
كان الرجلُ محاطاً بسياج عالٍ من الأسلاك الشائكة،فيما كان صراخ نسوةٍ يتعالى من وراء ذلك السياج احتجاجاً على أشياء لا نعرفها . للوهلة الأولى،قررنا الانتظار وعدم التدخل فيما كان يجري في ذلك المكان المليء بمختلف أنواع الأثاث.
وما أن شاهدَنا الشاعر الإيراني أحمد شاملو متجهين إلى المكان الذي كان واقفاً فيه،حتى حاول الهرب باتجاه مكتبة لبيع قصص الغرام والروايات الرومانسية.نادينا عليه بصوت عالٍ،فعاد راجعناً نحونا ,وهو ينفث من فمه أكواماً من الدخان.
شكرناهُ على تلبية الدعوة.فابتسم بوجهنا بصعوبة،وهو يشير إلى سرير وثير ،كان يحاول ابتياعه من ذلك السوق. إلا أنه سرعان ما تذكر أن وجودنا معه كان مبنياً على موعد قديم .لذلك تقدم وصافحنا بيد باردة.وما هي إلا لحظات ،حتى أشار إلى حيوانهِ الخاص،فركبَ عليه في المقدمة،وثم ركبنا خلفه،قاطعين البراري البنفسجية إلى مقهى (سبائك الذهب بالشُوكُولاته) .
ترجلنا قرب الباب ،ومن ثمة جلسنا وجهاً لوجه لنبدأ مع شاملو هذا الحوار.
■ هل يحبُ أحمد شاملو اللعب بالشعر على طريقة اللعب بورق الكوتشينة ؟
ـــ تماماً.ولا أرغب بوجود الشّايب على طاولة القمار.
■ هل تخاف من الشّايب كقوة وخبرة، أم ترى وجوده على طاولة اللعب مُحبِطاً ؟
ـــ لقد لعبَ بأعصابنا على مدار عقود من الشعر،وأتلف لغتنا طويلاً،وحان الوقت لإحالته على التقاعد.فالأسلاف ،لا يريدون لأقدام قطار سواهم أن تكون على السكة.
■ ولذلك كسرتَ أنتَ قواعد الأوزان بعد الشاعر الفارسي (نيما يوشيج) والاتجاه نحو شعر التفعيلة؟
ـــ لم أعتبر نيما أباً للشعر الحديث،بقدر ما كان إشارة مرور باللون الأخضر على طريق الانفتاح على العالم الآخر الذي كان الشعرُ يمضي بمجراه .
■ أي مؤثر أعظم في شاملو :بدر شاكر السياب أم لوركا وسان جون بيرس ورامبو وأعضاء الحركات الشعرية الأوروبية ؟
ـــ كان الأوروبيون أشد تأثيراً في تكويني الشعري من الآخرين.ولذلك قرأتهم وترجمت بعض أعمالهم للفارسية،لتحتك بهم الأذهان ،وتنمو داخل الفارسية أنفاسٌ معاصرةٌ، لا تعتمد على حجر القاموس.
■ في أي مكان من الشعر يوجد الإنسانُ ؟
ـــ أكثرهم في مفرقعات الأوزان بالتأكيد .
■ وفي أي مكان من الإنسان يوجد الشعرُ ؟
ـــ في الحواسّ المُحَطَمة .
■ هل تلتقطُ القصيدةُ لكلّ قارئ صورةً فوتوغرافية في أثناء مطالعته لها .أو متى تصبح إمكانية ذلك متوفرة يا سيد شاملو ؟
ـــ الشاعر كاميرة الأرواح وعدسةُ الطبيعة.إما أن يكون صورةً في بنك الشاعر المصور،فذلك يحدث ،عندما يتكامل القارئ بلغة الشاعر.ومن هنا أدرك بأن التطورات التي واكبت الشعر الفارسي،يجب أن لا تتوقف عند حدّ القارئ وحسب،بل وتقع عليها ضرورة الاقتحام وفك الحصار عن الحركات الناشئة بسبب طغيان النجوم الريادية.
■ تريدها لا تتوقف ،حتى أمام دكتاتورية شعرية مثل حضرة الشاعر أحمد شاملو مثلاً ؟!!
ـــ لم أكن ديكتاتوراً شعرياً .
■ ولكنك بقيتَ مهيمناً طوال خمسة عقود من الحكم والإرهاب والسيطرة المشابهة للسلطات العسكرية التي تنفردُ بحكم بعض مناطق العالم؟
ـــ لم ارتد قناعاً لإرهاب الآخرين،مثلما لم أضع على وجهي بُودرةً للزينة .
■ نعرف ذلك.فقد لحقت بك أذية من وراء وقوفك بوجه الحلفاء مع الألمان ،فأدخلتكَ السجن.بعد ذلك لتكر المسبحة بموقفك اليساري ضد الشاه وضد موضوعات الحكم الإسلامي للثورة من بعد ذلك ؟
ـــ أنا أرى الشعر نجماً يصعب القبض عليه،أو رميه في قفص .
■ هل يعتقد شاملو أن الحلم هو الشراب السحري عند الشاعر؟
ـــ بل هو دائرة البريد ما بين الطاهر والباطن.
■ كيف يتلمس شاملو مخلوقات الباطن الذي عندهُ ؟
ـــ بالأصابع .فأنا في بداية كلّ ليلة،أمد أصابعي لباطني،فأستخرج مخلوقاته ،كي تجلس إلى طاولتي الخاصة .
■ ومن ثم ماذا تفعلون تحت جنح الليل جميعاً ؟!
ـــ منا من يقرأ.ومنا من يتأمل.ومنا من يبكي.ومنا من يشعلُ في ثيابه النار.ومنا من يأخذهُ الخمرُ إلى الطابق الأخير من الظاهر،فيلقي نظرةً على مدافن التاريخ،وبعد ذلك يعود للباطن مُطمئناً .
■ هل تعتبر إن في النصّ الشعري غُباراً للطّلْع ؟
ـــ ذلك ما أومنُ به حقاً.ولكن ليس في كلّ نص شعري لدينا، يوجد مثل ذلك الغُبار الإلهي لتوليد المخلوقات المثيرة والأثيرة .فالنساء غابات بأرحام متفاوتة .
■ أنتَ تذهب بالشعر إلى الغزل .لماذا تسيطر عليكَ فكرةٌ من ذلك القبيل؟
ـــ النساءُ مناطقٌ مأهولةٌ بالغزل ليس إلا .وكل غزلٍ ينمو بطاقة صاحبه القلبية.حياة القصيدة بنظري،تتعلق بمدى قابليتها على تحريك آلات الجوقة الموسيقية في جسد المرأة.العزف من تلك النقطة،مثلما يبدأ مثلما ينتهي.
■ هل ينطبق هذا على ((أيدا)) رمزك في العشق التي أهديتها ديوانين ((أيدا في المرآة)) و((أيدا والشجر والخنجر والذكريات )) ؟
ـــ كل ما عَولتُ عليهِ في الحبّ،سرعان ما وجدتهُ عند المرأة أيدا .
■ وهل كانت المرأة الأرمينية هي الاختصار الوحيد لتجاربك في الغرام؟
ـــ أجل. ومن أجلها أضع النظارات لأراها بوضوح وكلّ دِقّة.
■ أيهما يمضي حرّاً وواثقاً في مجرى الآخر،الشعر في الحبّ أم الحبّ في الشعر ؟
ـــ الحبُّ،هو أن تنكسرَ أنتَ للمحبوب دائماً .وتلك هي البلاغة بالضبط.بقية الكلام،سفسطةٌ لا معنى لها .
■ ألا يجعلك هذا الحبُ عبداً لصنم ما من الأصنام ؟
ـــ لقد هجرتُ مجمعَ الأصنام إلى غير رجعة ،بما فيها سعدي الشيرازي الذي حاول شطب النساء من سجلات الشعر ومن خانات الوجود الصوفي حتى.
■ منْ برأي شاملو يستحقُ الاحتواء :الدين للشعر أم العكس ؟
ـــ العلمانيون بنظر أهل الدين شراذم وزنادقة.لذا مُنعتُ من نشر شعري طيلة 16 عاماً، ليسمحوا بنشر كتبي عقب مجيء الرئيس خاتمي .الشعر الفارسي ما يزال يواجه أنواع مختلفة من البكتريا المضادّة لحداثة الشعر ولموضوعاته .يراد للشعر الفارسي أن يكون حارساً للأضرحة،وبلغة لا تتجاوز النواح على رموز الماضي ،علماً أن تلك الرموز عظيمة،ولا تحتاج إلى لطم وشق ثياب أو عزاء.
■ هل تعتقد بأنك خصب شعرياً،ولديك وَفْرة بالإنجاب ؟
ـــ أبداً .فمجموعاتي الشعرية ،بالكاد تتجاوز أصابع اليدين.(( “حديقة المرآة” و”آيدا في المرآة” و”العنقاء في المطر” و”إبراهيم في النار” و”الهواء الطلق” و”مراثي التراب” و”مدائح بلا صلة” و”الخنجر في الصحن” و”الأغاني الصغيرة للغربة” و”اتفاق” و”الحديد والمشاعر” و”آيدا: شجرة وخنجر وذكرى)).
■ زوجتان خرجتا من الخدمة قبل أن تأتي الثالثةُ ( آيدا ) لتكرس لها عرشَ الروح وشعرَ الباطني العاطفي .هل كان اتحاداً نهائياً مع امرأة،أم كان تشكيلاً من الحكي الدبلوماسي لمديح زوج؟
ـــ أنا وآيدا سركسيان اتحاد عشقي وصل لدرجة تعشيق الزجاج بالزجاج. فكان الاستغراق بها حباً،لا علاقة له بالدبلوماسيات التي تتقدمها المجاملة.الحبُّ حريقٌ بنار البلاغة،وما عداه وحلٌ على الطريق.
■ قلْ لي: متى ينظرُ الشاعر للمرأة نظرةً ماكِرة ؟
ـــ عندما تفرغ خزائن العينين من طقوس الجمال كما أعتقد .
■ إلى أي حدّ يتجنب الشاعرُ الغوص بالشهواني الشبق ؟
ـــ يصعب أن تجد شعراً متجنباً للأنفاس الشهوانية،لأنها تكون بمثابة الأعمدة السريّة التي تقام عليها أجمل النصوص وأهمها تاريخياً.
■ ولكنه توجه فاسق بنظر البعض.ألا تعتقد أن ذلك يشكلُ عرقلةً لإنتاج الشعر من مادة العشق التي تغلف الكون وتعيد إنتاج الكائنات ؟
ـــ الفسقُ ،يكمن بفشل الشاعر ،عندما لا يقدر على كتابة نصّ يملك روح الطير.
■ وهل كان أحمد شاملو طيراً ؟
ـــ لا .لم أكن طيراً بالضبط.لقد أسست لروحي الشعرية أن تكون مرايا لاختزان صور البشر وأحوال الشعوب وآلامها .
■ هل من أجل استعادة (نشيد الإنشاد))أم لإعادة كتابته على طريقة الأجراس الخاصة بالباطن؟
ـــ هذا كلام دقيقٌ لسؤال ينطوي على فكرة جوهرية،تتعلق بأصول كتابة النصوص التي تتخاطر مع كتابات غابرة من تاريخ الشعر واللاهوت .
لقد أخذت عن الشاعر عزرا باوند حرية العمل في النصّ المفتوح،مع الحفاظ على قدر لاهوتي ،يترك للكلمات حرية المرور بالبخار اللغوي الديني- الصوفي .
■ كيف تجعل اللغة أن تأخذ دور الخيّاطة في مهنة الكتابة ؟
ـــ لا أحبذ نظريةً من ذلك النوع .
■ لمَ عدم تحبيذ أن تفصل لكل كلمة ثوباً لهذا المعنى أو ذاك؟
ـــ الخيّاطةُ تقوم بتضييق الخناق على أجساد الكلمات،مما يؤثر على حركاتها،ويجعل منها كائنات مقموعة ورهينة لملابس لم يتم اختيارها من قبلهنّ .والتفصيل بهذا المعنى،يضغط على أعضاء الجسم،ويؤدي إلى الكبت.
■ أية مدنٍ هي الأقرب للشاعر شاملو:طهران أم السكوت.المرأة أم النوم.زجاجة النبيذ أم العطر؟
ـــ أنا أقرب إلى مدن الغناء .فتلك المدن التي سكبها صوتُ المطربة أشرف السادات مرتضائي ((مرضية)) في تربتي،تركتني ثملاً وأنا في دار الآخرة.ليس أفضل من مدن الغناء.
■ وإذاً فما زلت من رعايا مدن الطرب ؟!
ـــ الأغاني نباتات في أرض الشعر.هكذا أنظرُ إلى ذلك،وأتمتع بخلاصة الأصوات التي تمنح مخلوقات سكان القصيدة الأصليين التعابير دون نوطات من السلّم الموسيقي .
■ يبدو أن قصيدة النثر الإيرانية التي يُطلق عليها اسم (شعر سبيد) تسميه : (قصيدة النثر الإيرانية) لم تتخلص من المضايقات بعد.ما الذي تحتاجه لترفع من منسوب اللغة الخاص به بلاغةً وأساليب وتقنيات في الشارع الإيراني؟
ـــ أنا حررتُ الشعر الفارسي من قواعده القديمة،متأثراً بقراءة Blank Versre التي وجدت أنها لا تخلو من الوزن والقافية،مما تسبب ببعض الارتباك .
■ ربما لذاك السبب كتب بعض النقاد عن الفارق ما بين الأسلوبين ((شاملو قدّم قصائد نثرية قفز بها كثيراً حيث لا قافية ولا وزن.. وصارت على وتيرة تيك التي تسمّى في أمريكا بـ : Free Verse وفي فرنسا بـ Verse libre ومن هذا المنطلق صارت لدى شاملو قفزة دون أي عمد أو تنظير أبعدته خارج ما فهمه.. ولمّا كان هذا الشعر غير معهود في ذهنه ، فخَلطَ بين الشعرين وقدم نتاجه الشعري الذي خال من الوزن والقافية باسم (شعر سبيد) قاصداً : Blank Versre ، ضاناً انه طليق من كل شرط ، وهو في الحقيقة يسير على مسار : Verse libre أو Free Verse . والذي وقع بهذا الخلط هو الشاعر الكبير أحمد شاملو نفسه . ومن هذا المنطلق وجد النقاد لا علقة بين الاسم والمسمى.. وان ثمة خطر على الشعر الإيراني حيث الشاعر ذا ما افرز حينها بين نتاجين من الشعر! وصار هذا المورد سبباً لنقد أحمد شاملو! وهذا صحيح يمكن قبوله لان Blank Versre هو أول شعر تطلع عليه الشعراء الإيرانيون )) .
ـــ هذا صحيح.فيما تناولني نقاد آخرون بالمباضع والسكاكين دون رحمة،وذلك دفاعاً عن الشعر الكلاسيكي الإيراني الغارق بالسلفيات التي كانت خطوط حمر ،لا يمكن تجاوزها بنظر البعض.
■ ولكنك كنت مستغرقاً بالشعر الأوروبي،قراءةً وترجماتٍ .أليس كذلك؟
ـــ بالضبط.كان لا بد من الفرار إلى ما وراء بستان الشعر الإيراني،لالتقاط الأنفاس والاحتكاك باللغات الأخرى التي يصنع منها الشعراء الغربيون رؤاهم وكلماتهم وبلاغاتهم.
■ثمة من يقول:معتوهٌ منْ يُقحمُ الفلسفة بخلايا الشعر.ما رأيك؟
ـــ أنا مع هذا الرأي. ذلك أن الفلسفةَ تُمرضُ الشعر،وتجعلهُ عقلياً أكثر منه عاطفياً.وتلك كارثةٌ،تنقلُ التصحر للشعر،فتجعل منه شأناً لغوياً يؤذي القصيدة .
■ هل اجتمعت بمعلمك المفضل ( نيما يوشيج) في هذه السموات ؟
ـــ اجتمعنا واختلفنا على صياغة مشروع لبيان شعري،يؤسسُ لمرحلة ما بعد القصيدة .
■ يؤسس لتيار شعري كما تقصد ؟
ـــ لا .رأينا ضرورة الخروج من حلقات الشعر الضيقة،إلى حركة الكون اللغوي ذات التيارات الشعرية المرتبطة بالتقنيات المستخدمة في طقوس الجنائن .
■ وهل أصبحتما من أعضاء الفردوس ؟
ـــ لا توجد عثرات أمام أحد من الشعراء للانضمام لتلك الجنائن الربانية، عدا أن يكون قاتلاً أو بلحيةٍ تعششُ تحتها البراغيثُ والأفاعي والقنابل والفتن .
■ كأنكَ تريد العودة بالذكرى لحزب ((توده)) الشيوعي ،والتأمل في مرحلة النضال السياسي الذي زجّ بك في السجون.هل كانت تلك الفترة قاسية ؟
ـــ كل كفاح إنساني من أجل العدالة والاشتراكية والحريات ،كان بمثابة أمل يمكن زرعه في تربة الشعوب .
■ كيف تفاعلت مع حزب ماركسي،مع أن والدك كان ضابطاً بالجيش الإيراني ؟ألمْ يعتبر الأبُ تلك بالخطيئة المدوّية؟
ـــ أنا ولدت على فوهة بركان .منتصف القرن العشرين الذي كان يشبه البركان
بتحولاته السياسية والعسكرية والثقافية.لقد عشت فيلماً طويلاً من القهر والرعب والقلق والحاجة إلى خلق كل ما هو جديد ومعادٍ للتخلف والدوران في الفراغ. وفيما يخض الأب الضابط في الجيش،فكان هو الآخر متمتعاً بالتحولات من داخله،دون أن يبدي مشاعر الغضب بعد مقتل رئيس وزراء إيران المنتخب محمد صدقي بانقلاب 1953 .
■ يبدو أن عدوى الانقلاب قد جذبتك،فقمت بما يشبهه شعرياً ضد رائد حركة التجديد الشاعر الإيراني نيما يوشيج.أليس كذلك؟
ـــ في كل انقلاب فني أو أدبي لذّةٌ لا توصف،بينما انقلاب الدبابات،فلا تخلف وراءها غير الجثث وبرك الدماء والخوف.
■ هل حلمَ أحمد شاملو بمنصب سياسي يوما ما ؟
ـــ نعم. أردتُ من شجرتي أن تعطي برتقالاً بنكهة غريبة.
■ لمَ ثمار البرتقال بالضبط؟
ـــ لأن التفاح محجوز للنساء .ذلك ما أردت التعبير عنه .
■ وهل هنّ جديراتٌ بحمل اللقب برأيك ؟
ـــ ليس كل امرأة بالطبع.فثمة نساء حارقات بالكَرْب.ومنهنّ من مُطرزات للآلام على وجوه الوسائد، وكل ما في قلوبهنّ دمُ حامض.
■ وأنت.الرجل الشاعر القديس المثالي كما تجد نفسك على سبيل المثال ؟
ـــ لم أشعر يوماً بأنني قديس أو مثالي أبداً. كنت عربة بعجلات متآكلة،حملتُ على ظهري الأنقاض والتحف والمؤن والآلام والأغاني بأضلعها المكسرّة.
■ لقد كنتَ أوبرا بفم تراجيدي.أليس كذلك يا شاملو؟
ـــ بالضبط.هذا تعبير يليق بتلك الظروف التي مرتْ بها حياتي القديمة.
■والآن.كيف خرجت من البرزخ،ودخلتَ إلى هنا ،لتكون في مكتبة الطير ؟
ـــ كانت رحلتي شاقةً.ثمة من كان ممسكاً بقدميّ،لحظة دخولي البرزخ.لا أعرف منْ فعل بي ذلك،ولكنني تمكنت من الإفلات من تلك القبضات،بمساعدة من شخص يدعى حمدان بن قرمط.
■ يبدو أن موتك شهد معركةً ! بماذا تفسر ذلك يا شاملو ؟
ـــ سأخبركَ بشئ عما حدث لي أثناء صعودي إلى السماء،وقد تعتبرهُ مهماً .وهو أن بعض الملائكة طلبوا أجرة لنقل جثماني إلى البرزخ.ذاك كان أولاً،وبعد ذلك أقفلت الغربانُ على روحي النعش والنوافذ والأبواب ،مطالبةً بدفع ثمن النعش للغابة التي سرقوا منها الخشب لتصنيع مثل تلك التوابيت للموتى دون رخصة .
■ وماذا فعلت للتخلص من تلك الورطة؟
ـــ لقد خلّصني ذلك القرمطي من مشاكلي الأرضية،ثم رافقني إلى هنا،وهو يحمل حقيبتي .
■ جئتَ تحملُ حقيبةً يا شاملو.وما كان بها من بضاعة ؟
ـــ فيها الفستقُ المكنون بقلب ( آيدا ) مع الزعفران ليس إلا .
■ كم بلغتَ من السنّ يا شاملو الآن؟
ـــ سنةً واحدةً من قصيدة بلا سياج.
■ والأيديولوجيا.ألمْ تكن سياجك الشعري في قديم الزمان ؟
ـــ كانت كذلك،ولكنني لم أعتنِ بإطالة المُكوث في حوض (توده ) الأحمر،بعدما اكتشفت بقية الألوان البحرية والسماوية للكلمات.
■ وهل تحولَ الشِعرُ عندك من عقيدة إلى شغف يا شاملو؟
ـــ أصبح الشِعرُ عندي الآن جسراً من اللحم الحارّ ،يرتفعُ وينزل ما بين برزخ الجسد وبرزخ اللغة.
■ لحمٌ بالتوابل ؟!!
ـــ أجل بالنساء اللاتي يمضينّ بتدريباتهنّ تحت غلاف الروح.
■ وهل ما زال أحمد شاملو شرقياً ؟
ـــ لم أستطع التخلص من كيمياء الشرق بعد.ولا من تبعاته في القلق والحيرة والاضطراب .ما زلت أشعر نفسي بمخدة مَحْشُوّة بالزَّغَب العاطفي للشمس .
■ يبدو أنك نشوانٌ بمادةٍ ما.هل لك أن تؤكد لنا ما أنتَ فيه في هذه اللحظات ؟
ـــ أنا منتشٍ بمذهب الجَبْريّة التي حسمت إيماني بقضاء الشعر وبقدره . فبعد الشيوعية،تجدنا الآن على أعتاب الخيارات الأخرى التي ما كان وجودها الما ورائي، يُشكل لنا عقبةً تُذكر.
■ هل التقيت بالشاعر عمر الخيام ؟
ـــ مع الأسف لا.فقد قيل لي بأن ملائكةً رافقتهُ إلى مكان مجهول من هذي السموات المفتوحة .ربما استدعوه إلى جلسة رائقة على تخوم شلالات النبيذ الأبيض .
■ ولمَ لمْ تذهب باقتفاء أثره .أتخاف من أن يختم الخمرُ عقلك،فتعود للتيه مرة أخرى؟
ـــ ليس من عادتي أن أكون تابعاً .
■ ولكنك لم تذهب إلى تلك الشلالات ،فتقامرُ بإعادة إنتاج شعرك على ضوء الزمن الجديد؟هل هو الخوف الذي يسيطرُ عليك،بحيث أفرّغكَ من الاضطراب الذي عادة ما يصاحب عمليات الخلق والمغامرة الفنية ؟
ـــ مثلما دفعت على تلك الأرض مختلف الضرائب من أجل الحرية،ربما سيكون علىّ دفع نوع جديد من الضرائب هنا.ولكن لا مانع من حصول ذلك،مادام وجود الشعر وجوداً غير صناعي .
■ هل رأيتَ أحداً من الشعراء ،وهو يمشي بجنازة قصائده ؟
ـــ كثيرون.فتوابيت العهد الشعري القديم،كانت محمولةً على ظهورٍ مكسورة ،تعاني من الأهوال على الطريق الترابي للغة.
■ وأنتَ.بمنْ كنتَ تثملُ أثناء الكتابة ؟
ـــ بأزياء المخيّلة ليس إلا .
استوقفني واسترعى انتباهي هذا الحوار المركّز و العميق مع الشاعر الايراني أحمد شاملو الذي نشره الأخ الأديب أسعد الجبوري . أقول استوقفني واسترعى انتباهي لعدّة أسباب من بينها عدم اهتمام العرب بأدب بلدان الجوار الحديث ، وعدم اهتمام بلدان الجوار بالأدب العربي الحديث . أتجهنا وبقوّة لقراءة و ترجمة الآداب الأوربية والأميركية فأهملنا أدب وأدباء منطقتنا ، وما يُمكن ان ينشأ من الحوار الأدبي المتبادل والترجمة من علاقات وتفهّم وتعاون وصداقات وحب بين الشعوب . الحوار هنا حديث العهد على ما أعتقد بيد ان ملاحظتي عن هذا الجفاء الأدبي والثقافي قديمة وتعود الى أيام دراستي في جامعات المانية عديدة كانت آخرها جامعة برلين التي مكثت فيها أطول فترة دراسية وأنهيت فيها دراستي وتعرفت الى زملاء ايرانيين وأتراك . راعني حقاً ان معرفة بعضهم في الأدب العربي الحديث قليلة بل مخجلة ، وراعني أيضاً ان ما من علاقات حميمة بين الطلبة العرب والايرانيين والأتراك مثلما ينبغي للأمر ان يكون ، فنحن أبناء جوار ولدينا أرث تاريخي مشترك كبير ، في حين ان الأوربيين من مختلف الأقطار الأوربية ومثلهم الأميركيون من مختلف بلدان اميركا اللاتينية يتعارفون بسهولة ويلتقون بدون عقد وحواجز . كتبت حول هذا الأمر ونشرته في مقال لي ظهر في جريدةة القدس العربي آنذك .. العلاقات الثقافية بيننا وبين شعوب دول الجوار من ايرانيين وأتراك وأفارقة مهمة جداً في جعل منطقتنا أجمل وأكثر معرفةً و حباً وسلاماً ، ومهمة أيضاً في تعريف الحكّام بدور الشعوب ، بل وحتى في تفادي الأزمات في المنطقة على مستوى المستقبل البعيد .