” للهِ في تلك الأزمان الأولى ، لم يكنْ سوى المياه للهِ ” أسطورة بابلية “.
إن الإختيار للقصيدة التي أثارتني توظيفاً بعنونتها ، لم يكن مروراً عابراً بذلك ، بل تفحصتُ الموسوعة بترٍ ودراية ، وقد تحسستها ملياً ؛ بأنها حقاً تحملُ رؤىً ودلالات راسخة عُمقاً ، لذا إلتقطتها من بين قصائد المجموعة ، فكانت عنونتها ” المُحيرة ” جذبتني لدراستها ؛ صدقاً ، لم تكن هينة بتوظيفها وحبكتها ، بل كانت تحملُ نزعة حداثوية من عنونتها بمفارقة رائعة ، لم تعطِ نفسها بسهولة ، بل لها من الدعامات التي تصدك ؛ كلما ولجت لأسوارها ، ومتنها ؛ هو الآخر الراسخ عُمقاً في مناورة اللغة ومراوغتها .. رؤى القصيدة سيالة ، بدءاً من الخليقة” التكوين ” وحتى إستمرارية الحياة ،” فـ الماء كما هو معروف دلالة على الحياة ، وهذا متعارفٌ عليهِ كظاهرة نفسية وإجتماعية وجنسية يمنح القُدرة على الخلق والوجود الفاعل في الواقع ” 1 ، نعم للماء القدرة الكامنة في الأصلاب ، إنهُ يشكل مصدر إخصاب الفحولة والأنوثة وإكتمالها عند الجنسين ، حيث تتعايش فيه الثنائية ، ثنائية المرآة والرجل ، فيهِ من لإحتمالات التركيب برغبة إشتهاء واضحة ، فـ الماء كما ثبت علمياً سائل شفاف يتكون الدفقة في تحولهِ إلى ثلج وحالوب فإن التذكير يلازم حالتهِ ، حتى في اللقاح يستعمل ” الطلع ” وهو مذكر ايضاً ، فكيف يجبُ أن يؤنث ؟.. ربما في عملية إخصاب البيضة وتحول جنسها إلى ” أُنثى ” ربما . “ من إتحاد ذرَة من الأوكسجين ، وذرتين من الهيدروجين H2o، فالماء في صيغتهُ الكيماوية” رسوخ الأُنثى أبداً في مخيلة الشاعر وكأنها ” متلازمة ” باهرة المعنى والمبنى ، حتى أضحى الماء بصيرورتهِ ” أنثى ” من دفقة المشاعر وأحاسيسه السيالة التعبيرية ، فكان لهُ ما أراد لاحقاً في المتن الذي سخرهُ لمشتهاتهِ البتة ، الملامح والحواس قد واكب دفقتها شعورياً ، فأراد لها الإستعطاف حدَ الرغبة الجامحة في المواربة للإفصاح العلني وتحت مسميات الشهوة والإنتشاء الحياتي ، يقول :
أيتُها الأُنثى فارطةُ النَدى
لكِ أنْ تجعلي الماءَ أُنثى
كما يجبُ لماءٍ أنْ يُؤنث
ولكِ
أن تضعي على أصبعكِ
عاشقاً \ يُبددُ شفتيكِ
في مُخيلةِ المرايا .
بدءاً كان إختياره مفردة ” النَدى ” هي من التحولات إلى الماء ، والتي هي أرق ما يلاحظهُ المتلقي بنقاء ونصاعة ورقة ، نراها توائم شخصية ” الأُنثى ” من عبيرها ولمحتها وصوتها ، فكيف بهِ قد سبقها بمفردة ” فارطة ” أضاف على بهرجها تأثيثاً آخر، باذخة في التعبير وأقصى درجات التمني ، لذا زاوج بين الأثنين ، فأضحت هي ” الكلية ” رقراقة في لمعتها ، وإستذواقاً بنطقها ، الماء مفردة مذكرة أصلاً ، فكانت المفارقة بعنونة ” القصيدة ” مستحيلة في التحول ، لكن ربما يُقال بأن العلم قدْ يثبت ما يريدهُ الشاعر من وراء توليفهِ لهذا ” العنوان ” الذي غطى جسد القصيدة . فالماء هو دلالة المقدس والخصب والنماء والطهارة . فكانت المفارقة الدالة على الإستحالة عنونة ” كما يجبُ لماءٍ أن يؤنث ” أي ينبغي ذلك ، وكيف ؟… أو ماءُ الحياة أم إصطناعي ، فقد يساير الهاجس منا ذلك ، ربما دفق الإحساس بالتغيير يراد ذلك ، إن دفقة العاطفة ربما دفعت الشاعر أن يطمح ويبغي من اللقاء كما تعتريهِ نوبة الحدث الحياتي ، كان إشتغاله بدءاً على الإستحالة المُحببة توظيفاً . يبدو من أن حالة التمني قادتهُ إلى إستسلام لحظوي في مستهل السطرين \ الثالث والرابع – من مستهل الفقرة:
لكِ أن تجعلي
لكِ أن تسكبي .
ذلك الخيار الذي إتخذهُ بمطاوعة غريزية ، لكن لم يتوقف عن هذا ، حيثُ راح إلى الأبعد وهو طوعَ رغبتها ، بأن يكون ” حلقة ” في إصبعها كـ مسحور ، ذلك التخيل المُذل ” الذي لاقاهُ بشيء من الدونية ، أو على نية القبول والإستساغة ” أرى في هذا حالة ” النَفرة ” هي طرف جوهري في الخصوصية النوعية لمجتمع الغرب ” 2* وكما في الصورة العاكسة في المرايا :
للرغبةِ المُلحةِ في المؤنثِ
تعالي
للرغبةِ الجامحةِ في الوشوشاتِ الناعسةِ على كعبيكِ
تعالي
و لكِ تفاحتي الواحدةِ .
إن حالة الإنقياد جعلتهُ في مرمى الرغبة ، ساحة مفتوحة للولوج في رغبات التمني \ طواعية ، وقد يلاحظ بأنها اجتاحته بتواصلها من المقطع الأول ، وتخطت المقطع الثاني بتدرج نفسي مُنقاد بإشتهاء أشبه بتدني للشخصية ، وكما في ” الرغبة المُلحة \ الرغبة الجامحة ” هاتان الرغبتان قد عملتا عملهما في الأرجح الشخصية وخلخلة توازنها ، حتى أخذت مساراً آخرَ في تموضع ” الوشوشات الناعمة ” مفتاح الحديث المتواصل ؛ همساً ، والتي أجاد توظيفهما عن دراية حقاً ، هي تُمثل الهمس والتدبير كبادرة لقاء … لكن توظيفهما قدْ أزاح حقيقةَ إندفاع من المُقاربة ، هذا التنازل المُهين الذي يصرخ بنداء ” تعالي” التي هي قمة الرغبة \ الإشتهاء ، ولك تفاحتي الواحدة ، لا غيرها من مكملات الشهوة المتأججة المتواصلة إلى تخوم ” الخطيئة ” الجارحة في كُنهة مقصدهِ من نداء الرجولة الخفي :
ستكونين أشهى من نبيذِ
وأغلى من دَوارِ العاشقات .
كما أسلفنا من أن هذا التدرج قدْ قادهُ إلى إفصاحٍ علني بالإشتهاءِ والنشوة شيئاً فشيئا ، فـ النبيذ هو من مقدمات ما يصبو إليهِ البتة، وكحافز منشط لحالة الإقدام ، هذهِ الرؤى قد نقلتهُ – مخيلا – إلى إقتحام أعماق الرغبة الجامحة ، من الإشتهاء وأعلى مرتبة متقدمة في الوصف بفعل محفز التمني ” النبيذ” وما فعل فعله في التسريع لعملية التشهي بإندفاع ” اللاوعي ” ، فما للنبيذ من إستحضار النشوة بلذتها ، وما لـ دوار العاشقات من مكانية راسخة في الذهنية التموضع الآسر من مطارح العشق والغرام والشوق :
لسبب ما
لن أكترث إلا لحمامتين وثنيتينِ تحُطان بهديلٍ شبق
لسبب ما
لن أُسميك شهوة عابرة
ولسبب ما
سأستقبل رائحتكَ ، أجلسها بقربي
أُحدثها عنك \ ثم نحتسي الإشتهاء
ونضحك .
حسب ما توصلتُ إليهِ من رؤى الشاعر ، بأنهُ يضع مثابات ينطلقُ منها – كسبب – إحتمالي المسار من النجاح ، هذهِ الأدوات التي إشتغل عليها في الفقرات السابقة قدْ إستدرجت ذائقته بنجاح للإجتياز وصولاً إلى الرغبة التي يبتغيها ، فكانت لهُ من دلالات مُمهدة قد كسبها حياتياً ، ربما قصدي النوى لوقوع الطرف الآخر بها من خلال الأوصاف المثيرة بالتوظيف مثل طُعم ” المصيدة \ الشِراك ” والتي أضافها الصياد كـ حيلة للوصول الى الإصطياد ، لهذا بث بها كل مسببات الوصف من أجل ذلك . يلاحظ بتدرجهِ في متن النص بإسلوب يبتغي منهُ وقوع الآخر في دائرة ” الإصطياد ” فينبري للمتلقي بأن لهُ نفساً بالمطاوعة والمطاردة والصبر .. يبدأ بخطة التأني ثم يردف الأخرى في حركة أكثر جدية بتقنيتها الإسلوبية المعتبرة كي لا تنفر منهُ ” الصيدة – الأُنثى ، وسنرى التدرج في متن النص وكما في ” حمامتين – تحطان – هديل شبق ” هذه الأدوات التي تسلح بها في الإستدراج ، هي مثابة الخُطة المُحكمة ومثابة الإنطلاق حيثُ بدءاً ، شهوة عابرة … ثم تخطى مادياً من ذكرهِ ، ووصل إلى ” معنى المعنى ” الذي يليق بـ مخيالهِ الشّبقي لحظتها ، لكنهُ تراجع خطوة كي تكون إستدراكية للهفوة التي قصدها عياناً ، لما كان يقدم بهِ ” الرائحة ” وواصل تقدمهِ إشتهاءً في صلب الحدث الحياتي الذي يود أن يوصل لهِ ساعتها :
شكراً كما يجبُ لماءٍ أن يؤنث
أحبكِ .
إجمالاً من ختامية الرؤى ، ندرك من أن الشاعر وصل لمبتغاهُ بذكر مفردة ” شُكراً ” التي تعني الكثير من مجازاة الغاية والهدف ، وهي النهاية الختامية في ذروة الوصول للمبتغى كما توازي ” القُبلة ” التي يرتجيها الآخر من فدية النهاية ، التي تفي بهدية الغرض المراد منهُ … وهنا نسترجع العنوان الذي انجزهُ كاملاً ” كما يجبُ لماءٍ أن يُؤنت ” لذا أعلنها توقاً للمنتهى الذي واكبهُ منذُ البداية ، وبحرقة ، طاوع وصبر وتصور وراوغ ، فكانت نهايته محببة بـ ” أُحبكِ ” كما في ذاكرتهِ المنشودة أبدا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
– 1ــــ يُنظر دلالة النهر في النَص ، جاسم عاصي ، الموسوعة الثقافية ، بغداد –ط1\ 2010 \ ص .10
2- ت.س . إليوت ” منارات شعرية ” ، دراسة و ترجمة يوسف سامي اليوسف ، دار منارات للنشر ، عمان – الأردن ، ط1 ، 1986.
عدنان أبو أندلس: تأثيث الرغبة الجامحة
نسج الإستحالة قصيدة “كما يجبُ لماءٍ أن يؤنث” للشاعر السوداني “عادل سعد يوسف”
تعليقات الفيسبوك