل مع العرض، حيث قام بتوسيع عتبة المسرح لتشمل ‏الجمهور من خلال التوجه المباشر إليه وتوريطه باللعبة المسرحية. وهي فكرة إخراجية رائعة ‏تجعل الجمهور يشارك في همِّك ومعاناتك، فكرة تخدم الهدف الأعلى للعرض كي يقول للناس ‏على اختلاف أعراقهم: إن الجهاد فعل إنساني، ليس حكرا على دين ما أو قومية بعينها.‏
‏ لابد من الإشارة هنا إلى الصعوبة المبالغة لهذا النوع من مسرح الشارع المونودرامي التجريبي (إذا كان ‏يحق لي أن أعطيه، هذه التسمية، و بحسب ما شاهدته على الخشبة) وذلك لصعوبة شغل فضاء ‏المسرح الكبير ولعدم وجود ممثلين آخرين على الخشبة يساندونه في تحمل عبء العمل ‏المضني والمضني جدا عليه‎. ‎‏ بالإضافة إلى دور الإضاءة السلبي في هذا النوع من المسرح، ‏و ذلك لعدم إمكانية استعمال السبوتات لتحجيم بقعة المسرح، أو الفلاش كي يستطيع تقطيع الحركة و إعطائها جمالية خاصة، هذا ما يفرض على الممثل مضاعفة ‏الجهد بشكل كبير وكبير جدا، كي لا يقع المتفرج في فخ الملل والضجر.
وقد استطاع المبدع ‏جهاد الخطيب شغل هذا الفراغ الكبير حيث تحسب ان الخشبة تعج بالممثلين والديكور، وهذا ما لا ‏يستطيعه إلا الممثلون المتمكنون ذوو الخبرة‎.‎‏
حيث قدم العمل المسرحي على شكل لوحات ‏أو مشاهد منفردة، تخللتها أغنيات وموسيقى منوعة ومنها أغنيات عربية، لتخدم المشهد بكل ‏تفاصيله‎. ‎وقد أبدع في استعمال بعض الاكسسورات مما أغنى اللوحات المفردة بذاتها زركشات فنية ، حيث ‏كان لكل لوحة خصوصية وكاركترها الخاص بها
وموسيقاه التي تكسوالمشهد روحا مختلفة، لتصب جميعها في الفكرة الأساسية ‏للنص وهي معاني الجهاد،
وذلك من خلال التجارب والمواقف التي خاض غمارها هو بنفسه ‏منذ أن سمي بهذا الاسم (جهاد) إلى أن وصل بلاد الصقيع والإغتراب في النمسا‎. ‎أقول إن ‏المبدع جهاد الخطيب قد أدى رسالة سياسية وإيديولوجية بقالب فني كوميدي هزلي، أمتع ‏بشكل كبير الجمهور النمساوي واسع الثقافة في عالم المسرح.
نعم ما استطاعه جهاد الخطيب، ‏لم تستطعه سياسات دول كبرى ، ولكن تبقى المسؤولية على الإعلام الملتزم في قضايا شعبنا ‏العربي المهمش والمقهور، ودعم الفن الملتزم لإيصال رسائل الوجع العربي‎. ‎أقول فيما أرى : ‏إن جهاد الخطيب أدى الرسالة بكل أمانة‎. ‎إنها رسالة مقدسة.
لكن من يهتم؟؟؟

سليمان كبول
كاتب سوري
يقيم في فينا

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *