مهدي شاكر العبيدي: عبد الحميد العلوجي الكاتب الموسوعي المجبول على البساطة والتواضع

قلْ إنـَّه تراثيٌ ، لكن ليس من حقـِّك أنْ تلغي وجوده ، وتنفي كلَّ دالة له على تذكير الجيل بسوابق السلف الماضي وعوارفهم ومزاياهم ، فمن الجور والظلم الفادح أنْ يَعُقَّ الإنسان مَن درج قبله في ميدان الحياة ، مهما كانتْ فاعليَّته فيها من المحدودية والضآلة أو من السموِّ والغنى الطائل الذي لا تقوى على محوه الأيَّام ، وله رأيٌ ومنزعٌ ووجهة نظر بهذا الخصوص ، ذلك أنَّ التراث في شرعه لا يقتصر على ما أبقاه لنا الغابرونَ من موروثات لغتهم وأدبهم على ما هو شائعٌ ودائرٌ في أخلاد الباحثينَ والدارسينَ ، إنـَّما يشمل سائر ما تولى عنه أولئك من آثار دارسة مطموسة أو منتصبة شامخة بوجه الزمَن ، تغالب ما توالى عليها من محاولاتٍ للتعفية والتصويح والهدم ، فتلك البُنى والصروح من قصور ومساجد ودور علم ممَّا تزدهي به غير حاضرة عربية هي في حسبان الراحل طيِّب الذكر عبد الحميد العلوجي من التراث الباقي ، وله علينا واجب الرعاية والاحتفاء والصون ، ومثله ما زاوله السابقونَ من مراسِمَ وعاداتٍ وطقوس تتمشَّى مع المنطق أو لا يتفق لها منه غير الإنكار والاستقباح والنفور ، هي أيضا ً من مكوِّنات موروثنا ، غير أنـَّها تستدعينا أنْ نتوق لتجديدها أو استبدال بها غيرها من ألوان الممارسات والمألوفات ، وبذلك تغدو من العوامل الدافعة والمحفـِّزة على التغيير والتلاؤم مع العصر ومواءمة التطور العجول .

       ذلك هو مفاد المبحث الأدبي والعلمي الموضوعي الذي قدَّمه الكاتب العراقي المرحوم عبد الحميد العلوجي إلى مؤتمر الأدباء العرب في دورته السابعة والمنعقد ببغداد أوائل نيسان 1969م ، لكنَّ ما رافقه أو أعقبه من تفشِّي أراجيف وأقوال مدسوسة ، لا سِيَّما أنَّ الوسط الأدبي في أيِّ مكان كان مذهولا ً أو شبه مصدوم بالنتيجة المرَّة التي أجلبتها مواجهتنا وملاقاتنا للعدو الإسرائيلي في يوم حزيران ، تلقي في روعنا أنَّ السرَّ في نكوصنا وتخاذلنا هو هذا الاستمساك الذي لا داعي له بما يسمَّى تراثا ً، وبلغ بنا الغلو في تداول هذه الفرية المتغرِّضة والمزعومة في أحاديثنا ومحاوراتنا عبر ما نقيمه من ندواتٍ نطرح فيها همومنا ومشاغلنا الفكرية ، أنْ انطلقتْ دعوات تنصح لفتيتنا الشادينَ في الأدب ، أنْ يشيحوا بوجوههم عن قراءة ما يُدعى بالكتب الصفر ، فهي السبب في جمود عقليات المربِّينَ وبلادة أذهان كثير من المتبوِّئينَ صدارة التوجيه ، فلكي تثبت أهليَّتك وجدارتك وتدلل على كونك حداثويا ً ومعاصرا ً تعافُ القديم البالي من المقاييس الأدبية وتعنى بالموضوعات المستوحية متطلباتِ المرحلة التي تجوزها وتقفوها في وجهتها ومنحاها ، ما عليك إلا أنْ تشهر عداوتك لصنوكَ الأديب ، مَن تعرف ولا تعرف ، والذي لا يكترث لك ولا يعنيه أمرك ، أو تعنُّ له ببال ، وأنْ تطلِق ما شئتَ من صنوف الأكاذيب والتلفيقات عن أنَّ مطالعاته قديمة لا تسعفه بالتطور مع الزمن ، وإذا حصل أنْ التقيتَ بمعاشر من أولاء النابسينَ بالزور والبهتان في نادٍ أو محفل ، راعَك ما ينتحلونه من نفاق ويصطنعونه ويتظاهرونَ به من إعجاب بنتاجاتك ومعطياتك ، وهذا ضرب من الطبع اللئيم يحوج استعدادا ً ومؤهَّلا ً من طِراز خاص أو لا يتيسَّر ويواتي بقيَّة البشر في كلِّ آن ٍ ، ومن السهل أنْ تستشفه في ملامح الوجوه المتبدِّية وطريقة الحديث الموجَّه والمخاطبة المخصوصة التي لم ينتفِ منها الانكماش والكدر ، وإزاء هذا الهوس وهذه البلبلة التي لا ينجم عنها غير الخبط وانعدام الرؤية المتبصِّرة واختلال الموازين وتغليب المرجوح على الراجح في كلِّ ما ندع ونعمل ، انطمَسَتْ عوارف وصنائع لجمهرة لا يبلغها الحصر والتعداد من أعلام الثقافة العراقية ، أو قلْ إنَّ النقد السائد في الساحة الأدبية أمكن له أنْ ينحاز لنفر ٍ ، ويعلي شأوهم على حِساب إخمال آخرينَ ، علما ً أنـَّه ــ من ناحية المستوى ــ لا يتناسب بحال ٍ هو وما يُلِيح به أصحابه من فرط ادِّعاء ، حتى ليُريكَ أولاء بمجرَّد توهُّمهم أنَّ أحكامهم غدَتْ سارية ومعمولا ً بها ، وأنـَّهم استأثروا بسمات النقاد اللامعينَ ، فبوسعهم أنْ يُصيِّروا من ذلك المقفر الخاوي من القابليَّات والمواهب ملهما ً مـبدعا ً ومـتمكنا ً مـن ناصية البيان ، ومن مُباينه في توافر ملكاته واستجماعه للتأصيل والإبداع ، مـدخولا ً وطارئا ً على مزاولة هذه الحرفة أو الصنيعة ، كلُّ ذلك بعامل النحائز والأضغان ، ويجرُّ وراءه مثل هذا الاستهوان الفظيع من الكنود واستلاب الحقوق في أنْ يتبوَّأ مكانته ويُومَا له ويُشار بينَ الرموز الوطنية ، قلتُ : يَخَال هذا المُدِلُّ بفذلكاته النقدية وتأميله عليها كأنـَّه صاحِبُ فتح قدير وذو مأثرة على بلده في تمكينه من التسيُّد على البلدان ، وكلُّ هذه المآتي نتاجُ امتحان الأدبية العراقية بنقاد ( الوصفة الجاهزة ) ! ، ولا وصفة الطبيب ، للأعمال القصصية والروائية بكونهم يسيِّرونَ أبطالهم ويستخدمونهم أوعية للإفضاء بمنطلقاتهم الفكرية ، والحديث في هذا يطول .

       وكذا أفصح لي الراحل عبد الحميد العلوجي عن بَرَمِهِ بالشبيبة غداة العُهدة له بالإشراف على إصدار مجلة ( المورد ) التراثية والمعنيَّة بتعريف الجيل ومعهم جمهور القرَّاء الذينَ لم يُداخِل نفوسهم نفورٌ البتة من مطالعة أبحاث ودراسات في الفكر العربي وحول فتوحات أعلام الرأي والبيان والفلسفة في تاريخ الثقافة العربية في ماضيها العافي الدابر ومرحلتها الدانية القريبة ، هذا إلى إحياء الكنوز المطمورة من دواوين شعرية ورسائل فلسفية ومكاتبات متبادلة بين بعض الأساطين والجهابذة وأعلام العربية ، لا تنحصر وتدور حول شؤون وقضايا ومشكـلاتٍ تتعلق بأشخاصهم ، قدر ما تندرج في نطاق تناولهم مسألة نحوية جرى بشأنها خلافٌ بين ذوي الاختصاص ، أو مصطلح فلسفي تفاوتتْ آراء المجتلينَ بشأن إحكامه وضبطه ، ممَّا اعتاده هذا الرعيل وداوم عليه في دوريات سابقة ، قلتُ : أفضى لي العلوجي بشكاته من نفر ينفسونَ عليه موقعه الذي رقي إليه في ديوان وزارة الإعلام ، وأنْ يَكِل المسؤولونَ إلى ذمَّته مهمَّة إصدار مطبوع راق ٍ في محتواه وأهميَّته في وصل الحاضر بالماضي ، للتدليل على أنـَّنا أمة عريقة وُجدَتْ لتبقى ، وليسَتْ خلوا ً من المفاخر ، وممَّا يُشرِّف ويزين ، ويعبِّر أولاء عمَّا يكمن في نفوسهم من حَرَدٍ ، ويستعر من الغيظ ، بإشهار اعتراضهم على ما اتسمَتْ به افتتاحيَّات ( المورد ) ، والتي يدبِّجُها العلوجي نفسه كلَّ مرَّة ، من تنميق واستخدام لِما غدا دارسا ً ومهجورا ً ومصدوفا ً عنه من الألفاظ والتراكيب اللغوية ، ممَّا قد يوحِي بالاختلاق والتنطع أو يوهِم بتكلفه وحمل النفس على ما يَشُقُّ من الإجهاد لتصيُّده ومحاولة إثبات أنَّ له أصلا ً في العربية ، وفيما عداها يلفونه مرسِلا ً ذاته على سجيَّتها ، ويجري على أسلوبٍ وبيان مُيسَّر واضح القصد لا يحوج تفسيرا ً وتفكيكا ً ما ، ممَّا دخل مؤخـَّرا ً أو أقحِم على مصطلحات المعاصرينَ والحداثويينَ ، ومن هنا تلوَّنتْ فنون القدح والزراية ، وتنوَّعَتْ التقولات والتخرُّصات أنَّ للعلوجي أسلوبين ِ في الكتابة أو طريقتين ِ في التأدية والتعبير ، وما دُمْنا متداولينَ قولة الكاتب الفرنسي ( بيفون ) عن أنَّ ( الأسلوب هو الرجل ) ، أو ينطوي أو يكشف خصائصه وسماته وأطواره في حالاته كلها ، فلا محيص من أنْ ينسحب ذلك على سلائق الرجل المُستهدَف بالنقد الجارح ، وأنـَّه يُحسِن التكيُّف مع أطباع رصفائه ومداراة أمزجتهم ، ويلبس لكلِّ حالة لبوسها ، واهتزَّ الرجل لهذا التحرُّش وقالة السوء ــ على وفق ما استقراه الدكتور علي الوردي لطبيعة النفس البشرية ، إنـَّه محالٌ أنْ تجد فيما حولك إنسانا ً واحدا ً لا يكترث أو لا يهتم بما تلهج به أفواه الناس بشأن سلوكه وسجيَّته الأخلاقية ــ فإنْ كان ذا اعتدادٍ بنفسه تناهى في عناده ومكابرته ، وإنْ كان قليل الثقة بها جنح للنزول على رغبتهم وما يتمنونه له من الانحسار والتواري أو تفتير نشاطه ، وكانتْ نتيجة ذلك أنْ أفرغ مجهوده مدللا ً ــ في ساعة ضعف ــ على عصرانيَّته وحداثته وهيامه بالجديد ، للتأليف في أدب الكاتب الأميركي ( جاك لندن ) وتحليل رواياته ، مبيِّنا أنَّ العَقِب ــ بفتح العين وكسر القاف ــ في روايته المشهورة ( العَقِب الحديدية ) ، تعني : مؤخرة القدم ، لا العُقــَب ــ بضمِّ العين وفتح القاف ــ كما يقرؤها الأدباء الجُدَد المتجنونَ على أنـَّها بمعنى : العقبات أو العوارض والصعوبات ، وتنصرف إلى معان ٍ أخـَر ؛ ومقصوده من جهده وعنائه هذين ِ أنْ يفهمهم ويخرسهم ويلقي في روعهم أنَّ الرادَة الأوائل لا تنقصهم المؤهَّلات والكِفايات لو شاءوا الاهتمام أو التصدِّي لشؤون ومعالجات لم تعهد عنهم من قبل .

       واستمرَّت مجلة ( المورد ) في الصدور تباعا ً وبدون انقطاع ، وبصورةٍ مواكبةٍ للمناسبات الثقافية ، والمهرجانات الأدبية ، فتنبري لتغطيتها ونشر أبحاثها وما يؤلف الأدباء الجَديدَ من الرسائل والكتب بصدد أعلامها الأصلاء كما حصل بالنسبة للفارابي الفيلسوف ، والشعراء المجيدينَ : المتنبي ، وأبي تمَّام ، والشريف الرضي ؛ بدرجة أهون وأدنى بعد أنْ خمَدَتْ روح التحمُّس للتراث ووقوع البلاد في أزمة الحرب ، وصدر منها عددٌ خاص كذلك بأدب الجاحظ دون نزول على مقتضى عقد مهرجان أو إقامة حفل ٍ ، واستطارَتْ شهرتها في الخارج بحيث غدَتْ مألوفة ومتداولة في الأوساط والدوائر العلمية ، ومن لدن الأفراد المنقطعينَ للون معين بذاته من الفنون الأدبية ، ويضنـُّونَ بوقتهم على استنفاده في وجوه أخرى ، فقد سمعْتُ من لسان رجل سبق له أنْ امتلك مكتبة تجارية عامرة في شارع المتنبي ثمَّ أغلقها فجأة بناءً على وفادة صنو ٍ له من السعودية وإقباله على شراء نفائسها وذخائرها من الكتب والدوريات ، أنبأنا شيخنا هذا أنَّ الروائي المصري الشهير نجيب محفوظ لا يقرأ في الشهر الواحد ممَّا تقذفه المطابع سوى مجلة ( المورد ) الأدبية الفصلية ، وذلك قبل أنْ تستفيض المجالس بالحديث حوله وتستقصي أسرار حياته اليومية بمناسبة فوزه بجائزة ( نوبل ) للآداب ، وإن صحَّ هذا الأمر ، لك أنْ تعجب بالتنوع الذي غلب على محتواها من الشعر والبيان والفلسفة .

       ومن دلائل الوقوع في الشطط إبَّان تلك الحقبة البعيدة نسبيا ً ، وعلى تورُّط رهطٍ من أصفيائنا ومعاشِرنا في خطل الرؤية في النظر للقضايا الأدبية أو إنَّ العماية حالتْ دون سدادهم وموضوعيَّتهم ، أنَّ إذاعة بغداد في سبعينيات القرن الفائت تعوَّدَتْ صبيحة كلِّ يوم جمعة بثَّ برنامج ( الساعة التاسعة ) ، والذي يعدُّه ويقدِّمه الإذاعي الراحل سعاد الهرمزي ، مستنفرا ً صفوة أعيان الفكر والثقافة ليدلي كلُّ بما عنده من حصيلة ، وكان أنْ طلع نبيل ياسين في جمعة منها أو في حلقة من حلقاته ، برأي حول مؤلفات طه حسين ، وعبَّر عن فرقه من عزوف القرَّاء عن مطالعتها ، والأحجى أنْ نتفكر في سبيل آيل ٍ بنا لردِّ الاعتبار لها ( كذا ) ؛ فشكوته يومها إلى العلوجي ، فردَّ مستهجنا ً : ( أي اعتبار ! ، هل يوجد اليوم واحد يقول مثلما  قاله طه حسين ) ، ويعني سواءً في خطئه وصوابه أو سواء كان مخطئا ً أم مصيبا ً .

       وقبلها في بداية ستينيات القرن الفائت ، نشرَتْ مجلة ( المعارف ) اللبنانية مقالة ضافية ملأى بالنكاية ووصم كتابات المحامي المؤرِّخ عباس العزاوي ، كونها تزخر بالسقطات والأغاليط اللغوية ، موقعة أو ممهورة بتوقيع ( جهينة ) ، فاستغربْتُ من اجتراء كاتبها على التهوين من شأن العزاوي عضو المجمع اللغوي ، وجاءَني الجواب لتوِّه على لسان الأستاذ جليل العطية ــ الدكتور الآن ــ أنَّ كاتبه هو الأستاذ عبد الحميد العلوجي ، ومن رأيه أنـَّه على فرط تحامله على الرجل فلا يعدم واجدا ً عذرا ً له على الإيغال في الانتقاص والتجني ، مثلما كان على عين الصواب في بعض مغامزه من ناحية اللغة ، فأمَّا الإيماء للهنات المترتبة على تباين في النظر للوقائع التاريخية ففيها مجال للأخذ والردِّ والتسوية والاختلاف ، ومبعث كلِّ ذلك هو جنف عباس العزاوي وامتناعه عن الموافقة على معاونة الباحث العلوجي ــ في تاريخ بعيد قبل هذا الزمن ــ على تعضيد نشر المخطوط الذي كتبه عن المستشرقينَ والدراسات القرآنية ، والمتضمِّن تقصِّيات في مشاربهم ومناهجهم بهذا الخصوص بهرَتْ بعض أعضاء لجنة شكلها المجمع للنظر في جدِّته وإحاطته بموضوعه والقطع بكونه يستأهل التعضيد ومساندة المجمع لمؤلفه ، حيث تشدَّد العزاوي يومها وشكك بمؤلفه ، مُدَّعِيا ً أنـَّه ليس صاحبه الحقيقي ، كيف لا وهو يحتوي على معلومات لم يسمع بها ويطلع عليها هو نفسه وهو المؤرِّخ المعروف ؟ ، والعلوجي يومها كان يشتغل معلما ً في مدرسة ابتدائية ، وهنا نسأل العزاوي : مَن علمك في صباك يا رجل  ؟ .

       وقد شرح العلوجي هذه القضية وحكاها بالتفصيل في إحدى مقالاته التي احتواها كتابه ( عطر وحبر ) ، الذي انتقى فصوله وجمعها من ركام مقالاته التي خصَّ بها المجلات والصحف بعد هذه الواقعة المؤسية ، وابتغى منه أنْ يرشَّ بعض الوجوه والقلوب بالعطر ، وأنْ يلطخ بعض الآناف والنواصي ، حتى ترتاض وتعي مقدار حجمها وحيِّزها الضيق الآفاق والمحدود الأبعاد ، وأنْ تفقه أنَّ للناس حرمات لا ينبغي أنْ تنتهَك وتداس ، وحقوقٌ ليس سهلا ً استباحتها والعدوان عليها ، وكذا توزَّعَتْ مقالات هذا الكتاب الصادر عام 1967م ، عن مديرية الثقافة العامة بوزارة الثقافة والإرشاد العراقية ــ والتي كانتْ قائمة وقتَ ذاك ــ ضمن سلسلة الكتب الحديثة بالتسلسل : (19) ؛ قلتُ : توزَّعَتْ مقالاته بينَ مباحِث تنصبُّ على التعريف بمحاولات بعض المستشرقينَ الغربيينَ وشروعهم بترجمة السور القرآنية إلى اليونانية في آن ٍ دابر سحيق ، وإلى اللغات الأوربية الحديثة في ظرفٍ تال ٍ متأخِّر ، فلا غرو أنْ تزخر المقالات الثلاث الأوَل في استهلالة الكتاب بأسماء جمهرة من المشتغلينَ بالاستشراق يجتليها القارئ ولا يتبقى منها في ذاكرته غير المعروفينَ والمبثوثينَ في دراساتٍ سبق أنْ توقف عندها واطلع عليها ، ويُحمَد للمؤلف فرط استيعابه لها وإحاطته بها ، ليُطنِبَ بعدها بهذا الجهاد المأثور عن الكاتب اللامع صاحب الأسلوب الناري المتوهِّج والبيان المشحوذ الذي هو ألصق بطريقة الكاتب المطبوع والمُجهَد المكدود في تمتين عبارته وصقلها ، منه إلى مُعتاد الصحفي المطوِّع ذاته لتلبية دواعي المطبعة والمرهون بعامل الوقت ، أعني به إبراهيم صالح شكر محرِّر مجلة ( الرياحين ) عام 1913م ، لصاحبها والمنفق عليها لتسيير أعمالها وتيسيرها على ما يبدو ، الشاعر إبراهيم منيب الباجة جي ، وما صدَعَتْ به من فضح وتنديد بالسقطات الأخلاقية التي بلغتْ مداها من النفاق والغش والمداهنة والرياء والاجتراء على شتم الدين ، وشيوع التباغض والتحاسُد ، وتواري الصدق والاستقامة والأمانة في تعاملات الناس وعلائقهم ، وكلُّ يقول لا حولا ولا ……… ، ولا مَن يدري مبعث ذلك ، وكيف يندبُ امرؤ انطواء المكرمات اليومَ ، ويأسى على افتقادها في حاضرنا ؟ ، وتبيَّنَ أنـَّها أعرق في الوجود والديمومة ! .

       ويسخو علينا الكاتب العلوجي فيه بعد هذا بمبحثٍ طريفٍ حول صحفٍ صدرَتْ ببيروت والقاهرة ، اشتجر على صفحاتها من خلال أدبيَّاتهم وإبداعاتهم صحفيونَ ميسحيونَ في سنوات الربع الأوَّل من القرن العشرين ، واصطرعوا بين مستنكر ومحتج على إبعاد الكنيسة للروائي الروسي ( ليو تولستوي ) من حظيرتها ، وبين محبِّذٍ لهذا النفي والإقصاء والطرد ، وتجريده من مباركتها ورعايتها لاقتناعها الكلي بكفره وتجديفه ومروقه ، إلى أنْ استراح من لدَدِها وإرجافها وإضرارها بسمعته بعدما انطوَتْ حياته وغيَّبه الموت عام 1910م ، واستردَّ في السنين التالية صيته المحترم من جديد ، وشاطر كـُتـَّابٌ مسلمونَ نظراءهم المسيحيينَ في إشهاره وإنباهه والتعريف بمذهبه ، كما صنع العراقي محمود أحمد السيد بنشره مقالة عنه ، بخصوص فنـِّه الروائي والقصصي في مجلة ( المعرض ) البغدادية في عددها المزدوج ( 9 ــ 10 ) لشهري تموز وآب ، والصادر في 4 / آب / 1927م ، وتصدَّتْ مجلة ( العلم ) العراقية لصاحبها هبة الدين الشهرستاني ، للإنباء عن صدور رائعته المترجمة عن لغته الروسية أو ربَّما عن الإنجليزية ( آنا كارنينا )  ، وليس بالقليل أنْ نعتته بكونه حكيما ً ؛ والخلاصة أنـَّه عاود شهرته الداثرة بعامل النفاق التجهيل والبلادة وتحجُّر العقول ، وغدا موئل احترام الصحافة العربية وتقديرها ، و( ذلك تمشِّيا ً مع تطور العقل العربي الذي بلغ أشدَّه في مطلع الربع الأوَّل من القرن العشرين ) .

       وباقي محتوياته تزخر بقسطٍ وافر من المرح والفكاهة ، وتنبي عن مطاولة ومقدرة على التتبُّع والاستقصاء ، وتؤرِّخ لجمهرة غفيرة من الأعيان والرؤساء والمتصدِّرينَ ، وما أثِر عنهم من المواقف والأقوال ، ترشِّحه لعدِّه من المعنيينَ بالفولكلور والتراث الشعبي الذي يعوِّل عليه كثيرٌ من المؤرِّخينَ في دراسة تاريخ الشعوب من خلال اكتناه بعض العادات والتقاليد ، والنظر في التصرُّفات الخرقاء لصنفٍ من البشر على مرِّ التاريخ .

       إنَّ ( عطر وحبر ) كتابٌ شائق ممتع حقا ً ، وهو بتشعُّب محتوياته وتعدُّدها ينظر إلى كتاب ( الفصول ) لعباس محمود العقاد ، لولا أنَّ كتاب العقاد يفعمك بالعبوس والتجهُّم والصرامة ،  بينما يغمرك كتاب العلوجي أنسا ً وبهجة ودعابة ، ولِمَ لا نقرنه بصنوه كتاب إبراهيم عبد القادر المازني ( قبض الريح ) ، فكلاهما يفيض بالبشر والاغتباط ، ويحمل على السخرية من مفارقات الحياة والمعايير المختلة المهزوزة والمُعتمَدة في النظر للنتاج الأدبي وتقويمه .

       ولي معه حكاية طريفة ، فقد تداولته إبَّان صدوره عام 1967م ، ثمَّ سخوْتُ به لصديق ، أو أنـَّه اندرج ضمن ما كنتُ افعله وألتجئ إليه كلَّ مرَّة حِيال مذخوراتي من الكتب ، من القيام بمثل ( تصفية مخازن ) ، متشبِّها ً في ذلك بالتجار كما يتعاملونَ مع بضاعتهم عند نهاية الموسم ، والنتيجة معروفة ! ، إلى أنْ احتجْتُ له في منتصف تسعينيات القرن السالف ، فعثرْتُ في إحدى ( بسطيَّات )  بيع الكتب في شارع المتنبي على نسخة منه منزوعة الغلاف ، بقيَتْ محفوظة في خزانة كتبي ولم أخرجها إلا بعد أنْ ذكرني به وأحياه في وجداني كتاب الأستاذ طلال سالم الحديثي ( مراجع في الفولكلور )   ، المهدى لروح هذا الإنسان المتفرِّد بتواضعه وطراوة نفسه والمجبول على البساطة والمتأبِّي على كلِّ اغترار وتعالم .

       صادفتُ  العلوجي ضحى يوم قائظٍ بمسرح الرشيد في أخريات أيَّام حياته ، وفي غضون عام 1994م ، فتفرَّسْتُ في ملامحه وأمارات وجهه وتبيَّنَ لي فيها آثار الجهد والكلال ، ما ينبي عن شعوره بالضياع والمتاهة في دنيا الأحياء بعد أنْ نفر منه أكثرهم وبانوا ، وصار مجانِبا ً للضُرِّ والنفع ، لكن نائيا ً في الوقت ذاته ومستريحا ً عن سماع اللغو والثرثرة والادِّعاء ، والطريف أو المؤسي أنـَّه دأب بعد تقاعده عن مسؤوليَّاته على زيارة رفقائه وأصدقائه في دوائر وظائفهم ليُحَادثهم في شؤون الفكر والأدب والثقافة ، مختتما ً حديثه بإبلاغهم أنـَّه سيرحل قريبا ً ، بعد أنْ عاش وديعا ً مسالما ً منطويا ً على الخير والحبِّ ، مادا ً يد العون للجميع من معارفه ومعاشره ، وكأنـَّه المعنيُّ بوصية عبد الحميد الكاتب للأدباء بأنْ يتعاونوا ويتعاضدوا وينبذوا التناحُر والشِقاق ، هذا إلى جانب ما ألفته من ظرفه وميله للفكاهة التي لا يصطنعها عامدا ً ، بل هي لصيقة به وسمة من سماته ، ومزيَّة يروض بها خلقه وطبعه على الجلاد والتحمُّل ومغالبة الأوصاب والأنكاد التي تعرض له في ميدان عمله .
 1-أهدى الأستاذ طلال سالم الحديثي كتابه ( مراجع في الفلولكلور ) لروح الأستاذ عبد الحميد العلوجي ، وروح صنويه لطفي الخوري وعزيز الحجية ، ضارباً بذلك المثل الأروع في الوفاء والعرفان
*******

MahdiShakerAlobadi@Yahoo.Com

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *