إشارة :
برغم أن الروائي المبدع برهان الخطيب يُحسب على جيل الستينات إلا أنّ ما يميز منجزه الابداعي هو هذا التجدّد والتجديد في الأسلوبية وتناول الموضوعات مع ثبات بصمته السردية الجوهرية على خارطة الأدب الروائي العراقي والعربي. وقد أغنى عمله الصحفي وحياته الحافلة بالمتغيرات مخزونه التجاربي فأثرى المكتبة السردية العربية بأكثر من اثنتى عشرة رواية كل واحدة لها عالمها المستقل المتفرّد. يسر أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ ملفها عنه متمنية على الأحبة الكتّاب والقرّاء إثراءه بالمقالات والصور والوثائق. تحية للمبدع الكبير برهان الخطيب.
أسرة موقع الناقد العراقي
منذ فترة وبرهان الخطيب يراهن على الشكل الفني وليس على المضمون. ولا أريد أن يفهم أحد أنني أضعه في زمرة الدعاة للفن من أجل الفن أو البرناسية. بالعكس فهو مسكون بتقاليد ما أسميه روايات سايكس بيكو 2 التي تتحدث عن حروب مفتعلة، وهدفها الوحيد جباية الغنائم وتوزيعها. وفيما أرى يقف وراء هذا الأسلوب الصعب والغريب رغبة بالتفرد، وأن يكون شيخ طريقة يلعب في الميدان وحيدا. لقد اختار برهان الخطيب لنفسه غرفة لا ينازعه عليها أحد، كي لا يضيع في زحام سوق الرواية، الذي يشهد فائضا في الكم والنوع، ولا سيما في مجال موضوعات حروب الخليج ومداخلاتها. لقد ألهمت هذه المشكلة الأدباء على جانبي المحيط. غير كيفن بيري وجون أبدايك من أمريكا تنافست في منطقتنا أسماء هي أشهر من نار على علم، وعلى رأسها في لبنان فاتن المر، في الكويت إسماعيل فهد إسماعيل، وفي العراق نجم والي وسنان أنطون وعلي بدروسعد محمد رحيم وضياء الخالدي إلى آخر هذه القائمة. لقد تحولت مشكلة الحرب إلى مشكلة مشروع روائي و تنويري في وقت واحد. وقد التزم عموم الروائيين بتحدي ذاكرتنا الفنية والاجتماعية، وأدخلوا على الجانبين مجموعة من التحولات، كان في مقدمتها الاهتمام بجماليات المكان من خلال وعي الشخصيات وإدراكها لقيمته، وليس من خلال المتابعة بالنظر. إنما يحق لي الإشارة لاستثناء واحد يمثله برأيي حاليا العراقي زيد الشهيد، ابن السماوة، الذي احتفظ من ملفات الرواية العربية بنقطتين:
1- فهمنا للغة على أساس أنها غاية وليست وسيلة. فبدايات الرواية تعزو أهمية لامتناهية لكل ظواهر التعبير الأدبي ابتداء من تجارب السوري معروف الأرناؤوط (1892 – 1948) وحتى الفلسطيني بديع حقي (1922-2000).
2 – وفهمنا للمكان على أنه حيز أو مساحة منفصلة عن إدراك الشخصيات والأحداث. بمعنى أنه لها استقلالية نسبية وكأنها بند إضافي أو جزء منشط لنظام المعرفة والإدراك. وهذه إحدى أهم خصائص الاتجاه الواقعي الذي خيم على مشهد الرواية العربية في الخمسينات (سوريا) والستينات (مصر). ولا بد من التنويه أن معنى المكان مر بعدة أطوار ومراحل. كرمز عن الملكية الإقطاعية في عصر الأرستقراطيات الكبرى (أو وحدات السرد التبادلية التي كانت تحتفظ بالمضمون وتلعب بالشكل أو تعدله)، ثم كرمز لعدة احتمالات منها العلاقة بأدوات الانتاج الآسيوي الريفي أو وسائل الحياة المدينية حيث يكون للملكية معنى يعادل المضون النفسي وخصوصيته ونرجسيته.
عدا هذه الحالة لم تضع الرواية العربية أي حاجز أو جدار بين لغة الكتابة وفضاء ألأحداث. لو هذا ما فعله أيضا برهان الخطيب. فقد نظر للطرفين على أنهما شيء واحد مكمل لأسلوب استيعابنا للحياة. بتعبير آخر لم يحتفظ بأي مسافة بين الروائي و الرواية، وكان ينتقل بين الطرفين بحرية مطلقة. وربما تطرف باختياراته كما هو الحال في مشروع عبد الرحمن منيف، مع أنه اتخذ اتجاها معاكسا. فالخطيب يتوسع بالجانب الذاتي من خبراته الواقعية، في حين أن منيف يتوسع بالجانب المضوعي من حياته الذاتية. بمعنى أن الخطيب يكتب حكايته مع هذا الوجود الغادر والطارئ بينما يكتب منيف عن موضعه من حكايتنا مع وجودنا المستمر والأزلي. ولذلك اقترب الخطيب في أعماله من عناصر بديلة تحرص الرواية الحديثة على الحذر منها. مثل عدم الانتباه لحدود النوع. حتى أن روايته (ضباب في الظهيرة) هي أشبه بمونولوج طويل ومتداخل لثلاثة أشخاص يصعب أن تفصل بينهم. ويستحيل أن تجد علامات فارقة تؤمن لهم شرط الخصوصية. وقاده ذلك لإنتاج ما يسميه (قصص رواية). وفيها يبني علنا مفهوما روحيا وشرقيا لتقاليد الأسلوب الغربي ومن ألأمثلة على ذلك روايته “أخبار آخر الهجرات”. ومن يتابع مجمل أعماله الأخيرة سيفاجئه حتما التركيز على بناء الرواية وتركيب الجمل وتتابع الفقرات. ولا يوجد جديد في هذا المضمار فهو منذ بواكيره يميل لطرف واحد من المعادلة، لنقل إنه يقلل من شأن المضمون الفاسد لهذه المرحلة، ويدعو لمقاطعة التعاليم والقوانين المرعية واستبدالها بعالم خيالي تصنعه بيديك. وعن ذلك يقول الراوي لزميله في نهاية آخر رواياته “ملف عابر قارات”: دعنا بلا أدب بلا دين بلا ثقافة. ويضيف مباشرة قوله: عموما آدميتنا ناقصة (ص247).
ويمكن أن تنظر للنقص على أنه حالة من حالات التوقع أو حافز للبشرية لمزيد من الكد والتفكير. وكما ذكر أفلاطون في (حوار منقول عن معلمه سقراط): الإنسان يبحث عما لا يمتلكه. فالشقي يبحث عن الرخاء. والدمامة تبحث عن الجمال. ولكن في فلسفة روايات برهان الخطيب: الرواية تبحث عن نفسها لأنها كتلة دون شكل محدد. أو بمعنى آخر لأنها كتلة مبهمة من الأفكار والمشاعر. ولهذا السبب كان الخطيب يعود لأعماله السابقة وينقحها بشكل أعمال جديدة. وقد فعل ذلك بكتابه “الشارع الجديد” والذي أعاد نشره بعنوان “أخبار آخر العشاق”. وكرر المحاولة مع “شقة في شارع أبي نواس”. فقد لحق بها تعديلات هامة وأساسية حولتها من صراع بين شخصيات إلى صراع بين عهود من تاريخ البلاد الحديث. وشرها بعنوان “ليالي الأنس في شارع أبي نؤاس”. و بين النسخة الأولى والثانية في الحالتين فاصل لا يقل عن عقدين أو 25 عاما.
لقد لعب برهان الخطيب، في كل رواياته، بالشكل والأسلوب.
– إما أنه يحول الخيال لمونولوج داخلي بلا فواصل ولا نقاط، بمعنى من غير محطات استراحة كما في (ضباب في الظهيرة). حيث المونولوجات تتفرع وتلتقي دون تقسيمها لمناظر ولا مشاهد على الطريقة المعروفة في بناء الرواية.
– أو أنه يرسم لوحات منفصلة ضمن إطار واحد وهو ما يسميه باسم قصص رواية. وهنا تجتمع الأضداد في تصنيف غريب وعجيب، فالتكثيف يتجاور مع التفصيل والإسهاب. وضغط وتقليص الحجم يترادف مع تكبير المساحة. ويتآكل جنس فني بأدوات جنس معاكس، ليتركنا في النهاية أمام نوع باسم مركب. وهذا هو حال (أخبار آخر الهجرات).
ولئن رأى بعض النقاد أن لهذا الأسلوب خلفيات من أيام (ألف ليلة وليلة) لا أرى سببا واحدا لذلك. فالخيال الشعبي في ألف ليلة للترفيه وليس لتقديم العظات. إنه أسلوب غير تربوي وغير هادف. بينما (آخر الهجرات) تتعامل مع مثقفين ونماذج من النخبة أو مع خبرات بحاجة لوعي وانتباه.
إن صلة القرابة بين أعمال برهان الخطيب والحكائيات، برأيي، لا تزيد على الصفر. فقارئه يحتاج لشحذ كامل عدته وعتاده ليفهم المغزى. بعكس السير والملاحم التي يفهمها حتى المنوم مغناطيسيا. وبالمقارنة إنه في الرواية الجديدة (التي نسميها anti novel ومنها أعمال كلود سيمون وميشيل بوتور) تتطور الأشكال مع مستوى نضوج الشخصيات.
وكذلك يلتزم عنصرا المباغتة وتغريب الذوق (الحساسية الفنية وليس عصر أو عصف الذهن) بحدود الضرورة. فهو تغريب شكلاني ويتوقف عند عتبات الديكور. ولا يلمس معنى الرواية من الداخل. إنه (إكسسوارات) كما ورد على لسان الشخصية رقم ١(ص139). لقد كانت الرواية الجديدة تحذف أحد الأدوات ولكن لا تلغي كل القواعد جملة وتفصيلا. فهي أحيانا تضحي بالحوار وتعتمد على المتابعة والنظر. وأحيانا تلغي وحدة المشهد الروائي وتقسمه لعدة مناظر متداخلة. أما برهان الخطيب فإنه يبدل بذرة الفكرة، ويطالب المعاني بأن تستجيب لقاموسه اللغوي كما لو أنه شاعر ويجوز له ما لا يجوز لغيره. فقد كان كما ورد على لسان رافد، واحد من ثلاثة أشخاص أساسيين في الرواية، (يموسق أفكاره، ص 68).
ولكن إذا كانت الضرورة في القصائد تبرر للشاعر عدم الالتزام بحركات الإعراب (بنية اللغة بتعبير شومسكي) فهي تفرض عليه بالمقابل قيود وقوانين البحور ونظام ترتيب الأصوات. وهذه مشكلة لا حل لها، أن تبسط من طرف وتتعهد ببناء العراقيل والحواجز من طرف آخر. وإن الامتثال لضرورة وإهمال غيرها هو المدخل لعالم برهان الخطيب ولا سيما في روايته الأخيرة (ملف عابر قارات)*. إنه يغض الطرف كليا عن التسلسل أو حتى التبادل في (الحبكة وبناء الشخصيات والحوار) ويستعيض عنه بتمكين الجو العام ولا سيما الحالة النفسية.
(املف عابر قارات) إعادة كتابة سيرية – واستنجاد بالذاكرة وبماضي الكاتب نفسه – وإحياء لعمله السابق(ضباب في الظهيرة). فنفس الشخصيات تعود للظهور على مسرح الأحداث، ولكن بتوقيت مختلف، ونفس المونولوج المتداخل يتكرر ليتابع مع أبطال تلك الرواية إنما من زاوية مختلفة. لقد كانت الحركة عمودية في العمل السابق وتعكس الجو النفسي المضطرب للشخصيات التي تعيش في أتون الداخل وصراعاته وجحيمه. بينما هي في هذا العمل أفقية تصف عذاب المهاجرين في غربتهم، وانعكاس ذلك على الطبيعة والمناظر الخارجية التي تبدو كئيبة ويغلب عليها الشقاء والشك. وباعتبار أن مزاج الشخصيات الأساسية متشابه، وهم رافد وأنيس وخلدون، بالإضافة للراوي الذي حمل اسم برهان الخطيب نفسه، أو لقب أبو حسن، نستطيع القول: هناك نوع من المونولوجية في الموضوع وليس في الحوار فقط. وأعتقد أنه يفعل ذلك عمدا. تقول نسرين (المرأة الوحيدة التي ندخل في الرواية لمخدعها): إنه في كل أعماله يختفى وراء أبطال الحكاية ويفرض عليهم رأيه (بالحرف الواحد: يلبسهم آراءه – ص142). وفعلا لا تختلف كلمات الحوار بين شخص وآخر، وكذلك هو حال الخصال النفسية. إن هذه الشخصيات ترسم دائرة واحدة حول نفسها ليكتمل الحصار من الداخل والخارج. حتى أنه لا يمكن أن تعلم ما هو الفرق بالضبط بين رافد وبرهان الخطيب. إنهما يتحركان على محيط هذه الدائرة التي تحمل شيئا من ماضي الكاتب ومن مسيرته وتجربته الشخصية دون أن يكون هو بالذات.
وهذا هو مخطط هذه الرواية على وجه الإجمال. إنها تحمل شيئا من مضمون (ضباب في الظهيرة) على مستوى الشخصيات والأفكار. ولكن مع تفاصيل لا تجدها إلا في (الجنائن المغلقة)، التي تتكلم عن أزمة الكاتب مع دار التقدم في موسكو ثم انتقاله إلى دار رادوغا، وأخيرا هجرته إلى دمشق وضياعه وبؤسه في أحيائها الشعبية الفقيرة. وهكذا تتحول الحبكة لمونولوج متشائم ومقبض للنفس، وتصبح الشخصيات أشبه بأطياف أو خيال ظل. أصلا هي لا تقدم عنها أية تفاصيل نوعية. ونحن لا نعرف شيئا عن مكان سكناها ولا الزي الذي ترتديه. وكذلك لو لا النذر اليسير من المعلومات عن وسط موسكو لما كان هناك تفسير ولا تحليل للمكان. وتزيد هذه المعضلة لو علمنا أن مكان الصوت الداخلي الذي يجلجل في أسماعنا هو ثلاث عواصم كوزموبوليتانية، هي ميتروبول بغداد واستوكهولم وموسكو. وإنه باستثناء إشارات سريعة لتقلب الفصول في استوكهولم لا توجد إشارة واحدة تدل على اهتمام الكاتب بها. وباستثناء ذكر عابر لنهر دجلة وشارع وسط المدينة لم تترك لنا الرواية علامة واحدة تميز بغداد، عاصمة الرشيد، بالرغم من تنوع ووفرة الأحفورات.
ومثل هذا القفز من فوق التضاريس، إن دل على شيء، يدل على هموم ذاتية، أقله على تفسير ذاتي لمجريات الأحداث.
تتألف الرواية، إذا، من تأملات ووجهات نظر. وذلك بلغة كونية لا تنتمي لخط تفكير أو إيديولوجيا. ويمكن اعتبارها في النهاية تبشيرا بموت الإيديولوجيا وتحويلها لفراغ أو لسأم وغثيان بلغة سارتر وعبث وفوضى وتمرد بلغة كامو. لقد كانت المثل والقيم، بنظر أبطال الرواية، لعنة تصب نقمتها عليهم، أو أنها كابوس يفكك الإنسان من الداخل ويحرمه من حرية شرطه الوجودي.. أن يعيش في العالم وكأنه هو جوهر الحياة وليس إحدى ثمارها.
ولكن عدم تكامل هذه الرواية مع العمل التمهيدي (ضباب في الظهيرة) يدل على موقف فلسفي للكاتب من الماضي.. فهو لا ينظر له كنوع من التعاقب بل كظاهرة مضمونها الأفول. لقد تحولت الخبرات السابقة إلى ما يشبه الحفرة أو القبر. ولذلك كان محكوما عليها بمصير واحد، وهو الفناء، أقله الغياب.
وعلى ما أرى إن الشخصيات نفسها عادت من الماضي الميت والمجدب، ولكن بمضمون مختلف. لقد حملت على ظهرها أثر التجربة مع الوجود المنهك. وبالتالي هي لم تتقدم بالعمر فقط ولكن لحق بها القنوط ودخلت بسن اليأس. لقد كانت تبدو مثل أفراد من جمعية المحاربين القدماء، تقتات على مجد وبطولات الأيام السالفة، وبالأخص في الغرام العنيف وقصص الحب والتجارب الجنسية. لقد كانت شخصيات مشحونة بالليبيدو، ورغباتها أشبه بسيوف مسلولة من أغمادها. إنها من سلالة الغلام القتيل طرفة بن العبد، فهي تبادر الحياة بما تمتلكه يمناها. ولكن هنا لها صورة رجل من غير شوارب. فحل مريض وخجول، دون جوان في إجازة، ويكاد لا يعرف شيئا عن مكامن الحياء والعيب في المرأة. ناهيك عن المخادع. فنادرا ما يرد في هذه الرواية اسم غرفة نوم أو فراش أو عضو من أعضاء التابو. وكأنها تبدأ من النهاية المرعبة والآسنة لبطل رواية (نهم)، أولى أعمال المرحوم شكيب الجابري، ابن حلب، ومؤسس الرواية الفنية في سوريا.
وتبقى أهم ميزة أسجلها لهذه الرواية أنها عمل انتقائي. فهي تنتخب من الذاكرة كل ما يفيد فضاء الأحداث والمضمون النفسي للشخصيات، سواء كان هذا ضروريا للحبكة أو أنه قليل الأهمية. ويمكن القول إنها ركزت على بناء مشهد اجتماعي بمشاهدات سياسية. بتعبير آخر: كانت تتابع تطور المجتمع الذي يحترق بنار الصراع على السلطة والسياسة. ولحسن الحظ تجنبت كل ما له علاقة بالغرائز. و لم تستغل النساء الجميلات ولا حفلات الكافيار والشمبانيا كما هو الحال في (غراميات بائع متجول). وقبلها في (ليالي الأنس). و أعتقد أن هذه العناصر الأعجمية غير المعربة هي الوجه الآخر للغة أدبنا الشعبي . و المهم برأيي عمل الذاكرة في (ملف عابر قارات) كان يخدم أهداف الشخصيات بتحرير المكبوت ثم تطهيره.
وقد اقترن ذلك مع مراجعة شاملة لكل لحظة من لحظات الماضي المندثر. لقد اختارت الرواية الصعود بالمركب الصعب الذي يسميه جلال صادق العظم “النقد الذاتي”. وهذا لا يتضمن نقد التجربة الشخصية فقط، ولكن كل الجو المنتج للذات.. الخطاب السياسي وبنيته. و لقد أدى ذلك لتقويض البنية السابقة، وليس لترميمها (كما اختار بهاء الطاهر أن يفعل في روايته “نقطة النور”). فلغة المونولوج انتقلت من اليأس واللاجدوى والتمرد والغضب إلى لهجة مختزلة، بين تراكيبها فراغات، ويخيم عليها يأس مطبق مع سخرية مريرة. أصلا يختصر برهان الخطيب جدوى روايته بهدف واحد وهو: هجاء القدر الساخر (كما يقول ص- 55) والاقتصاص منه.
أما التراكيب والجمل فقد كانت تتعاون ضد الوضع الوجودي الغامض بشيء من الجهاد الألسني. وأنا أقصد ما أقول بالحرف الواحد. لقد وضع برهان الخطيب كل قدراته الفنية ليس لبناء الشخصيات، ولكن لتطويع أفكارها ومنطقها بإيقاع صوتي. وتطلب منه ذلك التخلي عن كثير من الوسائل المساعدة والمفصلية كحروف العطف وأسماء الوصل والنقاط والفواصل. وكانت النتيجة تراكيب من أسماء وأفعال أساسية فقط. و كأنه أراد الانتقال من مجال سريالية الصور والمشاهد لسريالية اللغة والتعابير.إن الفن السريالي كما نعلم يبدل من موضع الأشياء وتسلسلها، ليعيد تشكيل العالم لا كما نراه ولكن كما نشعر به أو نعقله. أما (ملف عابر قارات) فتبدل من مواقع المفردات في الجملة حسب الترادف الصوتي. وذلك لنعقل العالم الذي نستمع لهديره وضوضائه في أذهاننا. إنها سيرورة صوت نفسية، تحول الصورة إلى إيقاع. وأنا مدين لكم هنا بأمثلة:
يقول الراوي: شيء يتحرك تحت سطح حتى عند قمة ص 42.
ويقول: ساحة عرضات فسيحة ص 42.
يقول أيضا: حياة طلبة تنتهي تبدأ المهنة ص 46.
ويرد على لسان رافد قوله: باطنه ظاهره يناوش حقيقة في غياب (ص 68).
وتقول تامي (شخصية ثانوية في الرواية): صحيح لا مفر من نسيان وسيلة في الأقل لنهزم القدر الساخر (ص55).
ويمكنني قراءة الجملة الأخيرة بلغتي العربية كما يلي: صحيح لا مفر من النسيان. فهو وسيلة نهزم بها القدر الساخر.
وغني عن القول أن الندرة هي الظاهرة الأساسية في هذه الجمل. أين حرف العطف وأداة التعريف. ولماذا هذا التأخير للفعل وتقديم الفاعل؟. ولماذا يصر الكاتب على تجاهل الجمل الفعلية والتركيز على الجمل الإسمية. ثم ما سر استعمال حتى كحرف عطف مع أننا لا نفعل ذلك منذ عهود. وما لغز جمع عرض بصيغة عرضات. هذا كله غيض من فيض. ناهيك عن عدم التزام الصفة بحالة الاسم الموصوف في الجمع والإفراد. إنها مشاكلة لغوية تضع النص على خط النار، وتفتح الباب أمام مساءلات تدل على الأزمة الذاتية لحكاية الكاتب مع فنه وماضيه. إن مثل هذا الأسلوب ينقل الرواية من المشافهة المفترضة (افتراض أننا نستمع لحكواتي) إلى التدوين (تسجيل الأفكار على الورق وبعزلة عن جمهور المستمعين). وحتى التدوين يبدو وكأنه حالة سباحة حرة في فضاء اللغة. فالمفردات تلتقي بترتيب مختلف وكأنها تعمل من فوق شرط التمكين (الوعي والاستيقاظ). لقد كان كسر القانون هو مطلب من مطالب الحركة السريالية. وفي بيانات أندريه بروتون كلام مسهب عن الكتابة وأنت تحت تأثير المهدئات للتعبير عن الدمار النفسي والخراب الموحش الذي لحق بالبشرية.
والكتابة في حالة غشاوة تؤدي لإزاحة المعاني. ولكن عند برهان الخطيب المعاني مستقرة وواضحة، ولا تعاني من لبس، إنما الإزاحة هي في الأصوات والألفاظ. ولا أستطيع أن أفكر باسم كاتب آخر يصر على هذا الأسلوب، اللهم إلا جمال الغيطاني وروايته (شطح المدينة) .
ماذا يريد برهان الخطيب بالضبط من وراء ذلك؟!!..
ربما يعتقد أن الأساليب المعروفة هي نتيجة تفكير ميكانيكي (تقليد وجمود) كما قال بالحرف الواحد على لسان الراوي (ص 47)، ولذلك يفترض بنا كما أضاف لاحقا: أن نستلهم أفكارنا وأساليبنا من الانفجار الكوني وضياع المادة في الفراغ.
وإن هذا يلقي علينا عبء التعامل مع النظام (قانون الأب الأوديبي الذي يشبه بدوره دور الوحي) على أنه مجرد تحولات (ص 47). أو كما يقول لرفيق عمره خلدون: إنها صورتنا بالمرآة، وهي صورة نختارها بإرادتنا (ص114). بمعنى أنها قد لا تكون حقيقية، بل إنها تدحض الواقع، وتكمل اللامعقول والغرابة، سمة تحولاتنا في هذا العصر (ص114)..
* ستصدر الرواية عن مديرية الشؤون العامة بوزارة الثقافة في بغداد. وأرقام الصفحات المذكورة في هذه القراءة المتواضعة تشير للمخطوط وليس للنسخة المطبوعة.
وردني من الروائي برهان الخطيب تعليق مفاده ان الرواية لم تكرر صوت المؤلف.. لأن رافد شيوعي ملتزم و انيس وجودي و المؤلف بينهما يبحث عن الحقيقة و في النهاية الرواية تقدم صوت الشعب بكل فئاته لا صوت كاتبها.
و الحقيقة ان لدى برهان الخطيب مشروع روائي حصلت او طرأت عليه انزياحات. و كان كلامي لا يعني تشابه و تكرار الشخصيات و انما تشابه مستوى ثقافتها و استعمال مفردات من قاموس متماثل هو قاموس المثقفين.
فاقتضى التنويه و شكرا..