خشبة مسرح متَّشحة بالسواد، فضاء هائل، وجسد يضج بالإبداع ووجع الذكريات يتنقل على خشبة المسرح بثياب شديدة السواد وشعر أشعث مربوط على شكل ذيل حينا، و منسدل على الكتفين أحيانا ، مشجب ليس للملابس فقط وإنما يتقن صنعة التحول إلى كواليس مكشوفة في صدر الخشبة، بحسب المسرح الشرطي الذي أراده المخرج أسلوبا ومفتاحا يقودنا عبر مشاهد العرض المتتالية التي يؤديها ممثل وحيد يملأ كل هذا الفراغ الهائل، يشغل أرجاء الخشبة و يخطف أنظار المتفرجين حيث يشاء وكيفما يشاء. هذا الممثل المنسجم مع الخشبة حدَّ التماهي، كأنه جزء لا يتجزأ من الفضاء المسرحي والديكور، والمنتمي حدَّ العظم إلى الخشبة والنص حتى تحسبه يتنفس من مسماتها كجلده الذي يرتديه.
(Mein jiehad)
”جهادي”
هي عنوان
المسرحية التي أطلق عنانها في فضاءات وحدائق مدينة فيينا الرحبة، كان صوته المغمور بالحزن حينا والألفة والدهشة أحيانا أخرى يجوب عنان السماء وآذان المتفرجين.. إنها لمعاناة لا يحمد عقباها في أوروبا أن يكون اسمك جهاد. اسم يرعب المجتمع الأوروبي، اسم متهم بالإرهاب والتطرف من الباب الواسع، لذا كان إقناع المجتمع الأوروبي وتغيير وجهة نظره ومفهومه نحو الاسم الذي له مدلولات واسعة الطيف في أركان الثقافة الأوروبية والعالمية يحتاج إلى عمل متقن ومحكم نصا وتمثيلا وإخراجا. لذا ولعلاج هذا الوجع الآثم في قناعات المجتمع الأوروبي، جعل جهاد الخطيب ممثلا وكاتبا من اسمه عملا مسرحيا لهذا العرض، جعل الاسم الذي فخخه الإعلام السياسي الممنهج بالتطرف والإرهاب وسيلة لتشريح هذا الفكر وإدانته.
وإنه لفخر كبير أن يكون نص جهاد الخطيب أحد النصوص الأربعة الفائزة من بين مئات المشاريع الفنية التي قدمت للمسابقة في مؤسسة
( Kultur Gema) وهي مؤسسة داعمة للمشاريع الفنية الخاصة بالمهجّرين عام ٢٠١٧
وهذا الفوز يدل على جودة النص الفنية وعمق الحوار فكرا ومضمونا، حيث استطاع جهاد الخطيب بكل براعة وإبداع إيصال فكرة (الجهاد) التي لا يرتبط معناها بالقتل، بحسب المزاعم المتداولة في وسائل الإعلام الغربي الممنهجة سياسيا، فالجهاد هو ضرب واسع المقام من الكفاح والتعب من أجل لقمة العيش، يوازي الكفاح والنضال من أجل الحرية بأشكالها كافة (الشخصية والدينية والسياسية. والثقافية… الخ) كما أنه وسيلة عمل من أجل الديمقراطية، وسعادة الشعوب وحقها في العيش الكريم
هذا هو الممثل العربي القدير جهاد الخطيب، الذي ولد في السعودية من أب فلسطيني ونشأ في فلسطين، جدته مصرية الأصل ومرييته في الطفولة من السودان الحبيب، زوجته نمساوية، لذا قال: أنا قوميتي الأولى الإنسانية، والثانية العربية، وأفتخر في قوميتي. ممثل لاجئ في بلاد غريبة و لغة غريبة على لغته العربية وعاداته.
جهاد الخطيب يقتحم هذا المجتمع المفعم بالمدنية والتطور، ويخاطبه بكل ثقة وجرأة بلغته الألمانية الأم لمدة تتجاوز الساعة والربع تقريبا.
تلك المساحة التي لم تكن غنية إلا بالفضاءات الواسعة وبراعة الممثل و حشد كبير من المتفرجين. حيث استطاع بحنكة وإبداع، أن يتنقل بين الشخصيات التي يقوم بأدائها من خلال تغير بعض الملابس المعلقة على المشجب والإكسسوارات التي تغني الشخصية وتساعد على تطوير البناء الدرامي، وإضافة جماليات جديدة للأداء والدور . ومن خلال الكوميدية الهزلية السوداء، استطاع أن يجذب الجمهور إليه ويجعله يتفاعل مع العرض، حيث قام بتوسيع عتبة المسرح لتشمل الجمهور من خلال التوجه المباشر إليه وتوريطه باللعبة المسرحية. وهي فكرة إخراجية رائعة تجعل الجمهور يشارك في همِّك ومعاناتك، فكرة تخدم الهدف الأعلى للعرض كي يقول للناس على اختلاف أعراقهم: إن الجهاد فعل إنساني، ليس حكرا على دين ما أو قومية بعينها.
لابد من الإشارة هنا إلى الصعوبة المبالغة لهذا النوع من مسرح الشارع المونودرامي التجريبي (إذا كان يحق لي أن أعطيه، هذه التسمية، و بحسب ما شاهدته على الخشبة) وذلك لصعوبة شغل فضاء المسرح الكبير ولعدم وجود ممثلين آخرين على الخشبة يساندونه في تحمل عبء العمل المضني والمضني جدا عليه. بالإضافة إلى دور الإضاءة السلبي في هذا النوع من المسرح، و ذلك لعدم إمكانية استعمال السبوتات لتحجيم بقعة المسرح، أو الفلاش كي يستطيع تقطيع الحركة و إعطائها جمالية خاصة، هذا ما يفرض على الممثل مضاعفة الجهد بشكل كبير وكبير جدا، كي لا يقع المتفرج في فخ الملل والضجر.
وقد استطاع المبدع جهاد الخطيب شغل هذا الفراغ الكبير حيث تحسب ان الخشبة تعج بالممثلين والديكور، وهذا ما لا يستطيعه إلا الممثلون المتمكنون ذوو الخبرة.
حيث قدم العمل المسرحي على شكل لوحات أو مشاهد منفردة، تخللتها أغنيات وموسيقى منوعة ومنها أغنيات عربية، لتخدم المشهد بكل تفاصيله. وقد أبدع في استعمال بعض الاكسسورات مما أغنى اللوحات المفردة بذاتها زركشات فنية ، حيث كان لكل لوحة خصوصية وكاركترها الخاص بها
وموسيقاه التي تكسوالمشهد روحا مختلفة، لتصب جميعها في الفكرة الأساسية للنص وهي معاني الجهاد،
وذلك من خلال التجارب والمواقف التي خاض غمارها هو بنفسه منذ أن سمي بهذا الاسم (جهاد) إلى أن وصل بلاد الصقيع والإغتراب في النمسا. أقول إن المبدع جهاد الخطيب قد أدى رسالة سياسية وإيديولوجية بقالب فني كوميدي هزلي، أمتع بشكل كبير الجمهور النمساوي واسع الثقافة في عالم المسرح.
نعم ما استطاعه جهاد الخطيب، لم تستطعه سياسات دول كبرى ، ولكن تبقى المسؤولية على الإعلام الملتزم في قضايا شعبنا العربي المهمش والمقهور، ودعم الفن الملتزم لإيصال رسائل الوجع العربي. أقول فيما أرى : إن جهاد الخطيب أدى الرسالة بكل أمانة. إنها رسالة مقدسة.
لكن من يهتم؟؟؟
سليمان كبول
كاتب سوري
يقيم في فينا