د. هناء خليف غني: على خطى السيدة زينب: المذهب الشيعي الأثنا عشري في سوريا المعاصرة*

د. هناء خليف غني

تشهدُ الكثير من مدن العراقِ في شهر محرم ولاسيما الأيام العشرة الأولى منه عدة تغيرات ملحوظة تستقطب الكثير من الاهتمام الشعبي والإعلامي، فيتعطل الدوام في المدارس والدوائر الحكومية، وتنشغل الأسواق في عرض مختلف أنواع السلع الخاصة بهذا الحدث من رايات مختلفة الألوان، ولافتات تظهر رسوماً محددةً مثل صور الحسين وآل البيت عليهم السلام، وسيوفاً تقطر دماً وخيولاً ومشاهد من واقعة الطف، وعبارات مثل ’هيهات منا الذلة‘ ’وشهيد كربلاء‘ و’ياحسين يامظلوم، ياحسين ياشهيد،‘ وملابس سوداء، وزناجيل، وسيوف وأقراص مضغوطة؛ ويبدو الناس منهمكين في إحياء طقوس هذا الشهر من إقامة مجالس العزاء الخاصة والعامة، وتنظيم مواكب التطبير والضرب بالزناجيل، والإستماع إلى ما يُعرف بـ ’المقتل‘- [أي قصة مقتل سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، حفيد النبي محمد وأبن أبنته فاطمة الزهراء، سيدة نساء العالمين]، ونصب خيام الضيافة التي تقدم شتى أنواع الأطعمة والمأكولات إلى الزوار والمعزين بمصاب آل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام. ويتسابق شيعة آل البيت في هذا الشهر تحديداً في إظهار كرمهم وولائهم وحبهم، فيجددون البيعة لهم ويعاهدونهم على نصرتهم والسير على خطاهم في نصرة الحق ومساعدة المحتاجين وتحقيق العدل، وينذر بعضهم نفسه لخدمة ’زوار الحسين‘، فيفتحون منازلهم لاستقبالهم، ويعملون في توفير ما يلزم لـ ’المشاية‘[أي الذين يمشون على أقدامهم من أماكن سكناهم حتى ضريح الإمام الحسين] من مأكلٍ، وملبسٍ، وفرشٍ، وأغطية، وأدوية، ويحرصون على راحتهم وحتى تدليك أقدامهم، مرددين في أثناء ذلك: ’مأجورين‘، أي أنَ الله سيجزيهم خير الجزاء على تعبهم في سبيل إحياء ذكرى الحسين، و’يعينك الحسين‘، أي أنَ الحسين سيساعدهم ويقف إلى جانبهم ويحقق أملهم بمشيئة الله، و’تفضل زاير‘ أي أنعم علينا بالدخول إلى بيتنا أيها الزائر، ويصل الأمر ببعضهم حد الشعور بالانزعاج، والغضب في بعض من الأحيان، إذ رفض أحد الزوار أخذ ما يقدمه ’خادم الحسين‘ من مأكلٍ أو مشربٍ‘. إنه مشهد قل نظيره يشترك فيه الناس جميعاً، رجالاً ونساءً واطفالاً، بصرف النظر عن فئاتهم العمرية، وجنسهم، ومكانتهم الاجتماعية، ومواقعهم الاقتصادية، وتنقلب فيه بعض من الممارسات رأساً على عقب، إذ يُقبل بعض من الرجال الذين لم يعتادوا حتى على إعداد الشاي أو المأكولات، مثلاً، ناهيك عن دخول المطبخ، يقبلون على المشاركة في إعدادها وتوزيعها على الزوار، ويُسمح للنساء في الظهور بنحوٍ أكثر علانية وهن يفترشنَ الأرصفة أو يقعدنَ على الكراسي قرب الخيام أو في الشوارع العامة ابتغاء الراحة بعد طول مسير أو شرب الماء أو تناول بعض من الأطعمة.
وليست غريبة عليَ هذه المشاهد المؤثرة نفسياً والمشحونة عاطفياً كوني من سكنة العاصمة بغداد، فقد حضرت الكثير من مجالس العزاء الخاصة والعامة ولحظت جملة من الأمور تتكرر كثيراً في المجالس النسائية خاصة. يبدأ المجلس بدعوة صاحبة البيت بعض من قريباتها وجاراتها وصديقاتها اللائي يمتلكن خيار اصطحاب نساء أخريات لم توجه الدعوة إليهن مباشرةً، فتأتي العمة وكنتها وأطفالها، أو الأم وبناتها، أو الجدة وبعض من أحفادها. وتنهمك النسوة، في أثناء انتظارهن وصول الملاية- الشخصية الأهم في هذا الحدث- في الحديث والسؤال عن أحوال بعضهنَ بعضا، والتطرق إلى مجالس العزاء الأخرى التي عقدتها معارفهن وقريباتهن في المنطقة. وقد تختار بعض من النساء تأجيل عقد المجلس إلى ما بعد اليوم العاشر-يوم مقتل الحسين- بسبب شدة الطلب على الملايات الذي يصل ذروته في هذا الشهر ويؤدي إلى مواصلتهن العمل حتى ساعات متاخرة من الليل! يجري الحديث كذلك عن الملايات وأساليبهن ومهاراتهن، ويلحظ، عموماً، المفاضلة بينهنَ، فـ (أم فلان الملاية)، تتمتع بصوت قوي وشجي يؤثر في القلوب، ولها القدرة على الارتجال والاستجابة لاحتياجات جمهورها من الحاضرات، وتحفظ الكثير من القصائد الحسينية التي تدور جميعها حول مصائب آل البيت والظلم الذي قاسوه على يد بني أمية، مع التركيز، تقليدياً، على مصائب النساء من آل البيت وما تعرضنَ له من سبيَ، وتنكيل وسوء معاملة. ثم تصل الملاية مع أثنتين أو ربما ثلاثة من المتدربات الطموحات اللائي يساعدنَها في العمل من خلال ترديد بعض من الأبيات التي تقولها، وضربهنَ بالأيدي على الكتب، وإعدادهن ما يلزم لضمان نجاح المجلس. تبدأ الملاية المجلس بالصلاة على النبي وآله والدعوة إلى التزام الهدوء وعدم التحدث احتراماً لقدسية المجلس وذكرى من أُقيم لأجله، ثم تنتقل إلى إنشاد قصيدة حسينية بطيئة الإيقاع عادةً، تكون مصحوبة بضرب النساء على أفخاذهن أو صدورهن، مع ترديد اللازمة التي تتألف من مقطع أو مقطعين أو مفردة (أحا، أحا) دلالةً على الحزن والاستياء. تختار الملاية بعد ذلك أما أداء ’لطمية‘ تشترك فيها الحاضرات وقوفاً في شكل دائرة أو ’النعي‘ وفيه تغطي النساء وجوههنَ بجزء من العباءات السوداء التي يرتدينها أو بأغطية الرأس، واللطمية والنعي هما إحدى أهم وسائل التعبير عن شدة الحسرة والتألم على مصائب الأئمة المعصومين، وتُنهي الملاية المجلس بخطبة يتباين طولها بحسب الظروف تحث فيه الحاضرات على الاقتداء بآل البيت والتحلي بأخلاقهم والتذكير بضرورة ترك الدنيا الفانية ومباهجها والعمل للفوز بالحياة الآخرة بشفاعة محمد وآل محمد، ثم تختتم الملاية خطبتها هذه بمقولة (كل البچي لزينب وأهلها) استصغاراً منها لما تعانيه الحاضرات مقارنةً لما خبرته ’زينب‘ من ظلمٍ وترويعٍ وفقدٍ للأهل والأحبة، وتذكيراً أنَ البكاء لا يصح إلاَ على زينب وأهلها. يجري بعد ذلك تقديم الشاي والبسكويت للحاضرات، وتزويد كل واحدةً منهن بكيسٍ يحوي على بعض أنواع المعجنات أو الفواكه أو العصائر، وغيرها، وقد تروي بعضٌ من النسوة قصصاً عن الكرامات والأعاجيب التي تحدث في هذا الشهر، فكم من مريضٍ برأ من مرضه بفضل توجهه سيراً إلى ضريح الإمام، وكم من امرأة تحقق لها حلمها بالزواج أو الحمل بعد طول انتظارٍ بعد زيارتها المرقد. كما يتحدثنَ عن الرحلات السياحية المنتظمة التي يقوم بها العراقيون إلى السيدة زينب على الرغم من الاضطرابات الشديدة التي تعصف بسوريا وحالة الاقتتال الداخلي التي ما برحت تعيث دماراً في هذا البلد!. كل هذا يجري وسط حالة من التوتر الداخلي الذي يعيشه العراق بسبب الحرب على الإرهاب، وسوء الخدمات، والضغوط النفسية والحياتية التي يرزح العراقيون جميعاً تحت وطأتها.
ولكن، من هي السيدة زينب التي تُعقد المجالس باسمها ويُطلب من الموالين الشبان الشيعة في العراق وغيرهِ من البلدان الي تقيم فيها أقلية أو أغلبية شيعية التطوع للدفاع عنها وحمايتها من الأعداء الذين يحاولون النيل منها ومحو ذكرها؟ وماذا تعني للشيعة على وجه العموم؟ وما موقعها في عملية إحياء ذكرى آل البيت والحفاظ على موروثهم وتقاليدهم؟ في واقع الأمر، تُنظم هذه المجالس في وقتٍ يشهد فيه العراق والمنطقة برمتها صراعاً دموياً وحروباً طائفيةً سقط على أثره الآلاف بين قتيل وجريح، وفقد الكثير مساكنهم ومصادر رزقهم، وهُجِر الآلاف غيرهم. وللإجابة عن السؤال، نقول إنها زينب بنت علي بن أبي طالب، رابع الخلفاء الراشدين، وزوج فاطمة الزهراء بنت النبي محمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين. ولِدت في الخامس من جمادى الأول في السنة الخامسة هجرية وتوفيت في الخامس عشر من رجب سنة 63. ولزينب مكانة وقدسية خاصتان عند الشيعة بسب دورها في معركة كربلاء التي قٌتِل فيها أخوها الحسين بن علي وعددٌ من أهل بيته، ويعتقد الشيعة بعصمتها العصمة الصغرى. وثمة قولان في معنى كلمة ’زينب‘، الأول أنها مركبة من ’زين‘ و’أب‘ والثاني أنها كلمة بسيطة غير مركبة، وهي أسم لشجرة أو وردة. وهذا ما صرح به مجد الدين الفيروزآبادي في القاموس المحيط، بقوله: (الزﱠيْنِبُ نبات عشبيَ بصلي معمر من فصيلة النرجسيات، أزهاره جميلة بيضاء اللون فواحة العرف، وبه سُمِيت المرأة). ولزينب عدة ألقاب تُعرف بها منها ’عقيلة الطالبيين‘، و’زينب الكبرى‘ لتمييزها عن من سُميت باسمها من أخواتها وكُنيت بكُنيتها، و’الحوراء‘، و’أم المصائب‘ لكثرة المصائب التي ألمت بها، و’الغريبة‘، و’العالمة غير المُعلمة‘، و’الطاهرة‘، و’السيدة‘.
تربت السيدة زينب في مدرسة جدها رسول الله، ونهلت فيها قيم الصبر والمصابرة والمكابرة، وتعلمت الجرأة والإقدام من أبيها، فكان لها ما كان يوم وقفت في الكوفة أمام زياد بن أبيه صامدةً شامخةً مرفوعة الرأس، رغم أسْرِها، ومحاولة إركاعها وإذلالها قائلةً:(يأهل الختر والغدر، أتبكون فلا رقأت الدمعة ولا هدات الرنة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثاً تتخذون إيمانكم دخلاً بينكم…)، ولم يكن موقفها أمام يزيد بن معاوية بأقل جرأة من موقفها أمام زياد، فكان فيه من الكبرياء والشموخ ما يثبت أنها ربيبة أسرة عريقة، ومن سلالة الطهر والعفة.‏ توجهت السيدة زينب مع أخيها الحسين وبعض من أهله واصحابه في رحلةٍ طويلةٍ قاسيةٍ من المدينة المنورة إلى مكة ثم إلى كربلاء ثم الكوفة ثم الشام؛ رحلةُ تمخضت عن حدثٍ مزلزلٍ وانعطافة تاريخية ما زالت أبعادها، ومضامينها، وتداعياتها في العالم الإسلامي حاضرةً بقوةٍ إلى يومنا هذا!. وزيادة على أدوار المرأة التقليدية التي أدتها السيدة زينب بكل تفانٍ واندفاعٍ، فقد نهضت بأدوارٍ مهمة أخرى منها مقاومة الطغاة والمتجبرين من حكام عصرها، واستنهاض همم الناس وتذكيرهم بواجبهم تجاه آل البيت، والاستمرار في حمل لواء الثورة الحسينية ومواجهة حملات بني أمية لتشويه مسارها وتزييف حقائقها. إنها امرأة فاعلة لا منفعلة، مقاومة لا مهادنة، إنها أنموذج دور تُشجع النساء المسلمات على تقليده واتخاذه مثلاً أعلى. وتأسيساً على ذلك، فقد أسهمت السيدة زينب، بأفعالها ومواقفها هذه، في تغيير الصورة النمطية عن المرأة المسلمة التي تقترن عادةً بالضعف، والاستسلام، والخنوع، والافتقار إلى المبادرة.
والسيدة زينب-أو بالأحرى- ما يجري في المنطقة التي سُميت باسمها هو محور الأطروحة/الكتاب المعنون (على خطى السيدة زينب) التي أخترت ترجمتها بعد بحثٍ مكثفٍ خرجت منه بحصيلة قوامها مئات العنوانات التي تدور جميعها حول المذهب الشيعي، ورجالاته، وتاريخه وممارساته ومواقفه مكتوبة باللغات الالمانية والفرنسية والايطالية مع استئثار اللغة الإنكليزية بحصة الأسد.
وأدث اندريا الك زانتو علي-ديب، كاتبة هذه الأطروحة، هي من الباحثين المختصين في الشأن الديني-الشيعي، ولها باعٌ طويلٌ في الكتابة عن موضوعات تخص هذا الشأن، كما تشهد على ذلك سيرتها الذاتية الواردة في الترجمة الحالية. استعانت الباحثة بعددٍ كبيرٍ من المصادر التي أسهمت في إثراء نقاشاتها وتعزيز تحليلاتها، واعتمدت على جملة من المفهومات والفِكر، مثل التقليد، والخطاب، ونموذج كربلاء، والمشهد، والتبادل، والهترتوبيا (الانتباذ الفضائي)، والغروتسك (الغريب وغير المألوف)، والوقوف بعتبة الشعور، والكرنفال، والممارسة المخالفة، والابتداع، والتقوى طرحها كوكبة من المفكرين والباحثين المعروفين في حقول الدين، والفلسفة، والأنثروبولوجيا، والأدب أمثال ميخائيل باختين، وميشيل فوكو، ووالتر بنيامين، واميل دوركهايم، وطلال أسد، وصبا محمود، وخوان كول، وفردريك م. دني، ومايكل غلزنان، وجيَ ديبورد، ومارسيل موس، واسحاق نقاش، والأخوة الشيرازيين، وآيات الله الخميني، والصدر، والخامنئي؛ ووظفت جملة من الأدوات البحثية منها الدراسة الحقلية، والملحوظ بالمشاركة، والمقابلة، والبيانات الاثنوغرافية، وعززت دراستها بملاحق أوردت فيها أسماء الملايات، والمؤسسات الدينية من حوزات، وحسينيات، ومنظمات، ومستشفيات، تعكس جميعها مدى الجهد المبذول وحرص الباحثة على تقديم عمل أكاديمي دقيقٍ ومتقنٍ.
إنَ الحديث عن السيدة زينب والمدينة التي تضم مرقدها هو، بالضرورة، حديثٌ عن الدين، والاقتصاد، والسياسة، والبناء الاجتماعي؛ وهو حديثٌ عن رجال الدين وآرائهم واختلافاتهم الفقهية، وعن الحوزات والحسينيات والمجالس الحسينية والمعتقدات والممارسات الطقوسية المتعارف عليها تارةً والمثيرة للجدل تارةً أخرى مثل التطبير، واللطم، والطب الروحاني وغيرها. إنه حديث عن مفهومات الخلاص والمعاناة، والحيز الطقوسي، والجندر ودوره، والمؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، والعواطف وردود الأفعال الاحشائية، والتقوى وخيام الضيافة والأحلام والمعجزات والكرامات و’عرس القاسم‘ و’عبد الله الرضيع‘، ومجتمعات الشتات التي اقتُلِعت من جذورها وتعيش لاجئة أو منفية من اوطانها. وإضافة إلى ذلك، يتعذر الحديث عن بنية ديمغرافية موحدة ومتجانسة في السيدة زينب التي يتحدر المقيمون فيها من أصول عراقية، وإيرانية، وأفغانية، ولبنانية، وفلسطينية، إضافة إلى السورية. وبداهةً، تتأثر ممارسات هؤلاء ومعتقداتهم بجملة من العوامل والموروثات الثقافية، والاجتماعية، والتاريخية، والاقتصادية، والسياسية، والمذهبية، والمناطقية مما يؤدي إلى اصطفافات، وتباينات في وجهات النظر وحتى صراعات!.
وتؤلف هذه الموضوعات وغيرها المحاور الرئيسة في (على خطى السيدة زينب) الذي يُشكل بحسب رأيي المتواضع إضافةً مهمةً إلى الدراسات الأنثروبولوجية المعنية بالدين في وقتٍ تشهد فيه المكتبة العربية حاجةً ماسةً إلى هذه النوعية من المؤلفات العلمية في ظل ندرة الأعمال المنجزة في علم الاجتماع الديني ناهيك عن حقول معرفية قريبة مثل أنثروبولوجيا الدين، ويأتي استكمالاً لجهود الباحثين الذين سبقوا أدث في الكتابة في هذا المجال، ولكنها تختلف عنهم لجهة محاولتها الجادة في ردم بعض من الفجوات التي عانتها الدراسات السابقة. إذ تتحدث أدث عن إمكان توظيف مفهوميَ المشهد الديبوردي والكرنفال الباختيني، مثلاً، في تحليل طقوس العزاء التي تتباين المواقف حيالها بين عدَها ممارسة توفيقية تخدم أغراضاً اقتصادية في ترينداد، مثلاً، وتحولها إلى منطقة نزاعٍ وخلافٍ بين رجال الدين الشيعة، والسياسيين، والمقلدين، والمتفرجين.
بدأت الباحثة دراستها واختتمتها بالإشارة إلى ’الربيع العربي‘، وهذا أمرٌ متوقعُ كونها باشرت الكتابة بعد انتهائها من عملية جمع البيانات الحقلية قبل مدة قصيرة من أحداث هذا ’الربيع‘ (أمتد عملها الحقلي من عام 2007 إلى 2010).
تقول أدث إنها كانت ترى في نفسها، حينما بدأت عملها الحقلي ’باحثة أنثروبولوجية جادة‘. إلاَ أنَ رؤيتها هذه لم تدم طويلاً، إذ تغير كل شيء بعد انطلاق شرارة ’الربيع العربي‘ الذي حولها إلى ’مؤرخة‘ وشاهدة على التغيرات التي عصفت بسوريا من عام 2011 إلى حين انتهائها من الكتابة. وابتغاء الحفاظ على ’النكهة الأنثروبولوجية لما أصبح عملاً تاريخياً‘، ارتأت الباحثة مقاربة عملها كما لو كان في طور التبلور، ثم عملت، في المبحث الأول من الفصل السادس الذي يؤلف الخاتمة والمعنون (خارج الحقل: المذهب الشيعي والربيع العربي)، في ربط الشيعة وممارساتهم وطقوسهم بما يجري في المنطقة. تحدثت أدث في هذا المبحث عن التغيرات التي عصفت بالمنطقة بعامة، وبالعراق وسوريا بخاصة، بعد أحداث عام 2003 بعدما اكتسب مفهوما الخلاص والمعاناة أهميةً متزايدة يمكن تلمسها في الملحوظة التي أدلت بها أحدى المسنات العراقيات في أحد مجالس العزاء النسائية، إذ قالت: (لو لم يكن الأمر متعلقاً بمصائبنا ومآسينا، لم تكن مأساة الإمام الحسين وزينب لتؤثر فينا). ويستعين المبحث كذلك بتحليل الكاتب الأمريكي من أصل إيراني، ولي نصر، لأوضاع الشيعة في المنطقة في كتابه (الصحوة الشيعية: دور الصراع في داخل الإسلام في صوغ المستقبل)، حيث أسهمت الأحداث المدوية في جعلهم أقوى سياسياً خصوصاً في العراق، مما شجع إيران وعزز من موقعها وشكل دعماً للشيعة في لبنان. وفي ضوء هذه التطورات المتسارعة تحديداً تتأكد أهمية دراسة الممارسات والخطابات الدينية في سياقاتها العامة والخاصة. وقد تحدثت مع الباحثة وتراسلنا عبر البريد الالكتروني وأخبرتني عن نيتها تحديث مادة الأطروحة العلمية في ضوء المستجدات التي شهدتها وما زالت تشهدها سوريا لا سيما بعد ظهور داعش [دولة الخلافة الإسلامية] واستيلائها على مساحات واسعة من الأراضي، ثم نشرها في أحد دور النشر الرصينة. ومثلما يعرف المعنيون بشؤون النشر، قد يستغرق صدور الكتاب المُحدث وترجمته بضع سنوات أخرى، ولهذا ارتأيت ترجمة الأطروحة الآن، ثم التفكير في ترجمة الطبعة الثانية المنقحة والمحدثة بعد صدورها.
وهذا الكتاب، بعد ذلك، ليس انتصاراً أو دحضاً للآراء والمواقف والإشكاليات المطروحة فيه عن ممارسات التقليد، والعلاقة بالأولياء، والممارسات المخالفة، والاختلافات الفقهية، والعقلانية مقابل اللاعقلانية، والبيداغوجيا الدينية، والفضيلة والانضباط، بل إنه كتاب يتوخى الموضوعية والدقة في العرض والنقاش ويرمي إلى أن يأخذ بيد الباحثين والمعنيين بهذا الشأن ليدلهم على مسالك الإحاطة بهذه الموضوعات والمسائل عبر تقديم الأدلة التجريبية العملية من دون الإفراط في النقاشات النظرية والمنهجية.
وبداهةً، لا بد- في كل عمل يُعنى بالترجمة- من وجود إشكالات محددةٍ تنجم بعضها من نوعية المفردات المُستخدمة وجدة المفهومات والمصطلحات والاستعانة بمصادر كُتبت بلغات أخرى غير اللغة التي كُتب بها العمل- مثل الألمانية في العمل الحالي. وابتغاء تذليل هذه الصعوبات، فضلت تقديم بعض من الشروحات والتعليقات الإضافية الضرورية لتقديم نص موازٍ ومفهومٍ للقارئ العربي، ولهذا، إنَ لحظ القارئ كلمة المترجمة بين قوسين () في بعض من الهوامش، فهذا يعني أنَ النص الأصلي لم يكن يتضمنها.
وختاماً، آمل أنَ تُشكل ترجمة (على خطى السيدة زينب) إضافة نوعية لا غنى عنها للمعنين بموضوعات الدين، والأنثروبولوجيا، والاجتماع والممارسات الطقوسية من الأساتذة والطلاب وغيرهم من المختصين، ومن الله التوفيق.

* من مقدمتي للكتاب الذي صدرعن المركز الأكاديمي للأبحاث، 2018.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| إشهار كتاب: “أحلام فوق الغيم” آخر مؤلفات الكاتب زياد جيوسي .

بحمد الله سبحانه وتعالى صدر كتابي الجديد “أحلام فوق الغيم” وهو مجموعة من القراءات النقدية …

| مفرح الشمري :هل سيتم الاستغناء عن الكتاب البشر مستقبلا ؟!.

من الاصدارات المميزة في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي بدورته الـ29 ترجمة اول مسرحية كتبها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *