سلام إبراهيم في “رؤيا اليقين”: ما أصعب الحرب والأيام والصعوبات
جنان جاسم حلاوي (ملف/79)

إشارة:
مثل قلّة لامعة من الروائيين العالميين كإرنست همنغواي وإريك ريمارك وغيرهما خطّ الروائي العراقي “سلام ابراهيم” نصوصه بدم التجربة الذاتية ولهيبها. وفي اتفاق مع إشارة خطيرة للباحث الأناسي العراقي البارع د. علاء جواد كاظم الذي اعتبر روايات وقصص سلام إبراهيم من مصادر الدراسة الأنثروبولوجية الناجعة في العراق نرى أن نصوص سلام يمكن أن تكون مفاتيح لدراسة الشخصية الوطنية مثلما استُخدمت نصوص ياسانوري كاواباتا لدراسة الشخصية اليابانية ونجيب محفوظ لدراسة الشخصية المصرية مثلا. الفن السردي لسلام ابراهيم هو من عيون السرد العربي الذي يجب الاحتفاء به من خلال الدراسة الأكاديمية والنقدية العميقة. تحية للروائي المبدع سلام ابراهيم.
أسرة موقع الناقد العراقي

بات واضحا أن الكتاب العراقيين المغتربين يغترفون من ذاكرتهم، ومن تراثهم، وتجاربهم السابقة، أكثر مما يعيشونه الآن في منافيهم، منذ تابعنا (أو تابعت والـ “أنا” للتخفيف من حدة قولي بشمولية متابعتي تلك) النتاج القصصي والروائي العراقيين في الغربة، بعدالنزوح الكثيف من العراق عام 1978، كما وأن الحرية المكتسبة خارج العراق أتاحت لكتّاب جدد بالظهور، إذ برزوا للمرة الأولى ناشطين، كل حسب قدرته، يطل من بينهم القاص سلام إبراهيم في مجموعته “رؤيا اليقين”* ظلاً جديداً يضاف إلى ظلال القصة العراقية، وسلام يقص تجربته في شمال العراق مقاتلا مع الثوار أبان الصراع الدامي بينهم، وبين الجيش حتى الحملة الأخيرة الواسعة عام 1989 والتي كان فيها الأسلحة الكيميائية مسببة هجرة مدنيين عامة صوب الحدود التركية ـ الإيرانية وحتى داخل العمق العراقي.
من هذا العالم المخيف الموشوم بالموت والمقاومة يستمد سلام مواضيعه سارداً قصة حياته ثائراً في رحاب الجبل، وعلى حواف الجحيم، أن قراءة واحدة لسطوره لتعطي انطباعاً بدموية التجربة وعنف زخمها، نحن إذن مع قاص يقص حتى المباشرة والنبرة العالية، حتى الصراخ الذي أفسد سياق القص فجعله نافراً وبألوان وتعابير عاطفية فاقعة وجمل زائدة، لو تخلص منها لوفّر لنا قصصا متقنة، والقاص يعتمد تجارب شخصية واقعية مع حسن إمساكه للجملة القصصية الوصفية والسردية في آن، ولولا مطبات المونولوج الضاج، الملتاع الذي خرّب على القارئ سلاسة السرد وتماسكه في آن، ذلك ما نقرأه مباشرة وأولا في قصة “المتاهة” حكاية ثائر يتخاذل، يخوض حواراً داخلياً بين الاستسلام ومواصلة القتال، فتنصر الهزيمة، أو يقتل على يد رفاقه لا فرق فالنهاية ملتبسة وتلك نقطة لصالح القاص.

الروائيان المبدعان سلام إبراهيم وجنان جاسم حلاوي
سلام إبراهيم والروائي والقاص جنان جاسم حلاوي كوبنهاكن 2016

ومن مسالك الجبل الوعرة، لياليه، وثلجه، وأسراره، يعود الكاتب/ الراوي عابراً الأرض الحرام وخطوط التماس صوب بيته وأمه وأهله من انكفاء الثورة إثر هجوم كيميائي مباغت شنه الجيش، يرجع القاص حاملاً جراحه بعد أن رمته عاصفة ثلجية بالغنغرينا فأفقدته إصبعاً من أصابع قدميه، يؤوب فيجد نفسه في متاهة قبور، في ظلمة حوش بين أهله القديم،يبصر أمه دفنت أباه وأخوته في البيت، جالسة تردد التعازيم والأدعية على ضوء الشموع وفي جو كابوسي يذهل القارئ، بينما تتكرر أمه فيها عشرات الأمهات المتشابهات خلل نوافذ تطل بعضها على بعضٍ:يعود ليرى خراباً جاثماً يضاهي في رعبه هزيمته وهزيمة رفاق دربه: هذه القصة المسماة “رؤيا اليقين” أجمل قصص المجموعة بوصفها المتأني ومخيالها الفنطازي وطقوسها المرسومة إلى حد الهلوسة على إيقاع سوداوية قاتمة ودمار روحي لا يطاق، ومعالم مخربة، كأننا ندخل نفقاً للموت عاشه الملايين وقت الحروب وكل الحروب.
“رؤيا اليقين” القصة الأوفر حظاً في التعبير الشامل والطاغي لمصائر الحيوات المرمية إلى المجهول، وقاصنا لا يعود كي يبقى بل يغادر مخلفا وراءه نشيجاً طويلاً. لكن ماذا أمامه غير فخاخ تلو فخاخ تعده بموت أكيد في كل خطوة وعند منحنى كل شارع، وليس غريبا اعتماد عنوان قصته هذه للمجموعة لإدراكه العميق وبحدسه القصصي، أهمية ما تعنيه الحرب كانعكاس مدمر على الإنسان، وعلى أمهات الجنود.
وقاصنا مصور ينمنم تصاويره بوصف وئيد متمهل، ولا أدري ما الذي يدعوه لتخريب ما يبني فارضاً رأيه متدخلاً بعقل عاطفي حاد وضمير مهتاج ملتاع، كاسراً السياق، وقاطعاً السرد بحوارات مع النفس بكائية، كانت كما قلت زائدة لأنها أتت تعبيرا هشا لما توحي به حبكة القصة فأثرت على تلك الحبكة وأربكتها لفضحها الساذج لمستوى الحبكة ذاته، لو ترك الكاتب وحيه السردي يمضي بلا تأوهات وتعليقات لكسبنا قصصاً متفردة حقاً، ذاك ما أفترض (أو يتمنى القارئ “لو يوافقني” لتحاشي المونولوج الذي لايحسنه سلام).
أما قصة “وداع” فتخبرنا حادثة إعدام الثوار لثلاثة من الخونة (على ذمة آمر مجموعة فصيا الإعلام) والقصة أيضا ملتبسة في ضبابية غير واضحة، إذ كما اهجس أو يومئ القاضي إلى أحد الثلاثة المعدومين فلم يكن خائناً فعلا، فيما تكتظ قصة “أنها الحرب”بواقعة قتل أثنين من جنود الجيش على يد الثوار، أو على يد الراوي ذاته وما يصيبه من إحباط وتأنيب ضمير بعد الحادث، لأن هذين الجنديين أو كل جنود الجيش من أبناء الشعب في النهاية وهم أبرياء، إنما مسوقون قصراً بآلية الدولة وقوانينها. وهكذا بقية القصص لا تخرج من إطار الموت والتمزق والقتل الحافلة بها، وصوت القاص الإنسانوي العالي يرتفع طاغياً دائماً: أخطاء الثورة، القوة المقابلة، مقتل المدنيين الأبرياء، القمع، الرعب، النار، الدمار… الخ وكل ما ينطوي عليه زمن الحرب من آلام وتمزقات ومستقبل مجهول، مستحيل.
سلام إبراهيم العراقي الكاتب، والثائر يكتب وأمامه هدف محدد إبرازاً وتصويراً وتجسيداً لبشاعة الحرب، قسوتها ودمارها، وضميره يصرخ، وتجاربه تلح بواقعيتها الرافضة لكل عالمه الذي عاشه.
لكن: أيكفي للكاتب أن يكون صاحب ضمير، أو بلا ضمير كي يكتب قصة جيدة؟.
أيمكن أن يكون الوعي الأخلاقي ضرورياً لتحديد موضوع قصص الحرب؟.
لا هذا ولا ذاك، إنما لندع المخيلة تتحدث عن تجربة واقعية فنرى عالم القصة يغوص عميقاً في دروب الروح مشتعلاً بالحلم، سيد الكلمات والمواضيع والتجارب.
ــــــــــــ
*أسوج 1994، جنوب القطب الشمالي
*”رؤيا اليقين/سلام إبراهيم/قصص/1994/دار الكنوز الأدبية/بيروت/الطبعة الأولى/ لوحة الغلاف لوليد الأغا/ والأهداء إلى (ناهدة).
جريدة النهار البيروتية/ الخميس 14ـ4ـ1994

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *