إشارة:
كنا قد نشرنا دراسة سابقة للأستاذ “حيدر علي سلامة” تخرج في مرات نادرة عن سياقات كتابات باحثينا التي تحكمها “العقلية الشعرية” كما وصفها علي الوردي منذ الستينات .. نتمنى على الباحث حيدر الإستمرار في هذا النهج من الحفر المعرفي لحاجة الثقافة العراقية إليه.
تمثل موسوعة اللغات العراقية عمل لغوي يستحق الإشادة العلمية والثقافية وذلك لأسباب عديدة ربما يعود أهمها إلى افتقار المكتبات العراقية والعربية إلى مثل هذه الأعمال الموسوعية والحضارية، إضافة إلى أن هذه الموسوعة جاءت كوثيقة تاريخية دامغة تؤكد على أصالة الهوية العراقية باختلاف ألوانها وأطيافها، علاوة على أنها شكلت ردا معرفيا وثقافيا ضد موسوعات العنف والتهجير والتخريب الذي تقوم به جماعات وقوى وسياسات متعددة المشارب سواء كانت في الداخل أو في الخارج. انه عمل يدعو جميع الكُتاب والباحثين إلى الانهماك في تفاصيله وتضاريسه وجغرافياته التاريخية، لاسيما للباحث المختص في مجال علوم اللغة وتاريخها، بل انه انجاز تاريخي موسوعي وتصنيفي يُلقي على جميع الكتاب والمثقفين مهمة ومسؤولية إعادة قراءة وتحليل ظاهرة اللسان العراقي والثقافة العراقية منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا، فما عملت عليه هذه الموسوعة، على الرغم من إمكانياتها المادية والأكاديمية البسيطة والمحدودة، ليفوق تصوراتنا وخيالنا الثقافي، إنها “خطاب ثقافي” يتطلب منا كل العناية والدراسة والتحليل وليس الإهمال والنسيان أو الصمت الثقافي لكل ما جاء به من شروح وطروحات وخرائط ذهنية وصفت حركة اللسان وفم الذاكرة العراقية.
الموروث المحكي بين النسيان الثقافي وثقافة النسيان
تعد الجوانب المنهجية الحديثة كعلوم اللغة والدراسات الثقافية والتحليل الثقافي إلى جانب العلوم الابستمولوجية والإنسانية، الثيمة التي تستند عليها قراءتنا الخاصة بموسوعة اللغات. ذلك يعني إننا سنتعامل مع موسوعة اللغات بوصفها نص معرفي يخضع إلى التحليل الابستمولوجي والتاريخي، الأمر الذي يستوجب طرح مجموعة من التساؤلات النقدية تتعلق برؤية الموسوعة اللغوية وبطبيعة المناهج المعتمدة في إعدادها، ربما أبرزها تلك المتصلة بالعلاقة البنيوية بين كل من اللغة وأبنية الثقافة والأطر الأيديولوجية والسياسية، فهل نظرت الموسوعة إلى اللغة بوصفها نص مثالي أو ميتافيزيقي، متعال أو منفصل عن الأطر والسياقات التي تشكل بنيته وتحدد وظيفته؟ وما هي طبيعة المنهجيات اللغوية التي استندت عليها عملية قراءة وتحليل اللسان العراقي ولهجاته المحلية؟ وهل يمكن حصر ظواهر اللغة واللسان الثقافي في حقول التصنيف والتوثيق فحسب؟ وهل يمكن عدّ هذه الموسوعة مجرد ظاهرة توثيقية وأرشفة للسان العراقي؟ وهل اللسان هو ظاهرة “تأريخية” أم ممارسة “تاريخية”؟ والى أي حد ساهمت موسوعة اللغات في تأسيس خطاب ثقافي نقدي يُعيد قراءة ونقد وتحليل الذاكرة العراقية؟ وهل عملت تلك الموسوعة على تأسيس ورش عمل تحليلية وثقافية تهدف إلى تشريح وتفكيك الأبعاد الأيديولوجية في مذكرات ويوميات اللسان التداولي العراقي؟ وكيف يمكننا أن نُشخِص العلاقات البنيوية المُلتبسة بين كل من اللسان والسلطة، اللسان والأيديولوجية المسيطِرة، اللسان واللهجة، اللسان وسلطة النحو والقواعد الذهنية، اللسان والفئات الاجتماعية، اللسان والرموز الأخلاقية والدينية، اللسان والطبقات الاجتماعية، اللسان والعلاقة السيكولوجية بين المتكلم وأنظمة العلاقات التواصلية والشيفرات اللغوية؟ ربما هنالك الكثير من الأسئلة التي سنعود إليها لاحقا عند مناقشة المنهجيات اللغوية والتحليلية المعتمَدة في الموسوعة اللغوية، لأنه من الصعب جدا حصر مثل هذا العمل الكبير في رؤية تراثية، ميثية وتصنيفية، خاصة عندما يتعلق الأمر بموضوع بالغ الأهمية والخطورة في تاريخ الذاكرة العراقية ألا وهو موضوع اللغة واللسان الثقافي.
موسوعة اللغات بين تقنيات السرد وغياب المناهج الابستمولوجية
إن محاولة تقديم قراءة وتحليل لموسوعة اللغات بوصفها منشور ثقافي يتعامل مع الكل الثقافي العراقي من خلال يوميات لسانه وتداوله اللغوي، استوجبت طرح مجمل تلك الأسئلة الإشكالية أعلاه، ذلك لأن الموسوعة كواقعة تاريخية وثقافية هي مجموعةَ ممارسات لغوية وليست مجرد مدونات تاريخية. ولما كانت الممارسة اللغوية من خلال اللهجات اليومية، تصنع وتشكل المعاني، فاللغة هنا هي ممارسة واستعمال رمزي وذهني قبل أن تكون مفهوما أو تصورا تأريخيا. فإلى أي حد كانت فيه هذه الموسوعة الضخمة وهي جزء من الحياة اليومية للذاكرة العراقية، قريبة -في فهرستها التاريخية “لظاهرة اللسان العراقي”- من ملامح وكينونة الوجود العراقي، ذلك الوجود الذي يتشكل دوما في فضاءات اللغة بوصفها مسكن للوجود على حد تعبير هيدغر؟
من هنا كان علينا أن نتساءل عن حضور أو غياب منهجية الموسوعة، تلك التي ربما أُشير إليها في مقدمة العمل الموسوعي وضمن فقرة بعنوان “كلمة الموسوعة أول واكبر موسوعة للغات العراقية”: ((لقد حرصنا على تقديم كل اللغات العراقية الكبيرة والصغيرة، القديمة والحالية، وكذلك التعريف الممكن بكل لغة ومكوناتها وميراثها الكتابي. وهذه اللغات هي : السومرية والاكدية، الآراميةـالسريانية، العربية، الكردية( السورانية والبهدنانية)، التركمانية، الفيلية، المندائية. أما بالنسبة لليهودية، فأننا سلطنا الضوء على ثقافتها المكتوبة أساساً بالآرامية العراقية، ثم العبرية. وخصصنا الملف الأخير لباقي ثقافات الوطن : العامية، اليزيدية، الشبكية، السوداء، الارمنية، الشيشانية… يتوجب التوضيح، إننا بتعريفنا لهذه اللّغات العراقية وميراثاتها، لا نبتغي أبداً التقليل من دور (اللغة العربية). بل إننا من دعاة الاعتزاز باللغة العربية، فهي اللغة الرئيسية الرسمية لشعبنا، وفيها كتب تاريخنا وميراثنا وثقافتنا وديننا الإسلامي خلال أكثر من 14 قرن، وهي القاسم المشترك بين جميع الفئات العراقية، بالإضافة إلى أنها تجمعنا مع باقي إخوتنا من الشعوب العربية، بل حتى مع الشعوب الإسلامية ونحن نفتخر أن لغتنا هي من بين اللغات العالمية الكبرى. إن اعتزازنا بالعربية هو الذي يدفعنا للاعتزاز بلغات أسلافنا القدماء وإخوتنا في الوطن. أولاً لأن هذه اللغات العراقية (وكذلك أبناء الفئات الناطقة بها) قد ساهمت بصورة فعّالة في إغناء لغتنا وثقافتنا العربية. ثم ان دراستنا وتعرفنا على لغات وميراثات أسلافنا وإخوتنا، تساعد شعبنا أكثر وأكثر على التقارب والتوحد والاعتزاز بثقافتنا الوطنية التاريخية المشتركة. إن جميع اللغات والثقافات المحلية هي أنهار تصب في وادي الثقافة العراقية)). فهل يمكننا النظر الى تلك المقدمة بمثابة منهجية للموسوعة اللغوية؟ وهل يمكننا أن نعد مثل هذا الكلام السردي – الذي يعبر عن الاعتزاز بالهوية العراقية وبتاريخها العريق وبشجرة أنسابها اللغوية إلى جانب التأكيد على دراسة العلاقات البنيوية بين تأريخ اللغات وتفرعاتها واشتقاقاتها – بمثابة خطاب ابستمولوجي، تحليلي، ثقافي أم خطاب ماضوي يمجد الذاكرة العراقية؟
أما الجزء الأخر من المنهجية التي تقترحها علينا الموسوعة فهو البحث في إشكاليات تدريس اللغات والثقافات المحلية في الجامعات والمدارس، تلك اللغات التي تعرضت حسب رأي معد الموسوعة سليم مطر إلى تاريخ طويل من التهميش الأيديولوجي في مؤسساتنا التعليمية والأكاديمية، فيقول أن : ((من أكثر الأمور التي فوجئنا بها أثناء إعدادنا لهذه الموسوعة، هذا التجاهل الكبير الذي تعاني منه اللغات العراقية القديمة والحالية (عدى العربية) من قبل المؤسسات الجامعية العراقية! من المعروف انه تقريباً في جميع الجامعات الكبرى في العالم وخصوصاً في الغرب، هنالك قسم خاص لتدريس (اللغات العراقية القديمةـالسومرية والاكدية)، إلاّ في العراق، فهذا المجال للأسف محدود جداً؟! حسب علمنا إنه من بين العدد الكبير من الجامعات العراقية، هنالك فقط جامعتي بغداد والموصل اللَّتان تدَّرسان هذه المادة.أما بالنسبة للغات العراقية (غير العربية) وثقافاتها المحلية فهي شبه مغيَّبة الى حد كبير. يلاحظ إنه في جميع الجامعات العراقية هنالك أقسام لتدريس الانكليزية عادة، وأحياناً الفرنسية والالمانية والروسية، لكن ثمة غياب تام لأي قسم خاص بدراسة وتدريس اللغات العراقية وآدابها وميراثاتها: الكردية (السورانية والبهدنانية والخانقينية)، والتركمانية، والسريانية، والفيلية، والصابئية، والشبكية. ربما هناك قسم لتدريس السريانية أو العبرية، أما اللغات الكردية فهي لا تدرس الا في المناطق الكردية! بل الاكثر غرابة، انه حتى التاريخ العراقي (القديم والحديث)، شبه مغيب من التدريس في مناهج التاريخ الجامعية، ففي قسم التاريخ في جامعة الموصل مثلاً، يتم تدريس تاريخ اليمن، نعم تاريخ اليمن قبل تاريخ العراق؟؟؟!! كذلك يلاحظ ان الوسط الجامعي العراقي لا يزال بغالبيته يحمل موقفاً (عروبياً) إزاء (اللهجة العراقية والثقافة الشعبية)، وينظر اليها باحتقار ويعتبرها عدواً لدوداً للغة العربية الفصحى. علماً بأنه حتى (مجمع اللغة العربية في القاهرة)له لجنة متخصصة بدراسة اللهجات العربية. إننا أبداً لسنا مع إحلال اللهجة العراقية محل لغتنا العربية، بل ندعو فقط الى دراسة (وليس تدريس) اللهجة باعتبارها مجالاً معرفياً مهماً وحياً وموجوداً في حياتنا اليومية. بل ان اللهجة متداولة حتى في المجال الابداعي مثل الغناء والشعر الشعبي والمسرح، بل حتى الاساتذة أنفسهم يلقون محاضراتهم بهذه اللهجة، فلماذا إذن لا تستحق البحث والدراسة؟!أقل ما يقال عن هذا الوضع، إنه محزن بالنسبة لوطن يعتز بكرامته وثقافته، وبحاجة ماسة الى تعزيز هويته الوطنية ووحدة شعبه)).
لقد كان الكاتب مطر محقا في وصفه الثقافي وتشخيصه النقدي لذلك النسيان الأكاديمي في تدريس اللغات العراقية القديمة في مؤسساتنا التعليمية، لكن هل من الممكن أن تشكل تلك المقدمات صورا للمنهجيات المقترحَة والمتبعَة في تصنيف وكتابة الموسوعة؟ وهل تعاملت الموسوعة مع مصطلحي الثقافة والتوثيق باعتبارهما مفهوم واحد؟ وإذا افترضنا أن هذا العمل ثقافيا، فبأي طريقة يمكننا أن نفهم معنى “الثقافي” في الموسوعة، هل على طريقة العلوم الإنسانية الجديدة التي تعتبر “الثقافي” مجموعة من المنهجيات اللغوية والفلسفية والتحليلية التي تحلل تاريخ الأشكال الثقافية بوصفها منتجات ذهنية تخضع لشروط تاريخية وأيديولوجية، أم أن الثقافي هنا هو ما يدخل ضمن دائرة التصنيف والتبويب للذاكرة بطريقة السرد التاريخي؟ وهل يمكن لموسوعة لغوية أن تحكي عن خمسة ألاف عام من تاريخ اللسان الثقافي العراقي، عبر مقدمة اركيولوجية آثارية تفهرس تواريخ اللغات القديمة دون أن تفرد مساحة لوصف طبيعة المناهج الابستمولوجية المعتمَدة، لما لتلك المناهج من أهمية في تشريح وتفكيك “سساتيم ألحكي اليومي” بوصفها “جسدا لتواريخ اللغة”، لاسيما وان الموسوعة اللغوية جعلت من تصنيف اللغات العامية عنصرا أساسيا ومهما في تصنيفها الثقافي، وهذا يشير إلى مدى عمق الموسوعة وتجذر هويتها العراقية في انطولوجيا الوجود اليومي، وما يُفرح في ذلك أن الموسوعة آثرت على نفسها إلا أن تكون واحدا من الناس ولجميع الناس في آن واحد، لاسيما أولئك المستبعدون من دوائر البحوث الأكاديمية، وهذا خُلُق ثقافي ومعرفي قلّما وجد له نظير في كثير من الدراسات اللغوية التي أطرت أبحاثها بأغشية نخبوية ونظريات كلاسيكية مؤدلجة، لكن ما يُحزن في الوقت ذاته، ان مثل تلك الطروحات الثقافية أصبحت اليوم تدخل في صلب وعمق خطاب العلوم الإنسانية، الذي ينطلق من نقد الأنظمة الأيديولوجية المترسبة في قاع اللسان وعمق الكلام، مما يجعل من خطابها ثورة راديكالية ضد جميع أشكال الهيمنة والتسلط التي تمارَس على السِنَة العوام المراقَبة والمعاقَبة، تلك الألسنة المختونة والمبتورة نتيجة لتواريخ تكنولوجيات العنف السياسي والأيديولوجي في الثقافة العراقية.
موسوعة اللغات وغياب الفلسفة اللغوية
من هنا كانت موسوعة اللغات العراقية أشبه بعمل فني افتقر إلى عنصر جمالي رئيسي، وأثّر غياب هذا العنصر بشكل أو بأخر على تكامل جمالها ألفسيفسائي، ونعني بذلك العنصر الجمالي هو المناهج اللغوية من علوم لغة ونقد أدبي وخطاب اللسانيات ومناهج السيميائيات والسيميوتيكس(1)، التي تُعد في مجملها، الحجر الأساس لفلسفات اللغة المعاصرة، فلا يمكننا قراءة تاريخ أي لغة في العالم بطريقة مستقلة عن منهجيات تلك العلوم(2)، زد على ذلك أن أبحاث اللغة صارت تمثل المدخل الرئيسي لكافة العلوم الثقافية الأخرى المرتبطة مع اللسان والتداول اليومي للغة. فقراءة تأريخ اللغة بالاعتماد على مناهج توثيقية، تصنيفية هي قراءة غير متكاملة من الناحية المنهجية لأنها قراءة تسرد تواريخ اللغة القديمة بطريقة تجعل من تلك اللغات محددة في أشكال تصنيفية ونحوية واختلافات هنا وهناك في الممارسات المحلية بين مكان وآخر، وهذا يتضح من خلال الملف المخصص للغة “العامية العراقية وخصوصياتها وتفرعاتها”، الذي استند على مناهج تقليدية في شرح وتصنيف العلاقات البنيوية بين اللغة العامية واللغة الفصحى وأشكال الاختلافات النحوية بين مورفولوجيا الأصوات ونطقها، ففي الفقرة التي تتحدث عن البلاغة يقول الكاتب علاء اللامي: ((أما الناحية البلاغية والتعبيرية فهناك صور خاصة بالعامية العراقية، لا يمكن أن تفهم لو ترجمت إلى الفصحى مثلا :(أخليك على عيني وراسي، بمعنى الاعتزاز والتقدير))). أما من الناحية القواعدية فيشير اللامي إلى أن: ((من أمثلة بعض التمايز في قواعد العامية استخدام كلمة (اللي) وحدها بدلا من (الذي والتي واللذين).)) وفيما يتعلق بالمفردات وتلفظها فيرى اللامي أن: ((من خصوصيات اللهجة العراقية أن كلماتها تحتوي على حروف لم توجد في العربية)).
في الواقع ان القواعد وأنظمة ترتيب الكلمات في عبارات وأشكال لفظها بطريقة نحوية…الخ، لا تعبر عن علاقات لغوية تاريخية فحسب بل إنها نظام ومجموعة من القوانين والأوامر السلطوية التي تعمل جميعا على تشكيل وتأطير الذهن الإنساني بمجموعة من المقولات الذهنية والنحوية المطلقة على حد تعبير جومسكي(3)، وهذه المقولات ستشكل بالضرورة نظام التصورات للعالم وللأشياء. معنى ذلك أن اللغة ليست هنا مجرد اختلافات نحوية بين لهجة الجنوب ولهجة الشمال أو بين اللهجة الموصلية واللهجة البغدادية…الخ، بل إنها في حقيقة الأمر اختلافات سياسية وأيديولوجية قبل أن تكون اختلافات نحوية وقواعدية، إنها اختلافات فرضتها الجغرافية السياسية المتخَيلة للبلد المنشطر على نفسه تحت سلطة حاكم سياسي يتفرد بخطاب لغوي ومفردات وأشكال وتعبيرات لغوية تُصنِف وتُهيكِل المناطق تبعا للأغراض الأيديولوجية الخاصة به. فكيف يمكن إذن للذاكرة العراقية المُنبَلِجة من رَحِم الحروب أن تنسى قتل ألاف العراقيين بعد سقوط النظام الشمولي، نتيجة “لتاريخ السياسات اللغوية المؤدلَجة والتي على أساسها اشتغلت تكنولوجيات التصفية المذهبية والعزل الطائفي”، القائمة على أسس نحوية ولغوية قبل أن تُبنى على اختلافات مذهبية أو دينية. فالكثير من العراقيين تعرضوا لعمليات تصفية جسدية بسبب لهجاتهم التي تشير من بعيد أو قريب إلى انتمائهم المذهبي وإلى مسقط رأسهم، حتى وإن عمد البعض منهم إلى تغيير أسمائهم وأوراقهم الرسمية، فلسانهم سيفضحهم قبل أوراقهم، ولنا تاريخ طويل ومرير لمثل تلك الحكايات التي حصلت بعد سقوط النظام الشمولي والى يومنا هذا، فالكثير من الأبرياء كانوا كبش فداء، بسبب اختلافات في الفونيمات الصوتية أو اختلافات في طرق التعابير الكلامية. فلماذا صمتت الموسوعة عن ذكر كل تلك الإشكاليات السياسية التي قسمّت ثقافة وتاريخ العراق إلى فئات لغوية وطبقات لسانية وجغرافيات لغوية تداولية؟ لماذا لم يتطور البحث الموسوعي -وهو الذي حمل على كاهله ثقافة العامة ولغاتهم ولهجاتهم اليومية التي هي مجموعة من الادلجات الرسمية والسياسية- ليكون خير من يعمل على فضح وتعرية الممارسات السلطوية المهيمِنة على لساننا الثقافي؟ لماذا بقيت الموسوعة تدور في فضاءات الموروث الشعبي للمحكي، بدلا من تحليل الأنساق الثقافية للتداول اللغوي؟ ولماذا لا نجد فلسفة لغوية تنظر إلى مجمل تلك الممارسات من المحكي والكلام الذي عمره خمسة ألاف عام، كأشكال معرفية وفلسفية أنتجت أساطير وميثولوجيات وعقائد واديان، عملت جميعها على إعادة تأويل الوجود؟ لماذا غاب عن الموسوعة اللغوية نقد وتحليل الممارسات الآلية للغة اليومية التي أفرزت ممارسات آلية منقادة إلى السلطة ولسان السلطة؟ لماذا لم يتم تحليل الكلام بوصفه خطاب شمولي ورمزي يعيد حالة التوازن بين كل من المعرفة واللغة والوجود؟ ثم هل يمكننا دراسة تاريخ خمسة ألاف عام من اللغة والمحكي والمتداول بطريقة وثوقية مطلقة في صدق هذه اللغات وخلوها من أي سياسات لغوية خاطئة، أنتجت بالضرورة مفاهيم وتصورات خاطئة، ربما قد تخلق حالات من الإرباك الذهني والسايكولوجي عند من يتداولها؟ ولماذا خلت الموسوعة من نظريات الكلام والتواصل الاجتماعي الذي يتحرك من خلال الشيفرات الكلامية بين كل من المرسِل والمتلقي والسياق؟
من هنا يتبين أن الموسوعة اللغوية لم تُدرج تلك الممارسات اللغوية ضمن أولويات بحثها، على الرغم من ان تلك الممارسات تحولت إلى انساق ثقافية وأيديولوجية، شكلت سجونا وقضبانا حديدية “ميتافورية” في يد الأنظمة الشمولية، تتحكم في طبيعة الحراك الثقافي واللغوي كيفما تريد، لاسيما في أزمنة الحروب فهي من اكبر المختبرات لفحص جدوى الادلجة اللغوية، فبين الفينة والأخرى نجد ثقافتنا غارقة في تعابير ومصطلحات لغوية تشكلها الدوائر الرسمية المتعالية على ألسنتنا، والمتحكمة في حركتها واتجاهها، ولطالما صحونا كل يوم على كلمات غريبة ودخيلة على وجودنا وثقافتنا، لتصبح هذه الكلمات والمفردات بين ليلة وضحاها، تعبيرات يومية معتمدة في خطابنا الثقافي، ولتتحول بعد ذلك إلى تابوهات لغوية لا يمكن المساس بها، كيف لا وهي “المفهرسة” من قبل أزلام النظام الشمولي الذين يحولون الكلمات بطريقة سحرية ويُفرغوها من أطرها النحوية والعقلية لتأخذ شكل ممارسات سلطوية، تنتج صور عبودية يومية للوجود الإنساني، بدأ من تدوين اسمه وميلاده وعشيرته ومسقط رأسه، وانتهاء بدفتر الخدمة العسكرية ومعاملات التسريح وتعبيراتها اللإنسانية وكلمات الطاعة والتوسل والتذلل لأصحاب القرار، أليست هي تلك ممارساتنا اللغوية التي جعلتنا نتكلم دوما على الهامش في حضرة المتن المقدس للسلطة؟
هوامش :
*http://www.mesopot.com/default/index.php?option=com_content&view=article&id=230
**للاطلاع على منهجيتنا اللغوية ينظر للباحث “محاولة لغوية لتحليل ظاهريات الخطاب الثقافي العراقي
(1)See, Sylvia Chalker, Edmund Weiner: The Oxford Dictionary of English Grammar, BCA,London, 1998,15th edition, P.357.
(2)See, David Crystal: The Cambridge Encyclopedia of language, London, 1990, P.150.
(3)See, Noam Chomsky: On the Nature of Language, An article from the book, Stevan R. Harnad: Origins and Evolution of language and speech, The New York Academy of Sciences, 1979, P.46.