سامية البحري: عالم من ورق

يحدث أن ….
وأنت في دهليزك ..بين الأوراق تحبو. .تتسلق رفا ..وتنزل آخر
تبحث عنك فيك ..
تقضم الأوراق كفأر ..تحاول “عبثا” تجميع ذاتك ….
تكتشف أنك لست “ذاتا” واحدة
بل أنت مجموعة من “الذوات”
يجثم الوقت على صدرك ..
لست تدري ..؟؟
أو أنت الجاثم على صدر الوقت! !

تتوووه في عالم الورق ..
ما أشد أن تضيع في أزقة الورق ..
شوارع ..منعطفات. .مطبات. .أنهج
كلها سجلتها باسمك وقد دفعت كل الضرائب. .
هل حان الوقت لتخرج إلى ذاك العالم الممتد الشاسع “الغبي”
ذاك العالم الذي لا يقدر هذه الأوراق
ذاك العالم الذي يضع الأحذية في رفوف بلورية راقية ..وبأثمان باهظة ..وفي غلاف من أعلى الماركات العالمية
الغلاف فقط يمكن أن يمول أكثر من ألف نسخة لكتاب واحد..
ومقابل ذلك يضع تلك الكتب التي قدت من وريد الروح على الأرصفة
وعلى قارعة الطريق وبين الأتربة والفضلات..

وقد لا تستغرب إن عثرت على صفحة من صفحات كتاب أنفقت فيه العمر وقد استعان بها بائع البقول الجافة ليلف بعض البذور أو البقول أو غيرها ..
هل يحدث يوما أن تجدي صفحة من عمرك على قارعة الطريق أو على رصيف ما من تلك الأرصفة العربية الحزينة ..؟؟
ولم لا ..؟؟
ولم الاستغراب _أيتها السامية _
ألم يحدث أن وجدت المتنبي والمعري وابن رشد والتوحيدي والجاحظ ..ومن سار على نهجهم على قارعة الطريق ..على رصيف مجهول من أرصفة العاصمة ؟

هل تذكرين كيف كانت دهشتك وأنت تسألين البائع _الذي يجهل من أولائك _ عن ثمن الكتاب
فيرد عليك في ثقة وترغيب
هذا بدينار..وهذا بدينارين..أما هذا المزوق فهو بدينارين ونصف ؟
تجحظ عيناك ..وتتقدمين نحو الكتب ..وقد نزعت حذاءك كأنما تلجين محرابك المقدس ..
_نعم ..أذكر ..أذكر ..وكيف أنسى مشهدا ظل يردده العامة والخاصة ممن يعرفني “فلانة، بنت فلان طالبة المرحلة الثالثة نزعت حذاءها عند الرصيف وهي تشتري الكتب القديمة من بائع متجول ”
وانتشر الخبر كالنار في الهشيم في رحاب الجامعة ..
وأصبحت يشار إلي بالسبابة كلما مررت في أروقة الجامعة ..وكنت أسمع الهمسات وأرى “الغمزات “في لامبالاة. .واحمد الله كثيرا أن لم يقع التصرف في الخبر ولم يقل أني نزعت ثيابي …..!!

وقديما قال الجاحظ العامة أكثر ميلا إلى تصديق الاخبار من الخاصة لغياب التأمل والعقل ..والميل إلى خلق الإشاعات. .
ولم يكن يدري أنه سيأتي عصر بعده ويقلب المعادلة تلك ..
ولم أركن إلى الخبر ولا إلى أصحاب الخبر..

لكن لم أنس ذلك المشهد عندما احتاج أحدهم كتابا في بحثه ولم يعثر عليه في مدارج المكتبة الأنيقة فجاءني وهو يمتطي الأدب والأخلاق. .
طالبا ود الكتاب …
عندها قفزت إلى ذهني حكاية النملة والصرار في يوم ممطر
وفكرت أن أستعير من النملة خطابها وأنفثه في وجهه
لكن تذكرت أن العلم لا يحجب على طالب معرفة كما الرغيف وقد طرق بابك الجائع …..

أحيانا تقودنا تلك القيم التي تربينا عليها أكثر من العقل والقلب وغيرها من الأدوات المتحكمة في سلوكاتنا..
وأعلم جيدا أن ذلك لن يثمر في الدنيا لكن سيثمر حتما في مكان آخر …

وأثناء مناقشة البحث في الحصة التطبيقية سأله الاستاذ المشرف من أين لك بهذا المصدر
فرد في زهو وتفاخر
_هذا استعرته من” فأرة المكتبة” الجميلة ….. تلك الأيقونة العجيبة التي تنتمي إلى عالم الورق ….!!
ووجدت كل العيون ترتحل نحوي فجأة. .وشعرت كأني الأعجوبة الثامنة التي تضاف إلى العجائب السبع ..
وعقب الأستاذ الدكتور
وهو يتقدم نحوي
_يا ليتني كنت فأرا…..!!
وضجت القاعة كما لم تضج ابدا كأن تحتها بركانا ..
فالتف الاستاذ هنا وهناك كمن يلملم نفسه ..وعيناه تقفزان في محجريهما كثعلب ..
وهو يقول في صوت يتصنع الجدية
_أقصد فأر مكتبة …!!
فالبحث لا يستقيم دون الإدمان على القراءة ..والقراءة تكتسب لذة ومتعة في رحاب المكتبة ..التي لها طقوسها… وأيقونتنا الجميلة تتقن طقوس القراءة وتتربع على عرشها كآلهة معبد قديم ..!!
ثم فتح النقاش حول العمل ..
تسمر الدكتور في مكانه عندما وجهت له بعض الأسئلة حول الكتاب وحول البحث
وتملكته غصة ..لم تفارقه كلما دخلنا إلى حصته ..
وظل يترصد الفرصة حتى يقبض على أنفاسي في امتحان من امتحانات اللجان الشفوية ..لكن لم تحقق له الأقدار تلك الأمنية….!!

أذكر عندما جثوت على ركبتي لأتلمس الكتب كان قلبي يرعوي كجناح السمانى
وكان الألم يعصر ما بين جوانحي ..
فأخذت طرف ثوبي وبدأت أمسح وجه الكتب الواحد تلوى الآخر فيتراءى لي رقراقا عذبا زلالا
وأضع كل كتاب فوق الآخر
وكان البائع يتمتم بكلمات لم أفهمها. .
وكشف عن ابتسامة عريضة وهللت أساريره فقلت له
_سآخذ كل هذا الوجع الملقى على قارعة الطريق….!!
تغيرت ملامحه فجأة. .وكأن الغيوم تلبدت في وجهه
وظننت أن الرجل لا يحب أن يفرط في هذه الثروة التي لا يعرف عنها شيئا..
لكن استدركت حيرتي بسرعة وعلمت أنه لم يستوعب “هرائي”
فأعدت عليه السؤال
_بكم تبيع كل هذا المعروض ..؟؟
_هل ستأخذينها جميعاً؟ ؟
_نعم ..وسأعود…!!
وحدد السعر دون تردد. .
وذهلت مرات ومرات ..
وسمعت نفسي _تلك الأمارة بالحب _أتدفعين هذا الثمن الزهيد في أرواح تعشقينها؟؟
وأردفت في صمت :
_وهل عشق الأرواح يقدر بثمن …………؟؟

وأدخلت يدي في حافظة النقود ومددت له كل ما أخرجته في قبضة واحدة ..ودون أن أعده ..
وذهل الرجل وهو يمد يديه لأخذ المبلغ ..
وسعدت وأنا أقبل على الكتب أجمعها في كيس واحد …كمريد تناثر عليه الكلم في لحظة كشف مباغتة فكان التجلي …

وانطلقنا كل في اتجاه ..
كان البائع يهمس بينه وبين نفسه
غبية..أو “مهبولة” مجنونة..
وهو يدفع عربته الفارغة ويتلمس جيبه المملوء..

وكنت أنا أشدو بصوت عال وأنا أتأبط كيسي المملوء ولا أبالي لحقيبتي الفارغة ..
“غبي..أو معتوه..أو ..”
وأدركت أننا نشترك في نقطة هامة هي الغباء ..
الغباء مقولة نسبية..
كلنا غبي بطريقته …
وأشهد أني أجمل غبية أخرجت لهذا الورى ….
سامية البحري

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| كريم عبدالله : كلّما ناديتكِ تجرّحتْ حنجرتي.

مُذ أول هجرة إليكِ وأنا أفقدُ دموعي زخّةً إثرَ زخّة أيتُها القصيدة الخديجة الباهتة المشاعر …

| آمال عوّاد رضوان : حَنَان تُلَمِّعُ الْأَحْذِيَة؟.

     مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *