جابر خليفة جابر: أصوات أجنحة جيم (ملف/40)

إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين. ويهم أسرة الموقع أن تتوجّه بفائق الشكر والامتنان إلى الأديب الأستاذ “محمد عبد حسن” مؤرّخ هذه المجموعة وواحد من المساهمين المهمين فيها لأنّه زوّد الموقع بأغلب نصوص هذا الملف.
أسرة موقع الناقد العراقي

– اتجهوا جنوباً، مخلفين النهر ورائهم والرطب المائع، وانتشروا على الساحل والصحراء، رمالاً ناعمة، ذرات بشرية وبنادق، حفروا قاماتهم وغاياتهم وتوغلوا في الأرض، قلبوها ونبشوا البادية (اسمنتا مكيفا وسيارات/ ذهبا إبريزا/ شرائط فيديو عارية ودشاديش حرير بيض)، شكّوا البر بحرابهم والشاليهات، وتشكلوا، خنادق وأقواس نار، خوذا او نقاطا صغيرة على خارطة الصحراء، خوذا وحيدة، عزلاء، وسط دوائر نارية متعددة متداخلة أحاطت بهم (خليجا أجاجا ودخانا / دخانا ورمالا / رملا وروماً) دوائر ودوائر تكالبت عليهم، لاهثة باطشة، دامية، فهاجوا وماجوا عجاجا احمر باتجاه الجنوب، طووا أشرعة البر والمطلاع حين نكصوا وبقيت خنادقهم محفورة بقسوة.
جمل قصار، نافرة، متوترة، تدفقت فائرة وتناثرت من فم الدليل ممزوجة بلعابه على الزجاجة الأمامية قريبا من وجهي، كأن حرائق صغيرة اشتعلت في ذاكرته وكوته عندما عرضت عليه -وأنا أركب سيارته الجيب- أن يكون دليلي لتقصي آثار (جيم)، سألني عن كل غامضة وواضحة، أجرته، موعد الرحلة، أسبابها وترتيباتها. وكنت أجيب، كان رجلا فارعا جاوز الأربعين بعدة خرائف، مشدود البنية، نحيفا كصلِّ حماد، حاد الذكاء، ذي نظرات قلقة ومتوجسة وشهرة جعلتني اختاره من بين أدلاء كثيرين يقطنون حدود الصحراء، وبعد أن أوقف سيارته، سألني عن جيم، فقلت زافرا:
– قضى وظهره إلى الجدار.
وأردفت وأنا أناوله (CHANGER) دفتر يوميات جيم الأزرق.
– قضى تاركا لنا هذا وهو الذي عد محظوظا لنجاته من الحرب قبل ذلك بأيام.
تصفح الدفتر بعصبية وأشعل سيجارة نفثها إلى الأعلى بحرقة محدقا في دوائرها الدخانية المتداخلة ثم ركز نظره في وجهي وقال بصوت متحشرج خفيض، لنمضِ..
اتفقنا على كل شيء، حدث هذا في الأربعاء الأخير من تموز، وقبله، في ظهيرة الجمعة تماوجت فكرة الرحلة في رأسي وانبثقت بومضة قلب غامضة، رسالة تخاطرية من مجهول ربما، أو لرفيف أجنحة ملائكية أزاحت الحر اللاهب وتهادت لتحوم حولي على حافة ماء يروي قنطارات ثقال العثوق، استرحت في ظلهن، ويمسد جذور نخيل الساير وسيد الرطب البرحي، حامت بعد ثلاث آبات حين حل قيظ ظهيرة خانقة وارتحل.
حلَّ وارتحلَ ثم حلَّ. ثخين الخضرة والقنطار المائع يتلألأ من طرف الثيل، بستان عامر، سبع برحيات والثامن فحل، فحَّ آب وحل وتصافقت أجنحة جيم.
أشرقت الخوذة/ فولاذا متربا.
بدلته الخاكي.
بسطاله بسواد فاتر.
ومن قلب قنطارة غرق ثلثها في النهر، تلألأ جيم وتشكل خيالاً بليلا بالغربة والمطر الآخر، هيماناً لم يطأ الظل وكملاك آسر رفرف بأجنحة زاهية ودار ثلاثا حول الماء الجاري ثم بادلني (CHANGER) بحبات رطب مائع وتلاشى، ذاب ضبابا وترك بين يدي دفتر يوميات كان يسرد أحداث قصة على صفحاته بحبر اسود، بادئا بكتابته من اليمين صعودا ضد تسلسل أرقامه المزدوجة، من الورقة المائة إلى الأولى وحتى الغلاف الأيسر حيث رُسمَ المانشيت الأبيض CHANGER DUBLCATE BOOK على أمواج لونه الأزرق الباهت.
قرأته مرارا وبعد كل مرة كنت أضمه إلى صدري بألفة غريبة، وحين عدت إلى البيت لففته بقماشة خضراء لامعة وعزفت عن الكلام، ثمة قوة تشدني إليه، تيار يشبه السحر، وعندما أعطيته الدليل بعد أيام ذكر لي إحساسا مشابها، قال إنه شعر بآلام لذيذة وجاذبية مخدرة، بقي لديه ثلاثة أيام جهزت خلالها ما تحتاجه الرحلة من متاع ومؤونة.
أعدَ الدليلُ أدواته وأجهزته، مرقب تكبير، وخرائط للنجوم بينها ورقة صفراء كبيرة باهتة اللون، ألصقت أجزاؤها الممزقة بشريط شفاف، ورسمت عليها بخط اسود عريض دائرة للبروج، وجلب معه أشياء أخرى متنوعة جمعتها حقيبة جلد عتيقة، وفي الموعد المحدد دار الدليل بنا متشمما حروف (CHANGER) وخرائطه ويداه على المقود تجتذبه رائحة جيم – الجندي الأسمر الممصوص – وصراخه..
يصرخ جيم فترتد صرخاته جارحة مذبوحة إلى أعماق صدره..
يصرخ ليشتعل صدى صراخه حقولا ممغنطة تجتذب أدلاء البر وقصاصي الأثر..
يصرخ ويُسوّد دفتر يومياته ذي الزرقة الغامضة المشوبة بالبياض، يسوده بعجالة ويخاتل الجميع ليخفيه عن فضولهم في الجيب الداخلي لقمصلته الصوف ويحتفظ به كأثر وحيد سيتفرد بالنكوص معه شمالاً باتجاه الجنوب، وبين دفة (CHANGER) وقيدومه، رتب جيم أيامه ورسم مملكته، حدودها وأحاديثها..

(مملكة الغائط كما رسمت في (CHANGER)).
بين رتلين متوازيين من أشجار الأثل اكتشفت مملكتي، كانت جزيرة خضراء صغيرة وسط احتراق البادية، بعيدة عن الظمأ وعن أنظار الجنود على مسافة ثلاثمائة متر تقريبا من موضع البطرية وعلى أرضها تراكمت طبقة كثيفة من أوراق الأثل الإبرية الميتة.
تتخللها حشائش وأعشاب نضرة وأخرى حائلة تنتهي عند أجمة قصب تعترض الرتلين لتحد المملكة شرقا، وعلى هذا البساط الأخضر الظليل تغوطت لأول مرة، ثم كررت المرات حتى انتشرت الألغام الطرية واليابسة على مساحة المملكة – منذ الحرب السابقة اعتاد الجنود على تسمية الغائط بالألغام – وعشش على بعضها عفن أبيض، وثمة شظايا باشطة، استقرت على الأرض بحدة، وأنفاق للنمل الأسود أحيطت فوهاتها بسواتر دائرية صغيرة من حبيبات الرمل فبدت كموضع أسلحة م/ط، وعلى أعشاب مسحوقة دست ببسطالي الأسود ملبيا نداء الطبيعة تحت أنظار ملكية مشبعة بالنار والدخان.

  

دار الدليل ودارت القافلة القصيرة، ثلاث سيارات (نيسان باترول) بمحركاتها الناشطة وأطرها المفلطحة كخفاف الإبل، تجتاز الرمال والإسفلت بخفة ورشاقة ساكبة البطاح الملتهبة وراءها لتسيل صفراء مشتعلة ضحى الفاتح من آب، كانت سيارتا الأمتعة والمؤن في إثرنا ونحن نقص البر، نفليه تتبعا لبصمات بسطالك.. بسطالك القادم من الجنوب او المتجه إليه..
بسطالك الممزق بالحاويات العنقودية أو بكلاشنكوفات المفارز المتحركة أو النافق عطشا، لا فرق.. آه أيها الجندي الأقرب إلى دقة القلب..
كم من أقرانك الآن يذرعون الشوارع بحثا عن غد غامض أو عن كيلو طحين، كم رصاصة فتشت وتفتش عن صدر أو عن حائط في الجنوب ليحتضنها، كم وكم حتى نتحاضن في ظل قنطارة تعطي النهر نصف رطبها، أو لنقرَّ في قلب مقبرة يضم البطائح كلها والطرق الدائرية وقصور الساحل جميعاً ويضم (CHANGER) حيث تدفقت قصتك كما لم تتدفق قصة من قبل.
أفقت من مناجاة جيم لأخوض مع الدليل في مطاردة طويلة وتقص لخطوات جيم طوينا خلالها دورات ودورات من الرمل والإسفلت حتى بهتت آثاره وانمحت بصمات بسطاله، فتوقفنا للاستراحة وتقاسمت البطون الثلاثة فخذا مشويا بالتوابل وأرغفة خبز محمصة كثيرة وأقداح شاي مهيل علامة الوزة، وتقاسموا القيلولة إلا أنا فقد اكتفيت بالشاي اذ كنت عجلا متلهفا الى الوصول لمملكة الغائط، فانتظرتهم فائرا لأنهض وينهض الدليل متمعنا في خرائط (CHANGER).
– من معركة الجمل ومزارع الطماطة الى ملعب الفروسية مرورا بدوار العظام والدائري السابع –
ازاح حقيبته الجلدية جانبا ومشت بهدي الخرائط قافلتنا، كما مشى جيم يوما إلى مملكته ومعه مشت زوادة الطعام خطوة خطوة حتى اتى عليها الرجال، تحت الأرض وجدهم.
في البدء لم ير سوى أعناق المدافع ثم بدت حافات الخنادق…
خوذهم / تروس سلاحف خضر غامقة او سلاحف من جنفاص باهت.
وجوههم / صابرون وضامرون بلحى خفيفة مشتعلة وشوارب ثخان.
بدلاتهم / خاكي وتراب، ظهروا يرحبون به ويستغربون.
يسألونه ويستغربون:
– لماذا أتيت ؟
ويسألون أنفسهم، همسوا له بأسرارهم ونسوا أسرارا، وبعد كل هذا كانوا يضحكون ويضحكون حتى تشققت أشداقهم، يجوعون وتجوع القصاع قبلهم.
وبعد دقائق ينهمكون بإعداد المقالب، بعضهم لبعض، ويرقصون كأطفال، رقصوا الهيوة والدبكة واعتادوا الصبر والسرقات، طيلة ستة أهلة رقصوا وسرقوا وثلاث جمع، وتراقص الجوع معهم والشاي المر وزوادة جيم، ولعبوا الكونكان والـ(21)…
– من البصرة ولا تلعب الورق !
– اهتم بالكتب.
– الكتب !! عليك بالمرشد الكيمياوي فقد حصل على كثير منها.
طيّ الأرض وجده، هادئا بأنف أفطس وعينين عكرتي الاحمرار، وقصيرا بوجه اسود مدور، وجده غارقا بين الأقنعة والتجهيزات الكيمياوية والكتب، ومن كتاب مذهب العنوان اندلعت ثورة الزنج بين يديه.
– أهلا.. قال وسهلا وقال:
– لا حرام في سرقة الكتب.
واتفقا ألا حرام، تأبط جيم كتاب (ارتقاء الإنسان ل ج. برونونسكي) وارتقى معه مدخل الملجأ الى الأرض الخلاء، أنعشته طراوة البحر وأريج الصحراء ممتزجا برائحة الخيول، لم تكن ثمة خيول كالسابق ولا فرسان، الخيول المستوردة حملتها الشاحنات شمالا والفرسان اختفوا، لم يبق سوى الملعب، مدرجاته / إسطبلاته / أعشابه، وثلاثة خيول، حصانان وفرس، اضطر بعدَ أسابيع في زمن الجوع، الجوع الكافر – كما يقول (CHANGER):- لإطعامها صمونا من حصته، يجوع الجسد فيغدوا كافرا، يرفض إطعام الخيول ويحاول جر الروح معه، تأبى، تقاوم، تتشبث وتطعم الخيول الجائعة صمونا يابسا او طريا.. لا فرق فالجوع لا يفرق بين أنواع الصمون، والجنود أيضا لا يفرقون، ثمة نوع واحد يحلمون به ويتشاجرون عند توزيعه هو الصمون، الجوع والجنود اتحدا، أصبحا روحا واحدة، كلاهما يبدأ بالجيم وكلاهما لا يفرق بين أنواع الصمون.
بعد مائتي متر أو أكثر قليلا هبط ومعه (ارتقاء الإنسان) إلى ملجأ الحضيرة ليحتضن ليلته الأولى – سماها في (CHANGER) ليلة القضاء على زوادة جيم – استقبلته ستة أسرة لثلاثة جنود فروا وثلاثة ينتظرون، رابعهم جيم أو سابعهم، بعد أسابيع لن يبقى معه إلا واحد منهم هو الأحدث عهدا بالجيش، بقي معه حتى مزقته الحاويات بعد انتصاف الليلة الأخيرة، ام الليالي وأتون الآخرة، ذكر ذلك جيم في الورقة الختام من (CHANGER) وذكر فيها انه وعدد من الناجين حلموا به يتخطر بينهم برداء ابيض وسط حدائق ملونة كأفرشة يطغاتهم التي بقيت على الأسرة الفارغة، أفرشة قطيفة باذخة بألوان طاووسية حالمة استوردتها القصور لمخادعها، وبطانيات فراء ناعمة تتحفز عليها نمور متوثبة.
رحب الثلاثة به وبزوادته وقضوا عليها كما انقضت نمور البطانيات على ليلته الأولى وأغارت على أحلامه بأنيابها البيض الباشطة مشكلة بمخالبها النافرة دوائر ودوائر أحاطت به وتكالبت عليه، لاهثة، باطشة، دامية، فرفرف بأجنحته البنفسج وتهادى عائدا من حيث اتى باتجاه الجنوب.. الجنوب دائما يوقظ جيم – هكذا في (CHANGER)- فيتمطى ضاربا على صدره وينهض واطئا بصمات بسطاله/ أكياس الرمل المرصوفة كسلم/ أنفاسه الخادرة الرخية/ فجر الصحراء البارد/ أصوات النار في صباحه الأول..
وطأها جميعا ومزجها مع صباحات موضع البطرية حيث ساحت عيناه النرجيسيتان ومسح ماؤها الأرجاء المحيطة، غاسلا بالنرجس قوس النار ودكات المدافع الستة وسبطاناتها، وغمر حدب الملاجئ ومخابئ العتاد، وتماوج النرجس إلى أحزمة الأثل الخضراء والى مرمى البصر وتطوفن صاعدا مباني المطار القريب وبرج الاتصالات ومدرجات ملعب الفروسية، فامتطى جيم الموجة حاملا إبريقه ليبحث عن مكان مستور لقضاء حاجته، وعندما اكتشفه سماه مملكة، وهناك بين صفين من الأثل انسحب الخاكي إلى الإسفل فاضحا مؤخرته وأقعى متغوطا، شعر براحة وهو يفرغ أمعاءه بعيدا عن الأنظار، وبلذةٍ نغصتها عليه طائرات (JOINT FORCES) وهي تلقي بهداياها جحيما راعدا أو منشورات علق بعضها بالأغصان الأثلية.
* البقاء هنا يعني الموت / صورة تابوت وعلم.
* هذا هو الإنذار الأول والأخير – اهرب حالا / صورة B52 وحاوياتها.
* أطباق طعام دسم وفاكهة طازجة تحيط بها عيون شائهة لأسرى شرهين.
شدته المنشورات الورقية، تشاذى بخار الطعام الحار من بين حروفها شاحذا خياشيمه فتمطق بالعا لعابه وهو ينظر إلى حرارة ما طرح على الأرض.

  

أعدتُ المنشورات إلى طيات الدفتر، أغلقته حين أناخت سيارات النيسان باترول، قريبا من موضع البطرية على مبعدة من موقع (مملكة الغائط) كما حددهُ جيم في خرائطه فلم نجد أثراً لمهبط جيم ومعراجه إلى الجنوب، اختفت مملكته، واختفت ألغام الغائط وأشجار الأثل، سوتها البلدوزرات، فتمشينا – بعد احتساء الشاي – أنا والدليل إلى موضع البطرية الذي ترك كما هو وتمشى (CHANGER) في يدي، لأقرأ، أن طيارا أسيرا فعلها في ملابسه الأنيقة، ولنتابع في أوراقه مشاهد تتويج جيم ملكا بعد فشلنا في مشاهدتها على الطبيعة، حيث أقعى على العرش مفتتحا الحفلة – والخوذة تاجا – بإراقة ماء اليوريا على الأعشاب وقطر دم البواسير على ميدان الاحتفال السابح في اخضرار لامع بهي، والغارات قيامة تطحن الروح وتعصرها، فيطحر جيم ويعصر أمعاءه ليطرح لغما حارا وروائح كبريتية حادة جيّفت المملكة وأذابت الموجودات أمامه، أشجار الأثل والبطرية، لتذوب حدود الحرب برؤيا خضراء (يتراءى الأهل أقمارا ويحتشد البر نخيلا وسواقي، وترنُ الصفقة البصراوية يا ألطاف الله، والخشابة كفا واحدة، تشتد الصفقة ويموع صبي الشدة، أمرد كالزئبق يسيح ويلتم، يتلألأ وجهه، يتلون، أحمر، فضيا، رجراج، والمراوس يدن.. يدن.. يدن، تشيع مقامات الرست، أغاني الصبا تسيل البستات والكاسور يدوخ يريد (سويكا) يدوُّخ جيم فيختض اللنج – لا صيد الآن – تلاعبه الأمواج، الإعصار يهب وتكتظ غلاصيم البحر وترتج، فيحط اله الخوف بأجنحة سود، تسيح الأرواح حتى هدأ البحر، البحارة هدءوا – الصيد وفير- عادوا للتجديف والأشرعة البيض، تذوب ضبابا، تتخافق بيضاء، رداء صبي ابيض، تتلاشى بقصف ساخن).
ليعود البر/ البطرية/ مملكة الغائط/ كوليرا الحرب، وتعود أصوات جهنم، فيعاود جيم النظر إلى أسفله، يتطهر وينهض عجلا ليلبي نداء النار.
مانشيتات النار
المانشيت الأول (لن تبقى العنقاء حية إلا إذا احترقت بالنار / ما يكل انجلوا).
المانشيت الثاني (كما البشر الأوائل كنا نرعى النار في الغابة / الحرب، كنا نلقمها وقودا كي لا تنطفئ، كنا وقودها، ومثلهم لم نكن نحن الذين نشعلها/ جيم).
المانشيت الثالث (- مدفع 5 حاضر
– ارمِ / من لغة المدفعية)
– تلتهب البطرية وقصور الساحل والآبار، ويختبئ الكمأ، عظايا البر، ويترعبل أهل الديرة والعربان، ويكتوي البرد القارس بألوان النار، والدخان المتصاعد يتصلد جبالاً سوداء، تسد الأفق، وترش الليل على الأشياء (ويلتهب القلب إلى أقصاه فأغلق (CHANGER)، أغلقه وأفتحه عدة مرات ثم أغوص كصائد لؤلؤ في أوراقه) أملأ سلالا من ليل دائم ولآليء سود، نهارات حداد ومانشيتات نار، وارى شمسا تتخامد عبر سحب دخان حتى تغدو كرة حمراء، قمرا كئيبا كابيا يخمش لب الأرواح ويخنقها، وأقرأ عن ذيول من قرمز لنفاثات تتثعبن في سماء الحرب كدروب جهنم، وأرى جوعا وجنودا ودقائق كاربون تتهاطل كالوفر، تسخم وجه الأرض/ المدافع / وتكسو سطوح براميل الماء، وخضار البر يرسمه جيم سوادا ويرسم شياطين، سودا متصالبة تتبارق في أكباد الجو وعلى الرمل رسم لطخات مخاط أسود ودماً.
خيم الليل بعد قراءة مانشيتات (CHANGER) وأوراقه السود، فقضيت الظلام ضجرا بانتظار الفجر الذي عقبناه بنهارين قائضين لنعاين ما خلفه جيم والآخرون من شواهد وآثار، لم نجد سوى خنادق دارسة وأسلاباً (خوذ / بساطيل/ خرق عسكرية / أعتدة فاسدة / زمزميات) ووجدنا مقابر، نعم، مقابر في كل مكان. قررنا بعدها العودة الى الجنوب متتبعين خرائط النجوم وبصمات البساطيل الناكصة وكنا نتساءَل فيما بينا بمرارة..
لماذا … ؟
لماذا ؟
وكذا تساءل جيم في (CHANGER) وكان الجنود يسألونه بعد احتساء الشاي بلا سكر..
لماذا … ؟
لماذا أتيت ؟
ثم يسألون أنفسهم ويستغربون حتى اهتدى أحدهم إلى الجواب، وجده في كيمياء الروح او في جغرافية الجسد، منضدة رمل تؤشر المسالك الى بساتين النخيل، وجدها ومشى، سبر غور الصحراء والطرق الدائرية، تتبعه جندي آخر، ثم آخرون، ارتدوا الليل معاطف وتسللوا، ببساطيلهم وزمزمياتهم، إبتلعتهم شعاب البر وخيوط النجاة، محت الكثبان الناعمة المتموجة آلافا منهم وشطبت مفارز الإعدام المتحركة حياة آخرين فهاجوا جنوبا وماجوا عجاجا أحمر لتدفنهم الرمال إلا بقية مضت بمناضدها، بقوة الآلام والآمال مشوا وخلفوا ورائهم آثارا سيتذكرها الساحل طويلا وتتذكرها الصحراء.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *