ميرنا ريمون الشويري: صدى صوت امرأة في رواية “وجه في كرة”

يشرح المفكر الفرنسي جان بودريار بأنّ معظم الأعمال الفنية أصبحت نسخًا عن بعضها، ولذلك اصبحنا نادرًا ما نقرأ عملًا فنّيًا مبتكرًا، لا أعتقد أنّ بوديار كان متشائمًا في نظرته للفنّ، لأنّ معظم الأعمال الروائية أصبحت متشابهة من ناحية الموضوعات والشكل، ومن هذه الاستثناءات رواية “وجه في كرة” للروائي العراقي علي الحديثي.
فمن ناحية الشكل، الحديثي يكسر التقليد الأدبي، فيتقمّص صوتًا أنثويًا، وأصالة هذا العمل تبرز من خلال طرحه موضوعات عولجت من الكثير قبله، ولكنّ الحديثي يناقشها من وجهة نظر جديدة ومبتكرة.
بطلة الرواية اسمها “سما” اسم رمزي يدلّ على السموّ الأخلاقي، وهي امرأة عراقية، ترعرعت في أسرة تقليدية، وفي مجتمع يقيّد المرأة بالكثير من السلاسل الاجتماعية، ولكنّها رفضت العبودية فلجأت إلى ِأشعة الحرية.
أوّل شعاع تتمسّك به سما هو الخيال الذي تقضي معظم وقتها فيه حدّ الانغماس، فبالكاد نشعر بوجودها في الواقع، فأحلامها ليس لها ملامح، فتقول “عدت إلى البيت، لم يتغيّر شيء سوى أن أحلامي الباهتة صار لها ملامح.. جنين يتململ سنواتٍ حتى ولد اليوم، نظراته الشاردة كفّان تحتضان الجنين.. عدت إلى البيت وأنا أحمل الجنين بقلق، أنكرني أثاث غرفتي، تتهامس قِطَعُه فيما بينها” (الحديثي،9)، كلماتها تبوح بتعلقها بالحرية المطلقة، فحتّى في أحلامها لا تقبل بأيّ قيد، حتى إنّها تتحرّر من الوجود بتحويله إلى وهم “أنكرني أثاث غرفتي ، وتصرّح بأنّها “لا تستطيع “أن تنسلخ عن أحلامها” (الحديثي،27) و بأن لأحلامها رحم يحبل “بأحزان متجدّدة”.
ولعلّ ربط الحرية بالخصوبة يشير إلى أن الأمومة لا تقيّد المرأة كما يدّعي بعضهم، بل بالعكس، تفتح لها آفاقًا جديدة. ولأنّ جسدها ليس لها، بل، كما تقول، ملك أسرتها وعشيرتها، تحلم بأنّ لديها جسدًا وهميًا تقدّمه لحبيبها، ” وضممته إلى صدري، ليرضع من نهد أحلامي، ويغفو بعيداً عن صخب الأيام” (الحديثي70)، حتى الزمن في عالم سما وهمي، تتنقل من عالم خيالي إلى آخر فتقول: “الروايات أحلام متسلسلة أتنقّل بينها، كلما انطوى حلم تشبثت أناملي بحلم آخر.. ألجأ إلى القلم الذي لولاه لبقي القلب حبيسا، كثيراً ما تكون حروفنا نوافذ نطل بها على عالم ليس لنا، وربما هو لنا ولكننا سُلبناه”.(الحديث60) قلمها باب حرّيتها الذي كما تصرّح سلبها منها مجتمعها.
والشعاع الثاني الذي تتمسّك به سما هو تفكيك الفهم السائد للأنوثة والرجولة، فتكتب ” ليس للأنوثة صوت واحد، بل هي صوت الوردة حين تتفتح.. صوت البلبل حين يغرد.. صوت الجندي في الهجوم حين يغضب.. صوت الانتقام حين يغار.. وقد يكون للأنوثة صوت الدجاجة حين تنقنق.. ليس للأنوثة صوت واحد يا سما، فهل سيكون صوت القلم لأنوثتك؟!” (الحديثي50) كلمات سما تبوح بأنّ أنوثتها تتصل بأنوثة الكون، وهذا النص يذكّرنا بالنصوص التي كتبت عن عشتار آلهة الخصوبة عند السومريين، إذ كان يُعتقَد بأنّها آلهة الحب والحرب والتضحية والخصوبة والجمال، ولعلّ الحديثي يذكّرنا بقدسية الأنوثة في مجتمعاتنا القديمة، فيدعونا إلى إعادة مكانة المرأة في مجتمعاتنا المعاصرة. هذا النص يبوح لنا أيضا” بأنّ الحديثي يرفض أن تكون ملامح صوت المرأة مختلفة عن كتابات الرجل، فيسأل على لسان سما ” فهل سيكون صوت القلم لأنوثتك؟!”، وفي هذا السياق تقول سيمون دي بوفوار “إنّ المرأة عندما تكتب تعرّف نفسها بأنها امرأة، ولكنّ الرجل لا يعرّف نفسه”( Juncker435)
وهذا النص يدل على رفض الحديثي تعبير “الكتابات النسوية”، فهو يدعو إلى أن تقّيم المرأة من خلال إنسانيتها لا جنسها، وتفكّك سما الحواجز بين الرجولة والأنوثة عندما تلعب دورًا في الحب يختلف عن دور الأنثى السائد في الشرق، فهي من تختار حبيبها باسل وتلاحقه، حتى إنّها تتمنى لو أن تكون رجلًا لتبوح له بحبّها، كما أنّها ترى باسل في بغداد، بينما في الأدب العربي التقليدي تُشبَّه المرأة بالمدينة المفضّلة للكاتب.
والسؤال الذي يسأله أيّ قارئ: لماذا اختار الحديثي أن يروي الرواية بصوت امرأة؟
ربما السبب الأول هو محاولته تفكيك مقولة الحقيقة واحدة، بل هناك حقائق، فلغة الرجل مختلفة عن لغة المرأة، وهذا ما يؤكّده الكثيرون من علماء الألسنية، فالعالمة الألسنية روبين لاكوف تؤكّد بأنّ الرجل لغته حاسمة، ولكن المرأة لغتها غير حاسمة، لذلك تنصح المرأة بأن تستعمل لغة الرجل عندما تنادي بحقوقها ومساواتها للرجل، ولكن الحديثي يختار أن يكتب بصوت أنثى وهي متردّدة في لغتها، فتكرّر عبارات (ربما/ ممكن…) ليدعو الشرقيين إلى أن يشكّوا بكلّ ما يقدّمه المجتمع كحقيقة، فالحديثي، ومن خلال سما، يشكّك بحقائق دينية ” استحضرت ما قالته لي زميلتي شيماء في الكلية والتي تكبرني بست سنوات تقريباً، وهي معلمة مجازة دراسيا، لديها التزام ديني، حدثتني يوما بأن كثيرا من النصوص الدينية تمّ تفسيرها من قبل أشخاص انطلاقا من طبيعتهم الشخصية” (الحديثي،34) هذا النصّ يعكس لنا أنّ الحديثي يتهم بأنّ الذكورية لجأت إلى نصوص لبست قناع الدين لكي تسلب المرأة من حقوقها، فسما تقول ” ألم نقرأ في التاريخ أن خديجة هي من رسمت طريقها في اختيار محمد زوجاً لها، فلماذا لم نسمع أن أحداً انتقدها؟” (الحديثي،49)، إذاً المشكلة ليست في الدين، بل في استغلال الدين.
وكما أنّ الحديثي يرفض التصنيف للمرأة في مجتمعنا كزوجة أو عاهرة، وبالتالي مفهوم الشرف، فتقول سما ” حتى بنات الليل “أشرف” من المرأة التي تعلن أنها تحب هذا أو ذاك” (49).
ويظهر لنا الحديثي من خلال شخصية فهد الذي يرمز إلى الرجل الذكوري بأنه حتى المرأة المتزوجة سلعة في المجتمعات البطريركية، ولكنها سلعة تباع إلى رجل واحد، بينما العاهرة سلعة تنتقل من رجل إلى رجل آخر.
والحقيقة الأخرى التي يرفضها الحديثي هي إن الرجل أقوى من المرأة، فشخصية فهد تعكس لنا بأنّ الرجل الذكوري متسلط على المرأة، ولكنه ضعيف أمام التقاليد، وبأنّ المرأة أكثر تمرّدًا من الرجل في المجتمعات التي تقيّد المرأة، وهكذا يبوح لنا نصّ الحديثي بأنّ المجتمعات الذكورية تشوه المرأة والرجل على سواء.
– ولا يكتفي الحديثي بالتشكيك بحقائق المجتمع الشرقي، بل إنّه يرفض مقولة يسوّق لها الفكر الإمبريالي بأنّ الرجل الشرقي فقط ذكوري ومتخلّف، فيقول الحديثي على لسان أستاذ في الجامعة:
لا يوجد شيء اسمه ذكورية الشرقي، أو الرجل الشرقي، بل هي ذكورية الرجل منذ الأزل، وما رأيتموه هنا في أفكار أرسطو ما هو إلا تقنين لأفكار أفلاطون، واقرؤؤا تاريخ أوربا وكيف تعاملهم مع المرأة قبل مئتي سنة، ولكن الذي حصل أن الغرب أدرك خطأ الطغيان الذكوري، فتدارك ولكن فرّط، أما الشرق عندما أدرك خطأ الطغيان الذكوري تدارك الأمر، فأكثر القضبان حول المرأة، قبل أن تنفجر عليه، وكي يضمن بقاءها خلف القضبان ولا تكسر كلامه طلى هذه القضبان بالطلاء الديني المقدس..(الحديثي، 9)

وبعكس الكثيرين الذين ينظرون إلى الغرب بعقدة نقص، ينتقد الحرية المطلقة التي يعطيها الغرب للمرأة والتي تغربّها عن جسدها، ويساويها بالقيود المجحفة بحقّ المرأة في الشرق، وفي هذا السياق نلاحظ أنّ الكثير من الحركات النسوية في الغرب تشجع المرأة على رفض أمومتها، وعلى المثلية الجنسية، لذلك أعتقد أن الحديثي مصيب في انتقاده مسلك الحرّية المطلقة الغربية التي وضعت المرأة في عبودية من نوع آخر.
ومن خلال باسل و هو رمز الرجل الشرقي الشهم يفكّك الحديثي النظرة المشوّهة للرجل الشرقي في الإعلام والروايات الغربية.
رواية “وجه في كرة” تبعثر الكثير من المفاهيم السائدة في الشرق، وتحثّ أيّ قارئ على أن يشكّك بكلّ الموروثات الاجتماعية التي تشوّه مجتمعاتنا العربية، لأّنه فقط من خلال نقد مجتمعنا نخلق مجتمعًا بروح جديدة مع المحافظة على ملامح ثقافتنا.

References
Griffin, D. (1983). Amazons and mothers? Monique Wittig, Helène Cixous and theories of women’s writing. Crowder, 24 (2), 117-144.
Juncker, C. (1988). Writing (with) Cixous. College English 50, 424-436.
Mohanty, C.T. (1997). Women workers and capitalist scripts: Ideologies of domination, common interests and the politics of solidarity, in J. Alexander (Ed.), Feminist genealogies, colonial legacies, democratic futures. New York: Routledge.
_____ . (2003).Under Western eyes: Feminist scholarship and colonial discourses, in Mohanty, C.T., Feminism without borders: Decolonizing theory, practicing solidarity.Duke University Press.
Naous, M. (2007). Opaque words: Arabic importations at the limits of translation(Unpublished doctoral dissertation). University of Massachusetts.
Nye, A. (1987). Woman clothed with the sun: Julia Kristeva and the escape from/to language. Signs, 12 (4), 664-686.
الحديثي، علي. وجه في كرة. دمشق: دار نينوى للدراسات و التوزيع و النشر. 2019

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *