بدايةً هناك طبقتان من الكوميديا تكمنان في المسلسلات الكوميدية . تُظهر الطبقةُ الأولى السياق العام الذي تقوم كل الشخصيات بصورة جزئية في تكوينه وتجسيد الانطباع الفكاهي عنه بغض النظر عن الثيمة الرئيسية ، والطبقة الثانية تتألف من فرعين ، الأول يتولد عبر عدة شخصيات محورية مثل أغلب المسلسلات الكوميدية الشهيرة مثل فريندز وساينفيلد ونظرية الانفجار العظيم والثاني عبر شخصية واحدة محورية يتم التركيز عليها ، وتكون هي مركز الطاقة التي تتوزع منها بقية الأدوار إلى الشخصيات المجاورة ، ولدينا هنا نموذج يعزز هذه الطبقية ، وسنتحدث عنه قليلا على اعتبار أنه لم يتعرض إلى الضوء كما يستحق . وهو مسلسل the marvelous mrs maisel_ السيدة مايسل الرائعة ، يتحدث هذا المسلسل عن شخصية محورية هي ميريام ” ميدج ” ، قامت بدورها (راشيل بروسنان ) وهي تحاول احتراف الكوميديا ، بعد أن باء زواجها بالفشل ، وذلك ما سيشكل لها صدمة ، تدعوها إلى تأدية ستاند اب كوميدي بشكل عفوي يخلو من التصنّع كما أُريد له ، تتحدث فيه بغضب وسخرية عن حياتها الزوجية وتتخذها مادة للارتجال أول الأمر ثم تتوسع الى موضوعات أخرى لأضحاك الجماهير . والظريف في هذا كله ، أنها كانت تدعم زوجها الذي كان يحلم أن يصبح كوميديًا مشهورا ، ولم يُكتب له ذلك ، وحققت هي ذلك الحلم دون أن ترى في نفسها من قبل ، أنها مضحكة وقادرة على تقديم أداء مرتجل ٍ أمام الجمهور ومن نفس المكان الذي فشل فيه زوجها ” جويل مايسل ” الذى أدى دوره الممثل ( مايكل زيجين ) يكون انطلاقها نحو النجاح . وفي ذلك إشارة الى المرأة المظلومة التي تنذر نفسها من أجل زوجها وعائلتها ولكنها مع ذلك تتعرض للانتهاك بطرق مختلفة كما حصل مع السيدة مايسل ، فتكون رحلتها عبر الكوميديا تحقيقا لذاتها وانتفاضًا على واقع المرأة آنذاك في حقبة الخمسينيات حيث تدور قصة هذا المسلسل الأمريكي في العام 1958 في مدينة نيويورك ، وهي من انتاج سنة 2017 ، وقد عُرض منها إلى الآن موسمين وبلغ عدد الحلقات 18 حلقة ، ومن المُتوقع وجود تتمة .
كانت الطبقة الأولى للمسلسل بأكملها مطبوعةً بالكوميديا في أصغر حواراتها ، حيث تبدو كنكتةٍ طويلةٍ مجزأةٍ الى مئاتٍ من النكت الصغيرة ، و قالب الكتابة الأدبية طاغٍ على الحوار بشكل جليّ ، ومع ذلك تبدو مناخاتُ المسلسل كلها ، مناخاتٌ لا تسير على قدمين ، إنما على لوح تزلج وبسرعة ثابتة ، وايقاع محسوب غير حاد ، تتحرك فيه الشخصيات والكاميرا احيانا بشكل مسرحي ، تتحول فيه المواقف الجادة والحزينة الى شيء ، يختلط بالمرارة والضحك معا ، فلا يخلو مشهد حزين أو مفجع من روح الدعابة المنثورة على كل حركة وكلمة داخل المشهد ، لدرجة أن المشاهِد يتمنى لو أنه يعيش الحياة بهذه الطريقة ، التي تصبح فيها المآسي سخريةً بيضاء لو صح التعبير ، بدل الكوميديا السوداء المبكية المضحكة ، لكنّه ضحكٌ مؤلم ، ضحكٌ يدركه المتلقي جيدا ، ويعرف الإنسان أنه ضحك مُبتلى ، وغير أصيل ، ولا يترك نشوةً حلوة ً أو راحة .
أما الطبقة الثانية هنا فهي الأعمق ، لأنها كما ذكرنا تدور حول شخصية تؤدي الكوميديا ، وتبرع بكتابة وارتجال النكات من الحياة اليومية ، عبر مواقف شخصية ممثلةً بحياتها الزوجية وحياة عائلتها ، وأخرى تمر عليها كشاهدة ، فتأخذ روحُ الدعابة واقعًا أعمق ، وأذكى يعتمد على قوة الكلمة لا على الحركات الجسدية ، فقد غادرت الكوميديا العالمية ، الاعتماد على لغة الجسد وامكاناته الى قوة النص وذكاء العبارة وسرعة البديهة ، على الرغم من أن دور ميريام لا يخلو من عينة من الأداء الجسدي ، الا أنها لغةٌ جادة ممزوجة بكلمات طريفة مضحكة ، وليست لغة بهلوانية متكلفة . هذا النوع من المسلسلات هو وجهة نظر مختلفة تجاه الحياة بكل جديتها وصرامتها وخيباتها المتراكمة . كما أنها تضم مشاهدا في معظمها متداخلة في الحوارات ، تعكس طبيعة الحياة الضاجة بالحراك والنشاط والعلاقات الاجتماعية الحميمة الى حد ما وهو ما يعكس الزمن الذي تنقلنا اليه هذه المسلسل ، ولعل تحريك الكاميرا بشكل شبه دائري جعل المَشاهِد أكثر قربا ووضوحا وصدقا ، ذلك أنها لم تعتمد كثيرا على تجميع اللقطات المنفردة وتركيبها كما يتفق مع السياق ، بل على حركة كل الممثلين الحاضرين في المشهد بشكل متسق جدا ومحترف حد أنه يبدو مقتطعًا من واقع حياة تلك السنوات ، تشاهده بعينيك لا عبر عدسة الكاميرا.
في هذا النوع من المسلسلات المعتمدة على شخصية محورية تكون محط الاهتمام ، تشبه كثيرا الأفلام الكوميدية الشهيرة ، تلك التي تستدعي بطلا معروفا في الكوميديا فيما يكون حضور بقية الشخصيات في السيناريو جزءًا من حياة الشخصية البطلة لا أكثر وأحيانا تشاركه ، مثل أغلب أفلام الممثل جيم كيري ، وآدم ساندلر ، و ويل فيريل ، وليسلي نيلسن الكوميدي الساخر ، وإيدي مورفي وغيرهم الكثير . كما ولا يمكننا اهمال التوجهات الواضحة نحو روح الدعابة التي تخللت الكثير من الأفلام والمسلسلات بكل انواعها ، كما وأصبحت الطرفة واضحاك الجماهير متنًا هامًا يشمل المختصين وغير المختصين في الكوميديا ويظهر ذلك أثناء الحوارات في البرامج النهارية والأسبوعية والسنوية مثل البرنامج الامريكي الذي يقدمه جيمي فالون ، the tonight show starring jimmy fallon، وبرنامج ellen degeneres show ، الذي تقدمه ألين دي جينيريس . والبرنامج البريطاني الشهير the graham norton show،الذي يقدمه جراهام نورتون ، وقد وجدت هذه البرامج لها نسخًا مماثلة في التلفزيون العربي . كذلك تظهر الدعابة والنكتة في حفل توزيع الأوسكار والجولدن جلوب الشهيرين ، حيث انحسر الى حد ما اقتصار الكوميديا على ممثلين مختصين ومقدمي برامج من هذا النوع ، بل شملتْ كل الممثلين حتى أولئك الذين لم يمثلوا في حياتهم مشهدا كوميديا ، وقد نشأ ذلك كله اعتمادا على قوة النص وذكاء العبارات والسياقات الحياتية التي تُصنع فيها الكوميديا بعفوية مطلقة والتي تم تحويلها إلى صنعة يحترفها الكتّاب ويؤديها أي ممثل . وكان (هيو جاكمان ) مثالا على ذلك يوم افتتح حفل الأوسكار سنة 2009 وشاركته الممثلة آن هاثاوي في إحدى الفقرات الغنائية ، في الوقت الذي كان يفتتح مثل هكذا مناسبات ، ممثلون ومقدمو برامج يختصون بالكوميديا .
تلمّسنا أولى ملامح هذه التحولات في الكوميديا من التصنّع والاعتماد على مواهب الجسد الحركية والصوتية الى الاعتماد على ذكاء الكتابة وذكاء المتلقي ، من أيام مسلسل ساينفيلد عام 1989 _ 1998 ، ثم مسلسل فريندز من 1994 _ 2004 ، ومسلسل two and a half men ، وصولا إلى المسلسل الذي تركّز فيه معظم ما ذكرناه عن ذكاء الكتابة والاعتماد على الثقافة العلمية والمعرفية في سياقات كوميدية ، هو مسلسل نظرية الانفجار العظيم ، the bing bang theory وهذه النماذج الكوميدية لا تعتمد على شخصية محورية كما في السيدة مايسل ، بل تميل إلى جعل كل الشخصيات الكوميدية شخصيات بطلة ، وبشكل يغلب عليه التساوي نوعا ما في الأداء وقوة الحضور ورصانة الدور المسند للممثل . وبذلك تغادر الكوميديا باتجاهٍ يتطلب من المشاهد / المتلقي ، أن يكون فطنًا وسريع البديهة ولا ينشغل عن المشاهدة لحظةً واحدة كي لا تفسَد الدعابةُ الذكية التي يتم تمريرها أثناء حوارٍ يومي روتيني مرّ علينا كثيرًا في حياتنا
مهند الخيكَاني: تحولات الكوميديا من التعبير الجسدي الى ذكاء العبارة
تعليقات الفيسبوك