تقديم المترجم
لقد اعتدنا على جيل ليبوفيتسكي منذ مؤلفه ” عصر الفراغ” سنة 1983 اهتمامه بمواضيع جزئية (الموضة ، الماكياج، الرياضة…إلخ) ولكنها ذات دلالات عميقة وأهمية بالغة، وارتدائه أثناء تحليلاته ثوب الفيلسوف وثوب عالم الاجتماع .
قراءة ليبوفيتسكي هي أولاً وقبل كل شيء تجربة قراءة فريدة من نوعها، حيث تتطلب تركيزًا على الخطاب بنفس درجة التركيز على الحجة، وبالتالي، فإلى جانب قوة ودقة حجته ثمة متعة القراءة، وعندما يمتزج الإثنان المتعة والحجة في خدمة دراسات مختلف جوانب للحياة اليومية، لا يسعنا إلا الانحناء منبهرين بقوة البرهان .
يقترح علينا كتاب ” في الخفة” الانغماس في عالم مفعم بالحيوية، وفقًا للفيلسوف ، من خلال جنون عيش وضع الخفة في جميع جوانب حياتنا اليومية. بعد كتبه:عصر الفراغ ، إمبراطورية الزائل أو الغرب المُعَولم مؤخرا، يلتفت ليبوفتسكي في كتابه هذا إلى سلوكيات كل ما هو” خفيف، مرن و متحرك”. والمفارقة الأولى التي أثيرت هي أنه في العالم المادي الذي نعيشه اليوم، وبسبب الحضور الطاغي لكل ما هو مادي يُفترض أن الثقيل هو الذي يحكم قبضته. لا شيء من ذلك ، فحياتنا الآن تتحكم فيها وتوجهها تلك الإرادة المتعمدة والرغبة الملموسة في كل ما هو خفيف. وأن ترى انتشار السلع المادية في كل مكان، هذا لا يعوق بتاتا غزو هذا الخفيف حيث ” تظهر الخفة في أكثر المجالات تنوعًا: الموضة ،التصميم ،الديكور والعمارة”، لذلك فالكثير من الجوانب الأساسية مستهدفة .
كما أن الحياة الجماعية والفردية توضحان جليا ذاك الهوس بالخفيف حيث، يقول” تميزت حياة الأفراد في عصر الحداثة الفائقة بعدم الاستقرار، مستسلمة للتغيير الدائم، للزائل، للـ ” دائم التزحزح “”.
ليواصل أن الفردانية المتطرفة للعلاقة مع العالم هي ما يمثل ثورة الخفيف. في الواقع، الحياة الجنسية المتحررة، يضيف،لا دستورية الأسرة والدين : والطباع والأفراد الذين يراد لهم أن يكونوا “لطفاء”، والأفراد البعيدون عن أي التزام الذين يتصرفون وكأنهم “في حالة طفو اجتماعي”. ينطبق هذا التحليل أيضا على ميادين أخرى كالأغراض النانوية والأدوات عالية التقنية. هنا كذاك تسود الخفة، ومن المفارقات أنه بالتزامن مع النجاحات التي تثير آمالًا جديدة ، تبرز مخاوف جديدة .
هذا “الحدث الاجتماعي العام ” والذي تحول إلى ثورة الخفة يخص بنفس القدر أجسامنا من نواح عديدة، ليس أقله ذاك الهوس بالنحافة مادام قد غزا فضاءنا الاجتماعي بأكمله، حيث أن اكتساب جسم نحيف ممشوق يحتم علينا التخلي عن تلك الدعة وهناءة العيش وتغيير طرق عيشنا جذريا. وبالتزامن مع ذلك تظهر الخفة في شكل نماذج مختلفة نتيجة تقديس النحافة: فالخفة الهوائية تظهر في حكايات مختلفة حيث تحضر تلك الرغبة الخيالية في الارتفاع وفي الطيران، والخفة التافهة التي تتجسد في الموضة، والذوق و الزينة ومتطلباتها، الخفة أسلوب بدورها تظهر في الفن و أخيرا الخفة حكمة التي تتخلص من ثقل الآراء الباطلة والتي يحددها القدماء من خلال طمأنينة وسلام الروح.
بالنسبة لجيل ليبوفيتسكي ، إن تحليله الخفة في كتابه هذا لم يكن إدانة ولا دفاعا ، بل “مبدأ تنظيم اجتماعي ، وقيمة جمالية” ، وهو أداة مناسبة لفهم حركات مجتمعاتنا. ومن هذا المنطلق ارتأينا ترجمة مقدمة هذا الكتاب.
عن الخفة
مقدمة
لم يسبق لنا -أبدا- العيش في عالم مادي أكثر خفة وسيولة وحركية من عالمنا هذا. أبدا لم يسبق للخفة أن أفرزت مثل هذا الكم من التوقعات والرغبات والهواجس. أبدا، لم يسبق لها أن دفعت إلى التبضع والبيع بهذا الزخم. لم يسبق أبدا لما كتبه نيتشه أن يرن في آذاننا أكثر صحة مما هو عليه الآن: ” كل ما هو خيّر خفيف وكل ما هو إلهي يجري بأقدام فضفاضة [1].
لا يفتأ الخفيف يتغلغل أكثر فأكثر في عالمنا المادي والثقافي، فقد غزا ممارساتنا العادية وأعاد تشكيل مخيالنا. لم يكن يحظى بإعجاب سوى في مجال الفن، وأصبح قيمة ومثالا وأمرا لازما في العديد من الدوائر: أشياء، أجساما، رياضات، غذاء، هندسة معمارية، تصميما. في أي مكان، بقلب عصر الحداثة الفائقة، يتأكد تقديس الخفة المتعدد الأشكال. كان مجاله محددا وهامشيا: لم نعد نرى له الآن حدودا طالما أصبح يحشر نفسه في جميع جوانب حياتنا الاجتماعية والفردية، في “الأشياء” والوجود، الأحلام والأجساد.
لفترة طويلة، كانت الأولوية في المجال التقني -الاقتصادي، معطاة للمعدات الثقيلة. من الآن فصاعدا هي لفائق الخفة، للتصغير، لعملية نزع الصفة المادية. كان الثقيل يوحي بالمحترم، بالجدية وبالثراء؛ أما الخفيف فبالبضاعة الرخيصة، بغياب القيمة. لم يعد هذا الكون الكون الذي عهدناه فنحن نعيش ثورة هائلة في العالم المادي حيث تدفع التقنيات والأسواق نحو منطق الخفيف أكثر من دفعها نحو منطق ذي الثقل. وتُقترن هذه الديناميكية بثورة رمزية تتمثل في كون الخفيف الذي لطالما كان مستصغرا ومحتقرا قد تحلى بقيمة إيجابية. ولم تعد الخفة مرتبطة بالرذيلة بل أصبحت مرتبطة بالحركية، بالافتراضي، باحترام البيئة. هو ذا وقت انتقام الخفيف، ذاك الخفيف المثير للإعجاب، المرغوب فيه، صائد الأحلام، حامل كبرى الوعود كتهديدات رهيبة.
الخفة كعالم وكثقافة
لم تعد الخفة تقتصر على مجرد تهويمات شاعرية معسولة، بل أصبحت تشير إلى حياتنا اليومية المتوغلة في التقانة، إلى عالم ترانزيستوري مترحّل حيث الأصغر هو الأفضل Small is better : إن فضاءنا التقني، بعجزه عن المقاومة، راح يتناهى في الصغر، يتخفف، ويفقد صفته المادية. فنحن نستمع إلى موسيقى العالم كلها باستخدام أجهزة خفيفة كما الهواء ونشاهد أفلاما على لوحات إلكترونية تسعها جيوبنا. الإلكترونيات الدقيقة، الروبوتيك المجهري، الجراحة المجهرية، تكنولوجيا النانو، اللامتناهي في الصغر قد فرض نفسه كحد جديد للابتكار والتقدم. من الآن فصاعدا، تظهر الخفة بصفة أقل في أسلوب ظهورها في المواد الجديدة، في الشبكات الرقمية، التصغير إلى أقصى حد. لقد انتقلنا من الخفة المتخيلة إلى الخفة عالما.
التصغير وغزو المتناهي في الصغر وجدا نفسيهما ملزمين بخوض سباق محموم. يشهد هذا العصر ولادة ” الهندسة الليليبوتيانية lilliputienne”[2] التي تتصرف بالذرة كما تشاء، تغيّر من خصائص المادة، تخلق مواد جديدة، تتحكم في الجينات، تدمج المادة الحية والمادة الخاملة على المقياس النانومتري. ليست ثورة الخفة جزءا من التصور الخيالي، لأنها باستثمارها في الدائرة ما تحت المجهرية، ابتكرت عالما يمس جميع مناحي الحياة، ويشي ببداية عصر خفة متزامن مع التكنولوجيا الفائقة (high-tech.).
في الوقت نفسه ومن أجل مواجهة تحديات استنفاد المصادرالأحفورية، وثقل البصمة الكربونية للاحتباس الحراري، تتأكد الحاجة إلى تحويل طاقوي، إلى ثورة صناعية جديدة لا تعتمد على النفط ولا على النووي، بل على الطاقات المتجددة. طاقة الرياح والطاقة الشمسية والطاقة الحرارية الأرضية والطاقة البحرية: نحن شهود على صعود طاقات ناعمة وبداية “اقتصاد خفيف”، اقتصاد بحشده مواد خام أقل وعدم اعتماده على الاستغلال المكثف للموارد الطبيعية، يقلل من وقعها على البيئة. لقد كان من الممكن لنا وصف المهمة المتمثلة في الانتقال الطاقوي بالمهمة الشاقة “الهرقلية”، وإن ضرورتها ليست بالهينة في الحفاظ على مستقبل الأجيال المقبلة و تمثيل حضارة الخفيف-الدائم.
يتم التعبيرعن هدف الخفة في أكثر المجالات تنوعًا: الموضة، التصميم، الديكور، الهندسة المعمارية. كما أن كل ما له علاقة بالجسد يرى انطلاق العنان للشغف بالهوائي وبــ “القد “. المظلات والطائرات الشراعية تحلق في الأجواء، وعلى الأمواج ومسارات الثلج والإسفلت تنتشر أجساد هوائية مولعة برياضات التزحلق. من منا، في أيامنا هذه لا يحلم بالحفاظ على جسم يافع ممشوق إلى الأبد؟ انتشرت كتب الحِمية، والمنتجات الخفيفة (Light) متواجدة برفوف جميع محلات السوبرماركت، وقد أصبحت عمليات شفط الدهون ممارسة الجميع، وقاعات اللياقة والكمال البدني أزهرت، وعارضو الأزياء يبدون بمظهر فاقدي الشهية، وصور الجسد الصقيل ذي القد النحيل تغزو المجلات والشاشات. في هذه الثقافة المصابة برهاب الدهون، “لا يوجد ما هو أفضل من النحافة” تقول أيقونة الأزياء كيت موس (Kate Moss) [3].
لم يعد نظام الخفيف يقتصر على موقف فردي تجاه الحياة أو تجاه الآخرين. بل أصبح الآن مفروضا كطريقة تسيير اقتصادي وثقافي عالمية. ومع رأسمالية الاستهلاك المفرط، تتم إعادة هيكلة قطاعات كاملة من الحياة الاقتصادية من خلال المنطق التافه المتمثل في التغيير الدائم، وعدم الثبات والغواية. ثمة عملية مماثلة لنظام الموضة تقوم بتنظيم الرأسمالية الفائقة الحداثة كرأسمالية غواية. أدوات، إشهار ممتع، ألعاب تلفزيونية وألعاب فيديو، موسيقى المنوعات، عروض ومواسم دائمة: لقد لف الغموض تعارض الاقتصادي مع العبثي، وتم الآن الخلط ما بين مبدئنا الواقعي ومبدأ الخفة وتشابك عالم الضرورة بعالم التفاهة، تقاطعا وتهاجنا: لم يعد منطق الخفة هو المنطق الآخر للواقع الاقتصادي بل أصبح صميم قلبه.
نحن نعيش عصر انتصار الخفة حرفيًا ومجازيًا. وما يحكمنا الآن هو ثقافة خفة مروج عنها ولها يوميا في وسائل الإعلام، حيث لا يفتأ عالم الاستهلاك يثير إشارات المتعة واللذائذية. فعبر الأشياء، الهوايات، التلفزيون، الإعلان، تُنشر أجواء ترفيه دائم وتحفيزعلى”استغلال” المتع الفورية والسهلة. باستبداله الإكراه بالغواية، الواجب الصارم بمذهب الإمتاعية، الجدية بالدعابة ينحو عالم الاستهلاك للظهور كعالم خال من أي جاذبية إيديولوجية ومن أي سماكة معنى . لقد أضحى الخفيف، بمعنييه، سواء الأول أو الثاني، واحدا من أكبر المرايا حيث ينعكس عصرنا.
حتى وقت قريب، كانت الطبقات الشعبية والطبقات العليا تختلف في أنماط الحياة القائمة على مفارقة كبرى: الثقيل و”غير المهذب” للطبقات الشعبية؛ الخفيف، الناعم والأنيق للطبقات العليا[4]. لقد خرجنا من هذا العالم ذي العادات المتباينة: مع انهيار ثقافات الطبقية، حيث تم استبعاد الثقيل والبدين في جميع المجموعات، الكل الآن شغوف بالخفة من حيث الغذاء والمظهر الشخصي، الحركة، الاتصالات ونمط الحياة. لقد قامت جميع الفئات الاجتماعية بإدماج قيمة الخفة في مخيالها وفي العديد من ممارساتها. من الواضح أن طرق العيش الفعلية لمختلف الفئات التي تشكل المجتمع ليست متشابهة، بعيدة هي عن ذلك، ومع ذلك، فإن الاختلافات الحقيقية هذه تتكشف على خلفية ثقافة تحتفي، من أعلى هرم المجتمع إلى أسفله ،بالقد الممشوق، والموضة ،والهوايات، والحركة، والافتراضي. إن العالم الاجتماعي قد انشق، لكن معايير الخفة انتصرت على جميع المستويات.
يوتوبيا الخفة
إن تحولات الحياة الجماعية والفردية توضح بطريقة أخرى انطلاقة الخفيف. بقطيعتها عن الحداثة الأولى – الصارمة، الأخلاقية والتقليدية – ظهرت حداثة ثانية من النوع “السائل” (Zygmunt Bauman) والمرن. تميزت حياة الأفراد في عصر الحداثة الفائقة بعدم الاستقرار، مستسلمة للتغيير الدائم، للزائل، للـ ” دائم التزحزح “.لقد أخلت الضرائب الجماعية الثقيلة الطريق للخدمة الذاتية المعممة ولهشاشة العلاقات والالتزامات. هي ذي الديناميكية الاجتماعية للحداثة الفائقة التي تؤسس حكم فردانية ذات طابع بدوي مترحل غير مستقر في المكان. إن الفردنة القصوى للعلاقة بالعالم تمثل الديناميكية الاجتماعية الرئيسية الكامنة في صميم ثورة الخفيف. حياة جنسية متحررة، لادستورية الأسرة والدين، الطباع والأفراد يريدون أن يكونوا لطفاء (cool). بتحررهم من الانتماءات الدينية والأسرية والأيديولوجية، يتصرف الأفراد “المنعتقون”، غير المرتبطين وغير الملزمين كذرات في حالة طفو اجتماعي. ليس بدون آثار متناقضة.
في هذا السياق، لم نعد نتوقع “بلدًا يقطر لبنا وعسلا “، ولم نعد نحلم لا بثورة ولا بتحرر: نحن نحلم بالخفة. يلتزم البعض بطريق “المزيد دائما” الاستهلاكي بغية نسيان حاضره أو التخفيف منه. البعض الآخر يقابل الخفة “الحقيقية” بخفة سلعية يُعرف أنها “مغشوشة” ومضللة (aliénante). في هذه الحالة، تعني عبارة “تغيير الحياة” التخلص من الأوزان المفرطة التي تثقل كاهل حياتنا ومكافحة خفة النزعة الاستهلاكية ذات الوزن عن طريق تكنولوجيات الخفة الداخلية. حان وقت “التخلص من السموم” “détox”، ولكن أيضًا وقت التأمل واليوغا وتقنيات الاسترخاء، وقت الفنغ شوي (Feng shui)[5] و وقت “الرفاهية”، باختصار،وقت كل ما يسمح لك أن “تشعر براحة الجسم والبال .”
هناك عدد لا يحصى من الكتب التي تهدف إلى توفير المفاتيح التي تسمح بالتحرر من أعباء النزعة المادية الغازية[6]، كما لا يمكننا عدّ وإحصاء مقالات المجلات التي تثني على البساطة والرصانة، وإزالة التكدس عن الحياة: أشياء أقل من أجل حياة داخلية أكثر ثراءً، أكثر توازناً وأكثر هوائية. إن يوتوبيات الرغبة قد خلفتها توقعات الخفة، خفة الجسد وخفة الروح، خفة حياة يومية أقل إرهاقًا، خفة حاضر أقل حملًا: لم يعد ممكنا الفصل ما بين حياة أفضل و خفة الوجود. ها قد حل عصر يوتوبيات الأقل، اليوتوبيات الخفيفة (Light).
حضارة الخفيف وحدودها
ثمة ديناميكية مزودة بقوة فائقة التضاعف وهي في طريقها لبناء حضارة من نوع جديد: حضارة الخفيف. لسنا سوى في أولى خطواتها، ولكنها تكتسب كل يوم مواطن جديدة، تنجز مآثر جديدة، وتثير آمال جديدة إلى جانب مخاوف جديدة. من الحوسبة السحابية (cloud computing) إلى التكنولوجيا الحيوية، من الأجسام النانوية إلى الأدوات عالية التقنية، من تقديس النحافة إلى الأطعمة الخفيفة، ومن رياضات التزحلق إلى تقنيات الاسترخاء، ومن اتجاهات الموضة إلى صناعة الترفيه، إنه من خلال العديد من الأجهزة غير المتجانسة والمختلفة الأشكال تتنامى ثورة الخفيف فائقة الحداثة.
كانت الخفة مثالا خاصا بالأسلوب أو رذيلة أخلاقية، لقد أصبحت ديناميكية عالمية وأنموذجا عابرا، “واقعا اجتماعيا كاملا” محملا بقيمة تكنولوجية واقتصادية، وظيفية ونفسية، جمالية ووجودية. من الآن فصاعدًا، تكثر المجالات التي تعبر عن معركة الخفيف ضد ذي الثقل. إن العصر الفائق الحداثة لا ينفصل عن ثورة خفة متعددة الأبعاد ذات وتيرة مذهلة.
عتاد، اتصالات، طب، تكوين، زراعة، مؤسسات، وترفيه: كل هذه الدوائر تمر باضطراب جذري في ظل صدمة ثورة الخفيف المندلعة عن طريق التقنيات الرقمية، تقنية النانو والتقنيات الحيوية. أهمية هذه الثورة أهمية معتبرة كونها تفتح آفاقا غير محدودة تقريبا في مجالات البيئة المادية والطبيعية، الصحة والحياة نفسها. إن الخفيف، الذي كان أكثر تفاهة وعدم جدوى أصبح أعظم قوة تحول في العالم. وفي عصر الحداثة الفائقة ، ليست السيطرة على الثقيل هي التي تغير وجه العالم، بل السيطرة على المفرط في خفته. في هذه الحقبة التي بدأت، أصبح التحكم التقني في اللامتناهي في الصغر هو ما سيفتح بشكل لانهائي أفق الإمكانات، جاعلا ما كان يُعتبر مستحيلا إلى غاية بداية الحقبة، حقيقة واقعية. مع المواد النانوية أو الأدوية النانوية أو الروبوتات النانوية، هناك طفرة غير مسبوقة على السكة، لا يحملها الصراع الطبقي والمواجهات البطولية الأخرى، بل يحملها غزو ما تحت-الخفيف. ما يجعلنا نغير وجه الحضارة لم يعد عمل “الخلد القديم”، ولكن إيجابية “سلطة النانو”، والتحكم في الجزيئات اللامتناهية في الصغر، والهيمنة على اللامادي. بعد زمن الثورات السياسية العظيمة، حلّ عصر الثورة النانوية التي من شدة قوتها تُمارس على اللامُدرك واللاملموس .
لنكن واضحين منذ البداية، هذه الديناميكية أبعد أن تكون كذلك متطورة في جميع الدوائر. فالطاقات الأحفورية (النفط والغاز والفحم) ما تزال مهيمنة في الاستهلاك العالمي للطاقة. ما يزال النووي يضمن حصة معتبرة في التزويد بالكهرباء. فالبنى التحتية الكبرى ونزعة التضخيم والمعدات العملاقة ليست في خطر الانقراض بأي حال من الأحوال. بالعكس تماما: حتى البنوك أصبحت أكبر من أن تفشل (too big to fail)، ومع ذلك، فإن مبدأ الخفة يتقدم بوتيرة أسرع، حيث يستثمر عددًا متزايدًا من القطاعات: الطاقة، الطيران، الاتصالات، السيارات، البنوك، الجراحة، ولكن أيضًا الألعاب والموسيقى والتصوير والسينما والهندسة المعمارية والتصميم.
من ناحية أخرى، إن حضارة الخفيف تعني كل شيء إلا العيش خفيفا. لأنه إذا كانت المعايير الاجتماعية ترى وزنها يخف، فإن الحياة ذاتها تبدو أثقل. بطالة، هشاشة، عدم استقرار أُسري، جداول عمل زمنية مزدحمة، ومخاطر صحية – لنا أن نتساءل عما، في أيامنا هذه، لا يغذي الشعور بثقل الحياة. حيث في كل مكان، تتضاعف علامات العزلة، والتعبيرات الجديدة عن “الضجر في الحضارة”. ونتيجة لتهديدات الوظيفة والمعلومات الصحية والطبية بالتحديد، حُمّلت الحياة خطرا جديدا. غزت الأجهزة خفيفة الوزن المشهد، ولا تفتأ آليات السوق وديناميكية الفردنة تنتج أضرارا لا حصر لها.
ثمة مفارقة فائقة الحداثة: هي أن الخفة الآن هي من يغذي روح الثقل، لأن غاية الخفة تصحبها معايير صارمة ذات تأثيرات مرهقة وغالبا مثيرة للكآبة : فأن تصل إلى جسد ممشوق يعني في أغلب الأحيان التخلي عن راحة البال حال اغتنام لذات الحاضر وأن تحيا نقيض تلك العيشة الهنية الخالية من أي هم. الاستهلاك في حد ذاته يفرض نفسه، بالنسبة إلى قطاعات عديدة من السكان، كمصدر همّ يومي وكممارسات تشبه ” شغلا ما ” متمثلا في أبحاث ومقارنات دقيقة وجادة. وإنه لأمر أكثر إرهاقا أن لا نكون أكثر سعادة في حضارة تبجل غاية الخفة الإمتاعية، منا في مجتمعات كانت، كما في الماضي، توصي بالاستسلام في هذه الحياة للفوز بالخلاص في الحياة الأخرى. لقد أدى عالمنا إلى ولادة رغبات في السعادة لا يمكن أبدا إشباعها، مما أدى إلى تضاعف خيبات الأمل المتعلقة بحياة ليست خفيفة بما فيه الكفاية، وليست ممتعة متعة كافية، ولا متحركة للغاية. تقهقر ذاك الشعور الهوائي بالوجود بينما انتصرت ثقافة الرفاهية والتجهيزات المادية فائقة الخفة. واستحوذت “روح ثقل” جديدة بالعصر.
نماذج الخفة
إن هذه القوة الجديدة للخفيف قوة فريدة من نوعها في التاريخ ومع ذلك لم تتجاهلها أية حضارة، وأيا كان الاسم الذي نطلقه عليها فإن السعي نحو الخفة قد تجسد عبر الزمن في أنماط معينة من الحياة الاجتماعية وكذا في المخيال الفردي والجمعي. لم تفتأ الخفة منذ غابر الأزمان أن تكون محل رغبة، وأن تثير الأساطير والحكايا والخرافات والممارسات الفنية. لم يتردد باشلار في الحديث عن “غريزة الخفة” باعتبارها “واحدة من أعمق غرائز الحياة[7]”. يجب أن نفكر في الخفة باعتبارها مركبا أنثروبولوجيا للمخيال، وفي نفس الوقت باعتبارها طموحا بشريا وجد دائمًا أشكالًا من التجسد في الحياة الاجتماعية.إنها ذاك الثابت الأنثروبولوجي الذي، حول بعض النماذج الأساسية، واتخذ أشكالًا مختلفة للغاية وأنا هنا لا أقوم سوى برسم حدوده التي تم تخطيطها إلى أقصى حد.
الخفة الطائرة. الحلم بالطيران في الأجواء حلم راسخ وضارب في القِدم. عديدة هي الاساطير، الحكايا، والمعتقدات الدينية التي عبرت عن هذا الراسخ الافتتان من خلال صور الصعود، أشكال الرفع، والرموز الهادفة إلى بلوغ السماء.لا يمكن فصل القوة التي يمتلكها الشامانيون عن اعتقادهم في السفر خارج الجسد نحو السماء المأهولة بالأرواح حيث تُظهر بعض الالواح الصخرية شامانيين قد تحولوا إلى سنونوات وإلى مخلوقات مجنحة. يقال إن بوذا قد ارتفع في الهواء وأن عيسى قد “مشى فوق الماء”؛ كما تُنسب قدرة الارتفاع في الهواء للقديس فرانسوا الأسيزي (saint François d’Assise) والقديس أغناطيوس دو لويولا (saint Ignace de Loyola) و القديس بولس دولاكروا(saint Paul de la Croix) [8]. إنها قوة جاذبية المخيال الطائر التي مازالت تشهد عليها أجنحة عطارد وطيران إيكاروس (le vol d’Icare)[9] وانعدام الجاذبية الملائكي.
ومنذ أزمنة بعيدة اخترع البشر أجهزة طائرة، حيث ظهرت الطائرات الورقية في الصين القديمة، وتم استخدامها لأغراض عسكرية ولكن أيضا لمطاردة سوء الطالع والأرواح الشريرة. لقد صمم مهندسون، من ضمنهم ليوناردو، منذ عصر النهضة، مشاريع لآلات طيران مستوحين ذلك من أشكال وأنظمة حية، إلى غاية اللحظة التي، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أصبحت فيها التقنية قادرة على تحدي الجاذبية، وتحريرنا من ضمة الأرض لنا وذلك من خلال تحقيق الأحلام الألفية المتمثلة في اجتثاثنا من على سطح اليابسة.
الخفة- حركية. لم تقبع الخفة محصورة في مجال التمثلات الخيالية في مجرى حياة المجتمعات، حيث أنها كانت حاضرة منذ أقدم العصور من خلال المساكن التقليدية للشعوب البدوية: الأكواخ، الخيام، الخيم الوبرية التي كانت تجمع ما بين خفة الوزن والمرونة والحركية .خفة مواد البناء التي سمحت للبدو الرحل بالعيش في أقسى ظروف الكوكب المناخية. بعد آلاف وآلاف من السنين وفي سياقات تاريخية مختلفة جذريا، أصبحت تولية الخفيف قيمة الشغل الشاغل أكثر مما كانت عليه فيما مضى من خلال البحث عن مواد جديدة، ولكن أيضا من خلال تصغير الأشياء التي، باتصالها بالانترنيت، تسمح بالانعتاق من القيود الزمنية والمكانية، وبخلق حركية جديدة قوامها السيولة والترحل الرقمي.
الخفة- لهو.إن القوانين والممارسات الاجتماعية الهادفة إلى التخفيف من شظف العيش و تفادي ثقل العالم و ثقل القواعد لا تعد ولا تحصى وهذا في كل الأزمان. ويتفق الشعراء في اليونان القديمة عمومًا على أن غاية الشعر هي المتعة ووفقًا لهيسيود فإن زيوس قد ابتكر الشعر للسماح للبشر بــ”نسيان الشرور وعقد هدنة مع الهم”. لقد وجدت الحفلات، التهريج، المزح، النكات والتنكر منذ فجر الانسانية. أن تلهو وتلعب لعب الأطفال، تمزح وتتشاقى: هذا ما يعني أن الخفة هي خفة الضحك لكنها كذلك خفة الألعاب والهوايات. لا يمكن لأي مجتمع أن يوجد دون تهيئة آليات مختلفة حيث بتخفيفها من قيود الحياة الجماعية تستجيب للحاجة إلى عيش لحظات من “التنفس” والاسترخاء والفسحة.
الخفة التافهة. تتمثل في نظام الموضة، ذوق الزينة ومصنعاته وكل تلك “اللاأشياء الصغيرة” التي تضفي على المظاهر سحرا. كما أنها بلغت لحظة مجدها في الحياة الاجتماعية للصالونات أين تُستحسن الرفرفة كالفراشات من فكرة إلى أخرى، بعيدا عن أي عمق، والكلام في أشياء لا نتائج لها، وعدم التعمق في أي موضوع. يمكننا أن نرى في النزعة الاستهلاكية المعاصرة الصورة النهائية الكبرى لهذا الأنموذج ذي الروابط الواضحة مع الخفة- لهو.
الخفة – تقلّب. إنها حاضرة عبر كل الأزمان، تتمثل في التجارة الجنسية، الخيانة الزوجية، والحب الذي لا يمكنه الاستمرار دون فشل. ابتداء من القرن الثامن عشر، تمكنت الخفة- تقلب من تأكيد نفسها كمنظومة قيم، وكمعيار للعيش يمجد التغيير والتجديد على مستوى المشاعر والمغامرات العاطفية. التفلت الأخلاقي، الدونخوانية، المغامرات العاطفية، الخيانات الزوجية، ملامسات العُطل والممارسة الجنسية العابرة: هذه الأشكال متعددة وتعتمد على عدم الثبات وحركية الرغبة. إن الخفة-تقلب تميل إلى إضفاء نوع من الحظوة على الرجل المُغوي وإهانة النساء المشار إليهن كـ” الطائشات”،الماجنات وعديمات الأخلاق.
الخفة-أسلوب. يبدو الفن كأحد أكبر الميادين التي تتجلى فيها المتطلبات الأنثروبولوجية للخفة. من الموسيقى إلى الرقص، من الفنون الزخرفية إلى الرسم، من الشعر إلى الهندسة المعمارية، فتاريخ الفن يزخر بالأمثلة التي توضح القيمة المعترف بها للتهذيب الجمالي.لا يعكس كل عمل فني صورة خفيفة، إنما على مدار قرون وآلاف السنين، كان دائما يُعبّر عن الشعر والحلي والرقة وأناقة الهيئات ورشاقة الحركة ضمن فنون الحضارات الأكثر تنوعا، ومن المستحيل التفكير في تاريخ الجمال دون الاعتراف بالمكانة المرموقة التي تشغلها جمالية الخفة.
الخفة- حكمة. إن الحياة التافهة، وهروبها إلى الأمام نحو المتع دائمة التجدد، لا تستنزف مخيال الخفة لصالحها فقط، ففي مقابل الأنموذج الأصلي للطيش هناك أنموذج أصلي للخفة-راحة بال و الذي يحيل إلى المثال القديم للسعادة المعرفة بالسكينة، تلك الحالة المسالمة التي يتحرر فيها الإنسان من مخاوفه ورغباته الخاطئة. ما الحكمة والحياة المباركة السعيدة لدى القدماء إن لم تكن سلام الروح الذي نبلغ درجته لحظة تحررنا من الرغبات والآراء الباطلة ؟ إنه أنموذج تلك الحياة المسالمة، البسيطة، والداخلية التي يدرّسها الفلاسفة القدماء والبوذية إلى حد ما. تغذية روحية، طب الروح، “تطهير عقلي”: ليس للفلسفة من غاية سوى شفاء الإنسان، تفريغ روحه والتخفيف من تكدس مخاوفها ورغباتها وعتقها من ثقل المعاناة.
لا شك أن مفهوم الخفة قليل التداول، حتى لا نقول إنه كان غائبا في الفلسفة القديمة.هذا لا يمنع من اعتباره ذاك المخيال الذي يشكل أساس مقصد سعادة العيش التي تتقاطع مع سكينة النفس ومع وجود متحرر من المخاوف ومن المفرط فيه ومن الملذات العابرة. إن السعادة حالة نفس تحررت من ثقل الأشياء، وثقل الطموحات، وثقل كل مخاوف المستقبل والآخرة. وهذا الأنموذج ليس خاصا بالغرب. إنه موجود بشكل خاص في البوذية التي تهدف أيضًا إلى السلام الداخلي من خلال “عدم التعلق” بالوقائع غير الدائمة في هذا العالم. إن البوذية تعرض نفسها على أنها الطريق الذي، بتأديته إلى التحرر من أي معاناة، يقود نحو سلام النفس، نحو السكينة، نحو التنوير، ونحو النيرفانا. ومثلها مثل الأبيقورية، لا تعطي البوذية للحالة السعيدة هذه اسم الخفة. لكن الفكرة موجودة بداخلها.
من الواضح أن العالم المعاصر يعطي أولوية للخفة الطائشة. لكن أنموذج الخفة -حكمة لم يقل كلمته الأخيرة بعد، حسب ما تظهره عودة الاهتمام الذي أثارته الآن الروحانيات القديمة، البوذية، والانتقادات التي تعرض لها مجتمع الاستهلاك المفرط. خفة طائشة، خفة-توازن: سيستمر هذان القطبان النقيضان فترة طويلة يتقاسمان فيها مسارات السعادة.
إن للحكمة جاذبية لأنها لا تلزم الملذات الآنية والمتقطعة فحسب، بل كل ما يمس الوجود. إنها تهدف إلى التوازن، السلام،الكمال،السعادة وما يمثل جوهرا لها: فرحة الوجود. في صفحات شهيرة أثار روسو حالة ” السعادة الكافية والكاملة والمليئة” هذه والتي يصحبها الالتزام الذاتي، ومتعة الشعور بالوجود الخالص وقد انتشلت ذاكرته وكل فكرة عن المستقبل: ” ما الذي يمنحنا متعة في حالة كهذه؟” لا شيء خارج عن الذات، لا شيء إن لم تكن ذاتنا و وجودنا الخاص، وطالما استمرت هذه الحالة فسنكتفي بذواتنا كما الله”[10]. رغبة شبقية في أن نكون، متعة معسولة للشعور الكلي بالوجود: وما هذا إن لم يكن أعلى خفة يمكننا عيشها ؟
سعادة الوجود التي نحياها خلال تجربة فرحة كوننا في هذا العالم، في فرحة أن توجد بكليّتك . يعرف سبينوزا الفرح بأنه ذاك الشعور الذي يعترينا حينما تتنامى قدرتنا على العيش. ولكن على المستوى الظاهراتي، فإننا نحيا الفرحة كتنام للقدرة على الفعل أقل منها كتخفيف لثقل الحياة، ” التعلق بالهواء “، تجربة رفع نحو السماء، انتشاء الوجود: نحن ” نقفز من الفرحة”، وكأننا نحوم في الأجواء، وكأننا ” فوق سحابة صغيرة’. تجربة هوائية، الفرحة تجسد حلم الناس العالمي بــ “الطيران”، بانتشال أنفسهم من ثقل الحياة. إنها أجمل وأكمل مظهر من مظاهر الخفة الذاتية.
إعادة فتح مسألة الخفة
لن نجد في هذه الصفحات، لا اعتذارا ولا إدانة أخلاقية أو سياسية للخفة. لقد تم تحليلها لا كما لو أنها رذيلة أو فضيلة، بل كشرط انثروبولوجي ومبدأ تنظيم اجتماعي، وقيمة جمالية و تكنولوجية اكتست في عصر الحداثة الفائقة أهمية قصوى. لن تكون المسألة في هذا المقال عن الخفة في حد ذاتها، “خالدة” أو ميتافيزيقة، بل عن تلك التي تتجسد في أشكال ملموسة يمكن ملاحظتها في تاريخ المجتمعات، وبشكل خاص في العالم المعاصر. إنها مقاربة انتروبولوجية- اجتماعية للخفة التي ستتحكم في التحاليل الآتية.
ليست خفة عابرة للتاريخ مكتوبة بأحرف كبيرة، بل الآليات التقنية والثقافية والاجتماعية التي تجسدها، والطريقة التي تقوم بها هذه الآليات بتحويل أنماط الحياة والعلاقة بالأشياء وبالذات، بأجسادنا وبالآخرين. ليس هناك خفة واحدة، بل خفات تنصاع لمبادئ وأهداف غير متشابهة. إن الحضارة الناشئة عن الخفيف لا تعني نشر أنموذج فريد للخفة، حتى و لو كانت نفس القوى التي تشكل تركيبة الحداثة الفائقة – التكنولوجيا، السوق، الفردانية- تمثل أساس تفوقها الاجتماعي الحديث. هذه الخفّات المتعددة هي موضوع هذا الكتاب.
من المفهوم أن الأمر لا يتعلق بالاستمرار في تهويل خلو العالم المعاصر من أي معنى، ولا التغني بنشيد يمجد الطائش، فهذان موقفان غير مؤسسين في نظري، لأنه، وبرغم أنوف كهنة معبد “العميق”، يوجد نوع من الإيجابية الاجتماعية للخفة[11]، بما في ذلك خفة الطيش مبثوثة كمبدأ منظّم لاقتصاديات الاستهلاك. لقد ساهم تصنيع الخفة الشامل في ترسيخ عالم التحررالديمقراطي، وفي شيوع عالم أكثر سلاما، أكثر انفتاحا، وأكثر فردانية. مهما كان لها من “رذائل”، وهي ليست بالقليلة، فإن ثورة الخفيف قد أفرزت عالما من الرفاه المادي، عالما من تعدد الخيارات والحوكمة الذاتية. وفي هذا الصدد، تمثل حضارة الخفيف مرحلة جديدة في مغامرة الحداثة الديمقراطية وذات النزعة الإنسانية.
ومع ذلك فلدفاعات الخفة شيء ما لا يطاق: أنها تتنفس نزعة التأنق الثقافي بشكل مبالغ فيه. متمثلة في مظهر الجرأة، سهولة الاستفزاز وتقلبات الخطب المملة. مبثوثة كمبدأ أو كغاية في الحياة، تُعتبرالخفة غير مقبولة تماما مثلما هي غير مسؤولة، إذ كيف يتسنى لنا تمجيد الخفة ذات النزعة الاستهلاكية ونحن نراها تساهم في تدني قيمة ومرغوبية الثقافة العالية، وتفرز الهوس بالمُستهلَك، وتشارك في تدهور المحيط الإيكولوجي ؟ كيف يتسنى لنا جعل الحرية حرية كاملة وكذا الرفاهية دون جدية في العمل والفكر والتعليم؟ كيف يمكن للمرء أن يتصور عالمًا ماديًا أخف وزناً دون جهد بشري، دون غزوات العقل وغزوات التقنية؟ إن أي تعليم أساسه مبدأ الخفة يؤدي إلى الفشل، وإن الخفة الطائشة، بعد تجاوزها حد معين، تصبح مملة ومتكررة، فالكثير من الخفة يقتل الخفة. وكيف لا نسلط الضوء على إخفاقات حضارة الخفيف في أمور السعادة؟ الخفة جميلة ومرغوب فيها، ولكن لا يمكن طرحها كمبدأ أعلى يوجه سلوك الجنس البشري.
ليس هناك من داع لشيطنة الخفة الكامنة في جوهر الفضاء الاستهلاكي، لكنها ليست بالكافية للدفع نحو معيشة رغدة ومعقولة.إن غزو عالم المتناهي في الصغر غني بإمكانيات استثنائية: قد يكون بإمكانه تحويل ظروف إقامتنا على هذه المعمورة تحويلا جذريا. ولكن بأي طريقة؟ في وقتنا هذا، لا أحد يعلم إلى أين ستقود هذه الثورة الضخمة التي تحمل في طياتها الأفضل كما الأسوأ. على أية حال، هو ذا السؤال الذي، كان ثانويا وهامشيا إلى حين، أصبح مركزيا لأجل مصيرنا. وهذا الكتاب أمامكم يهدف إلى إلقاء قليل من الضوء على حضارة الخفيف هذه وهي في بواكيرها.
ملاحظة أخيرة: على حد علمي، إن الكتب التي تطرقت للخفة كما هي عليه يمكن عدها على أصابع اليد الواحدة. إنها إحدى تلك المسائل التي حكمت عليها عادة قديمة جدا تتمثل في أن الخفة غير جديرة بالاهتمام لأنها من المسائل التافهة، ووحدها نعمة الإبداعات الفنية ما يستحق اهتمام وإعجاب رجال الأدب والفكر. لكن ها هي ذي تفرض نفسها، في مجتمعاتنا وفي حياتنا، كأمر بارز الجدية . إن هذه المعاينة بالذات ما قادني إلى إعادة السؤال من جديد، آخذا بعين الاعتبار الوزن غير المسبوق الذي اكتسبته الخفة في عالمنا، ولن نستغرب من كون هذه الدراسة لا تبدو في هيئة. خفيفة كما يتوقع لها أن تكون غالبا كلما ذُكر هذا الموضوع.
الهوامش:
[1] Nietzsche, Le Cas Wagner, Paris, Jean-Jacques Pauvert, 1968, p. 40
[2] ليليبوت: بلد خيالي ورد في (أسفار غوليفر les voyages de gulliver ) لجوناتن سويفت، حيث لا تتجاوز قامات الرجال 6 بوصات .[المترجم]
[3] كايت موس: كاثرين آن موس (1974)عارضة أزياء بريطانية مشهورة.[المترجم]
4 Pierre Bourdieu, La Distinction, Paris, Éditions de Minuit, 1979, p. 196-230.
[5] الفنغ شوي: تقنية تشبه تقنية المعالجة بالإبر الصينية غير انه خاص بالمكان، وتعتمد على مبدأ أن الطاقة تكمن بجسم الإنسان، النبات وكذا المسكن و مكان العمل ومن ثم يمكن توجيه هذه الطاقة كما يقوم بذلك المعالج بالإبر الصينية، وذلك بإعادة ترتيب أثاث المكان بطريقة ما للتمكن من الاستفادة من إيجابية هذه الطاقة. [المترجم]
[6] تبرز عناوين دومينيك لورو Dominique Loreau أكثر إيضاحا في هذا الصدد: فن البساطة، فن الأساسي، فن التواضع و المتعة، اللامتناهي في القلّة.
7 Gaston Bachelard, L’Air et les songes (1943), Paris, Le Livre de poche, 2010, p. 40.
[8] القديس فرانسوا الإسيزي (1181-1226) قديس من مدينة أسيز الإيطالية عاش حياة بذخ في مراهقته وبداية شبابه إلى غاية 1206 حيث ترك عائلته وأصدقائه وبيته وبدأ دعوته إلى البساطة ومساعدة الفقراء وحب الله والناس ، عام 1219م التقى بالسلطان الايوبي “الكامل الايوبي في مصر ..وقد أوثر عته كرامة الارتقاء في الهواء. .أغناطيوس دو لويولا (1491-1556)،عالم لاهوت من قشتالة اسبانيالابدا حياته جنديا وبعد شفائه من إصابة عكف على دراسة علم اللاهوت وأسس رهبانية جديدة سماها جمعية يسوع، اسندت له القداسة سنة 1622. القديس بولس دولاكروا (1694-1775)، من مدينة اوفادا الايطالية تم تنصيبه قديسا بتاريخ 29 juin 1867 ..يحتفل بيومه في 19 اكتوبر من كل عام في ايطاليا. ويكيبيديا (13/01/2020) [المترجم]
[9] إيكاروس: في الأساطير اليونانية ، إيكاروس (في اليونانية القديمة Ἴκαρος / Ikaros) هو ابن المهندس المعماري الأثيني ديدالوس و أمه جارية من جزيرة كريت تُسمى نوباكتي (و تسمى أيضًا نوكراتي). يُقال أنه تمكن من الطيران باستعمال أجنحة صنعها له والده من الشمع والريش لكنه أثناء هروبه من المتاهة اقترب أكثر من الشمس فمات. ويكيبيديا (13/01/2020) [المترجم]
10 Jean-Jacques Rousseau, Les Rêveries du promeneur solitaire, Paris, Flammarion, 1978, Cinquième promenade, p. 102.
[11] ما الذي يمكننا تخيله أكثر مرغوبية من الفرح ،وهو أخف شيء في الوجود؟ كيف ستكون حياتنا دون أفراح اللحظات الخالية من الهم ، أفراح الاسترخاء ،الضحك ، الأناقة ، ونعمة الفن؟ من منا لا يتمنى بشغف نشر الخفة في عالمه والرقص مع الحياة؟ إنه لحلم رائع ، ولكن ما الذي يمكن أن يكون أكثر صعوبة من اكتساب خفة الوجود؟
سيرة ذاتية مختصرة
الاسم واللقب: سعيد ماروك Said MAROC
العنوان: حي 95 سكن، العامرية-الجزائر.
الهاتف: 35 40 74 95 07 (+213).
البريد الإلكتروني: marocrtr@gmail.com
المؤهل العلمي: مهندس دولة في الكيمياء الصناعية.
• باحث ومترجم، مهتم بالأدب والفلسفة، له مجموعة من المقالات والترجمات المنشورة في صحف إلكترونية ومجلات ثقافية.