
عوامل الثورة:
(2) العوامل الاقتصادية
لم تكن العوامل السياسية سوى الوجه الثاني للعملة. أما وجهها الأول، فتمثَّل بالعوامل الاقتصادية، التي كانت تقف وراء تطور النشاط السياسي، والعمليات المسلحة المناهضة لقوات الاحتلال البريطاني، التي بادرت إلى استخدام السلاح، لإخماد المقاومة. بدأ التحرك السياسي والعسكري ضد الإنگليز في النجف في عام 1918 وتجلى في ثورة السليمانية عام 1919 ثم في ثورة العشرين، التي اتسع نطاقها ليشمل مناطق واسعة من العراق، ولاسيما وسط وجنوب العراق. كما سيتسع في كل المدن التي كانت المؤسسة الدينية فيها ذات تأثير كبير على السكان مثل: بغداد، الكاظمية، كربلاء، النجف. مما يمكِّننا من تلمس العلاقة الجدلية بين المصالح الاقتصادية للمؤسسة الدينية وشيوخ الدين من جهة، ومصالح الفئات الاجتماعية التي قادت العمليات العسكرية من شيوخ العشائر والفلاحين، الذين انغمسوا في الثورة فكانوا وقودها المحرك من جهة أخرى.
جلبت سنوات الحرب العالمية الأولى معها مشكلات اقتصادية جمة لسكان العراق. فإلى جانب المعارك الحربية، التي كانت تجري على الأرض العراقية، ومحاولات الدولة العثمانية تجنيد العراقيين للقتال إلى جانبها في معاركها ضد الإنكليز، واستخدام الانكليز لأعداد غفيرة من المواطنين في أعمال السخرة في معسكراتهم، وفي شق الطرق ونقل السلاح، استخداماً سيلعب دوراً بارزاً في تقليص الإنتاج الزراعي؛ فإن سلطات الاحتلال البريطانية، وقوات الجيش العثماني ستمارسان في آن معاً، سياسة الاستيلاء على المحاصيل الزراعية – كشكل من أشكال استيفاء الضرائب لتغطية نفقات الحرب – من دون أن تتكفلا بدفع تعويض مالي لأصحاب المحاصيل، أو قد تدفعا تعويضاً مالياً لكنْ محدوداً قليلاً، لا يفي بحاجات أصحابها. والمعلومات المتوفرة تشير إلى واقع مرير تمرغ فيه سكان العراق. كتب الدكتور عبد الله النفيسي في هذا الصدد يقول: “كان إصرار الإدارة البريطانية على تحصيل الضرائب المفروضة على كل محصول زراعي، وعلى كل محصول بستان تحصيلاً كاملاً أمراً مكروهاً لدى الفقير والغني على السواء حتى أن القبائل، كقبيلة بني حچيم من لواء المنتق مثلاً، وجدت نفسها سنة 1919 مرغمة على دفع ضرائب فادحة وذلك لأول مرة في تاريخها. وكان تحصيل الواردات، في تلك السنة نفسها، في لواء المنتفق، أعلى تحصيل في الفترة الواقعة بين 1916 – 1928. وإليك ثبتاً بواردات المنتفق من سنة 1916 – 1918:
“واردات المنتفق من سنة 1916 – 1918”
السنة القيمة بالجنيه
1916 52,464
1919 1,661,823
1922
1926 1,002,659
1928 1,277,233
ففي لواء المنتفق مثلاً، ارتفعت ضريبة الدخل على كل فرد من أقل من خمسة روبيات في سنة 1916 إلى خمس شلنات في سنة 1919، وبعد اضطرابات سنة 1920 عادت وانخفضت ثانية سنة 1922 إلى شلن. … وكانت المبالغ المحصلة من لواء المنتفق والديوانية والشامية، وهي ثلاثة ألوية شيعية، في سنة 1920 تقدر بـ 5533100 شلن أو قرابة ربع مجموع الدخل من الألوية العراقية وعددها أربعة عشر لواءً. وكانت المبالغ المخصصة في الألوية الثلاثة 1929440 شلناً.
كما أدّتِ العمليات العسكرية في مناطق مختلفة من العراق؛ إلى تدمير المزيد من قنوات الري والبزل، وإلى تخريب المزارع، وتلف المحاصيل الزراعية، وإلى إرغام أعداد كبيرة من الفلاحين على ترك الريف والهجرة إلى المدن. إذ أن أغلب العمليات العسكرية، تركزت في المناطق الزراعية من الفرات الأوسط وجنوب العراق. وقد لعب التجار الكبار، والوسطاء دورهم الطفيلي المعروف، في اغتنام فرصة الحرب؛ فاغتنوا اغتناء سريعاً على حساب الكادحين. واستفادت من هذه الأوضاع مجموعات قليلة من التجار والإقطاعيين وکبار الملاکين، التي تعاونت مع المحتلين الجدد، وساهمت بتشديد الاستغلال على الفلاحين. وإذا كانت إجراءات إقرار التشريعات العثمانية بخصوص الأرض الزراعية، التي تم اغتصاب مساحات واسعة منها من الفلاحين على مدى القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين وتسجيلها بأسماء الشيوخ وكبار موظفي الدولة وأشراف المدن وتجارها؛ قد أثارت سكان الريف، وفجرت ينابيع الغضب في نفوسهم على المحتلين، وشحذت منهم الهمم لمقاومة قوات الاحتلال. فإن سلطات الاحتلال البريطانية منذ سنة 1918 قد عمدت إلى ممارسة سياسة مماثلة لسياسة العثمانيين؛ أغضبت الفلاحين والكثير من الشيوخ الذين حرموا من الأرض ؛ بسبب مواقفهم الوطنية من سلطات الاحتلال في أثناء الحرب العالمية الأولى، أو في الأعوام التي تلتها. فنظموا العديد من المضابط، والتحركات المعادية للإنكليز في مناطق عديدة، وبخاصة في الفرات الأوسط والجنوب. وكان لهذه التحركات السياسية دورها في تعبئة الفلاحين، وأبناء المدن وإلى تعميق مضمون التناقضات الاجتماعية مع سلطات الاحتلال.

البطل العظيم الشيخ شعلان أبو الجون مفجّر ثورة العشرين
ورداً على تلك التحركات، قامت سلطات الاحتلال بإعداد وتنفيذ حملات عسكرية “تأديبية” شرسة ضد الفلاحين من أبناء العشائر. فكان منها التصدي لانتفاضة تلعفر وثورة السليمانية ودير الزور والنجف. ومنها قمع التحركات الأخرى في بغداد وغيرها من المدن، مما أجج الوضع العام بأكمله. ومع أنَّ العلاقات ما بين العشائر أو ما بين الشيوخ المستغِِلين والفلاحين المستغََلين لم تكن طبيعية. إذ كانت تشوبها التناقضات وضعف الثقة والصراعات. إلا أن شيوخ الدين والأحزاب السياسية ساهموا في تخفيف تلك التناقضات، وتمكنوا من السيطرة على الصراعات وزرع الثقة في النفوس من أجل مواجهة مشتركة ضد الاحتلال البريطاني. يشير الشيخ (محمد رضا الشبيبي) إلى أن ثورة العشرين كانت: “وليدة عاملين خطيرين أولهما الضغط والاستغلال الاقتصادي واستنزاف جهود العاملين في الزراعة خاصة- والعراق قطر زراعي قبل كل شئ- والاستيلاء على مواردها من الخامات بأبخس الأثمان وردها بعد استخدامها في الصناعة الحديثة لتصريفها في أسواق هذه البلاد بأعلى الأثمان، وهذا هو جوهر الاستعمار الحديث… أما العامل الثاني في اندلاع الثورة فهو ذلك الضغط السياسي أو الحجر على الأفكار والحيلولة بين أبناء البلاد وبين التعبير عن آرائهم والمطالبة بحقوقهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم، واختيار حكامهم وحكوماتهم بملء إرادتهم ثم للمحاولات التي بذلتها السلطة المحتلة لفرض نوع من السيطرة الاستعمارية المباشرة على العراق”. ويتضمن مقتطف الشيخ محمد رضا الشبيبي تأكيداً صريحاً على الوعي السياسي والاجتماعي لعدد من قادة الثورة يومئذ، وفهمهم للأسباب التي دفعتهم للمشاركة بالثورة.
وما خلا ذلك، فإن ظروف الحرب، أوجدت بذاتها نوعاً من الحركة التجارية النشيطة نسبياً في الأسواق المحلية، استفادت منها مجموعات من التجار. إلا أنها اقترنت بإفقار شديد للكادحين من ذوي الدخل المحدود؛ بسبب نقص فرص العمل، والتشرد وارتفاع أسعار السلع والخدمات (التضخم النقدي) ، وكذلك النهب المتواصل والمتنوع للمحاصيل الزراعية والإيرادات من جانب سلطات الاحتلال الإنكليزي؛ وبعض الإقطاعيين وتجار الجملة، أنتجت في بعض مناطق العراق مجاعات بشعة. ومنها المجاعة التي وقعت في الموصل، والتي أودت بحياة الألوف من السكان. ويورد الدكتور الوردي في هذا الصدد ما يلي: “ولكن هذه المنافع التي جناها قسم من الناس تقابلها مضار أصابت القسم الآخر منهم. فقد ارتفعت أسعار الحبوب ارتفاعاً فاحشاً كاد يؤدي إلى مجاعة في بغداد. فقد كان سعر طغار الحنطة في الحلة في العهد التركي يتراوح بين 8 و10 ليرات، فارتفع في عهد الاحتلال إلى مائة ليرة. وفي بغداد ارتفع سعر الطغار إلى 120 ليرة. وحدثني أحد شيوخ المشخاب فقال: إن طغار الشلب كان سعره في العهد التركي يتراوح بين 35 و50 ليرة”.
وبعد استكمال احتلال العراق من جانب القوات البريطانية، عمدت سلطات الاحتلال إلى تنفيذ سياسة تستهدف تحقيق مصالحها الاقتصادية؛ وتعزيز تلك القواعد الاجتماعية، التي تخدم مصالحها على الأمد الطويل. وهي تلك الفئات والعناصر التي سعت قبل ذاك بسنوات، إلى بناء علاقات جيدة مع الشركات التجارية البريطانية والقنصليات العاملة في العراق. فعمدت سلطات الاحتلال إلى تعزيز علاقاتها بالبرجوازية الكومبرادورية الجديدة، التي ساهمت بتكوينها، وسعت إلى فرض وجودها وتحصين مواقعها من جهة، وإلى تعزيز علاقاتها بالإقطاعيين، الذين شجعتهم على بسط نفوذهم وتأثيرهم على عشائرهم في المناطق التي يقيمون فيها من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى تعزيز علاقاتها بمجموعة من الضباط العراقيين، التي كانت تعمل قبل ذاك في القوات العثمانية، ثم انقلبت ضد القوات التركية، وساهمت في مشروع الشريف (حسين) واتفاقه السياسي مع الإنكليز. وإلى العمل على اختيار مجموعة من الناس من أبناء العائلات الميسورة والمعروفة؛ لتعيينها في وظائف إدارية، ترتبط بسلطات الاحتلال، وتخضع لإشرافها. وكانت هذه الخطوات هي البداية الأولى لتكوين البيروقراطية العراقية الحديثة؛ التي ارتبطت مصالحها – بهذا القدر أو ذاك – بمصالح الوجود البريطاني في العراق، فخدمت مصالحه مؤثرة إياها على مصالح المجتمع العراقي. ولكنها اعتمدت في بعض الأحيان على من كان يعتبر من “المنبوذين” في المجتمع؛ فأساءت إلى من كان يعتبر من “الأشراف” والشيوخ والمحترمين في المجتمع. وقد كان لهذا التصرف نتائج سلبية برزت في علاقة الشيوخ ومجموعات من الأشراف مع القوات والسلطات البريطانية. وقادت سياسة سلطات الاحتلال البريطانية، التي تضمنت اختيار شيخ من شيوخ العشائر في منطقة معينة، ومنحه راتباً ثابتاً للمحافظة على أمن المنطقة؛ إلى إثارة إشكالات سياسية وصراعات بين العشائر، التي كانت تقطن في المنطقة ذاتها، والتي لم يتم الاتفاق معها. فكان المال – ولا يزال – يلعب دوراً كبيراً في كسب رضا أو كراهية العشائر العراقية. وهو ما أدركته جيداً مس (بيل) فتعاملت معه بذكاء كبير.
ومع ذلك كانت هذه السياسية قصيرة النظر، وجلبت لبريطانيا الكثير من المتاعب، إضافة إلى ذلك فإنها كانت تهدف إلى تشديد الخلافات بين شيوخ العشائر؛ ليسهل عليها السيطرة عليهم جميعاً. وهذا ما حصل مع الشيخ (ضاري الظاهر) رئيس عشائر (الزوبع) ليكون مسؤولاً عن الأمن والنظام في منطقته على سبيل المثال لا الحصر.
وعمدت تلك السلطات إلى الاعتراف بالتشريعات، التي صدرت في العهد العثماني؛ فأقرت عمليات توزيع أراضي الدولة على رؤساء العشائر والشيوخ وكبار موظفي الدولة في العهد العثماني. لكنها حرمت الفلاحين والشيوخ الوطنيين – في بعض مناطق الفرات الأوسط بصورة خاصة – المعادين لسلطات الاحتلال من الأراضي الزراعية. ولم تكتف بذلك، بل قامت سلطات الاحتلال البريطانية في هذه الفترة بتوسيع عمليات منح الأراضي الزراعية باللزمة. كما عملت على توسيع نشاط الشركات البريطانية لزراعة المحاصيل الصناعية ولاسيما القطن، واستولت على مساحات معينة من أكثر الأراضي الزراعية خصوبة ووضعتها تحت تصرف تلك الشركات.
إن أكثر العوامل التي حركت الفلاحين والملاكين معاً، إضافة إلى عامل الشعور الوطني والديني، هي تلك الأساليب التي مارستها سلطات الاحتلال الاستعمارية في السيطرة على المحاصيل الزراعية والموارد المالية على أساس جباية الضرائب من السكان. وقد تفننت أكثر من العثمانيين في إيجاد الصيغ والحجج لتحقيق ذلك، ومن جملتها فرض “التبرعات” الإلزامية على المواطنين في المدينة والريف. وتشير بعض المصادر إلى أن الضرائب المفروضة على السكان، قد تضاعفت أكثر من ثلاث مرات خلال فترة وجيزة. كتبت جريدة (المانجستر گارديان) تهاجم الإدارة البريطانية في العراق في سنة 1920 لا لأنها لم تحقق آمال العرب في الحرية والاستقلال فحسب، بل لأنها رفعت ضرائبهم إلى ثلاثة أضعاف عما كانت عليه قبل الاحتلال البريطاني. وتنوعت الضرائب فكان منها: ضريبة النخيل، وضريبة المحاصيل الزراعية المختلفة، وضريبة الملك، وضريبة الدفنية…الخ، ومنها العمل على جمع التبرعات للصليب الأحمر، وبناء الملاجئ للجنود في بريطانيا، وإقامة تمثال لقائد حملة احتلال بغداد الجنرال (مود)،…الخ. كتبت جريدة “الفرات” بهذا الصدد قائلة: “لقد هدمتم هذا الركن بمقالع من السياسة، التي أهلكت الحرث والنسل، وأتت على الأخضر واليابس، فتراب كل منطقة يشهد بأنكم سلبتم الحب حتى من منقار الطائر، واستخرجتم المخ من العظم، وضاعفتم الخراج أضعافاً للزراع، فأصبحوا يسألون الناس إلحافاً وأنتم تسألونهم فوق الجهد، وتكلفون نفوسهم فوق الوسع. أهذا عدلكم؟”.
وكانت إدارة المعتمد البريطاني تجبي نوعين من الضرائب من السكان: ضريبة العين وضريبة النقد. وكانت هذه الضرائب لا تخضع لمعايير سليمة، وتتم على أساس التخمين بالنظر. وكان الخاسر دائماً هو الفلاح المنتج. وتشير تقارير الحكام السياسيين في المناطق الزراعية، إلى أن جلّ وقتهم قد صرف للاهتمام بالشؤون المالية، التي لم تكن في حقيقة الأمر سوى جباية الضرائب غير المشروعة للإدارة البريطانية. كتب حاكم الديوانية في سنة 1918 لدائرة الحاكم الملكي ببغداد يقول: يجب أن نقرر هنا بأن جزءاً كبيراً من وقت الحاكم السياسي مخصص للقضايا المالية أو القضايا التي ترتبط بها بصورة غير مباشرة” . فمن هنا يتبين لنا بأن الفئات الاجتماعية الفقيرة والكادحة في الريف والمدينة – وهي تشكل غالبية السكان – كانت تتعرض إلى عمليات نهب منظمة وجشعة واستغلال شديد من جانب سلطات الاحتلال البريطانية، تساوت مع أساليب أجهزة الولاة العثمانيين. إضافة إلى استغلال الشيوخ، وكبار ملاك الأراضي الزراعية، والبرجوازية التجارية والربوية المتنقلة بين الريف والمدينة . ومن هنا أيضاً يتبين بوضوح لِماذاَ كانت جموع الفلاحين الجيشَ الأساسي لهذه الثورة الوطنية.

من غنائم ثورة العشرين في الديوانية حاليا
(3) العوامل الاجتماعية والدينية
في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، برزت بعض مظاهر التفكك البطيء جداً في العلاقات الأبوية في الريف العراقي؛ لأسباب ارتبطت بدور العلاقات السلعية الجديدة التي كانت قد نمت بفعل حركة الرأسمال التجاري الغربي في العراق، وسعي جمهرة الإقطاعيين الصغيرة، وكبار الملاكين في تشديد الاستغلال على الفلاحين، ونزوح مزيد من العائلات الفلاحية إلى المدن – رغم بؤس المدن ذاتها حينذاك – وانتزاع مزيد من الأراضي الزراعية العائدة للفلاحين، من جانب الإقطاعيين وكبار الملاكين بدعم من سلطات الاحتلال البريطانية، التي قامت بتوزيع الكثير من الأراضي الزراعية على مؤيديها من شيوخ العشائر. وكان الفلاحون في ريف الوسط والجنوب وفي ريف كُردستان وعموم الشمال – رغم تشابك العلاقات العشائرية والأبوية بينهم وبين رؤساء عشائرهم – يعانون من مصاعب جمة. وعلى الرغم من هذه المصاعب، ورغم ضعف الوعي السياسي والاجتماعي لدى الجمهرة الواسعة والأساسية من الفلاحين؛ وأبناء العشائر في ريف المناطق العربية والكُردية، استطاعت هذه الفئة أن تحافظ على علاقاتها العشائرية، وعلى خصائصها وطبيعتها الأساسية في العراق لفترة طويلة لاحقة، استمرت إلى ما بعد تشكيل الحكم الوطني. وكانت العلاقات العشائرية من جانب، والعلاقات الدينية من جانب آخر؛ تتحكمان بقوة بسلوك الفلاح، والبدوي شبه المستقر، وابن البادية المتنقل. بالرغم من أنَّ نسبة عالية من هؤلاء لم يلتزموا – بسبب طبيعة عيشهم – بأركان الدين كالصلاة والصوم والزكاة على سبيل المثال لا الحصر. كما كان تأثير العلاقات العشائرية والدينية على سكان المدن كبيراً؛ لأنَّ أغلب قاطني المدن كانوا من أصل فلاحي أو ريفي.
ويلاحظ في هذا السياق وجود تمايز نسبي بين المناطق العربية والكُردية. إذ كان التزام الفلاح الكُردي المسلم بالشعائر الدينية، كالصلاة والصوم..الخ أقوى من التزام البدوي أو الفلاح العربي المسلم بها. وهذه الظاهرة لا تعني أن احترام الفلاح للدين وشيوخ الدين كان قليلاً، ولا تعني أن التزامه بتنفيذ الفتاوى التي يصدرونها والمشورات التي يقدمونها للناس كان ضعيفاً. وإنه لجدير بالإشارة أن شخصيتين كانتا تؤثران بقوة على سلوك الفلاح والمواطن في الريف عموماً – وكذلك على أولئك الذين هجروا الريف واتخذوا من المدينة موطنا لهم حيث استمروا في ممارسة عاداتهم وتقاليدهم الفلاحية لفترة طويلة من الزمن – وهما شيخ العشيرة أو البيگ والأغا والإمام أو السيد أو الملا بالنسبة للمسلمين، والقس بالنسبة للمسيحيين، و الحاخام بالنسبة لليهود، والأمير بالنسبة للإيزيديين، وشيوخ الدين بالنسبة للصابئي المندائي.
وقد نشأت في الريف العراقي علاقة اقتصادية متينة بين أطراف ثلاثة، وهم: الفلاح، شيخ العشيرة، عالم الدين أو ممثله في الريف. فالفلاح هو المنتج الفعلي والوحيد للخيرات المادية في الريف. ويتضمن إنتاجه الريع الذي يقتطعه منه شيخ العشيرة، أو المالك للأرض الزراعية، أو مالك حق التصرف بها، أو الإقطاعي. وكان شيخ الدين يتسلم حصة من الإنتاج، تقتطع أساساً من الإنتاج الضروري للفلاح، إضافة إلى حصوله على حصة إضافية، تمنح له من الشيخ، أو مالك الأرض، أو الإقطاعي. وهي في كل الأحوال تعتبر جزءاً من الريع، الذي يفرض على الفلاح تقديمه بصور مختلفة. وفضلاً عن هذا فإن الفلاح كان يتوجب عليه أن يدفع الضريبة التي تفرضها الدولة عليه من حصته من الإنتاج. ولا شك في أن شيوخ الدين الشيعة كانوا يعيشون أساساً على هذه الحصة؛ لأنهم كانوا لا يتسلمون راتبا من الدولة كما هو حال شيوخ الدين السنة. هذا بالإضافة إلى ما كان يصلهم من زكاة وغيرها من سكان المدن، ومن الزوار القادمين من بلدان أخرى، أو ما يأتيهم من الهدايا والعطايا والزكاة، التي كانت ترسل لهم من مختلف بقاع العالم، أينما وجد أتباع للمذهب الشيعي الإثني عشري أو الجعفري. وعلى هذا الأساس كانت علاقة شيوخ الدين، بالفلاحين وبالإقطاعيين أو بشيوخ العشائر، قوية بالمقارنة مع علاقة شيوخ الدين السنة، الذين كانت علاقتهم المالية محصورة بالحكم؛ إذ كانت الدولة هي التي تدفع رواتبهم الشهرية. وفضلاً عن هذا فإن الفلاح كان يقدم جزءاً من محصوله نقداً أو عيناً إلى السادة وشيوخ الدين العاملين في العتبات المقدسة – إضافة إلى القرابين (النذور) التي يلتزم بها الفلاح كل عام لأسباب كثيرة أمام الله والأئمة – وتدفع في الغالب الأعم عينا. ولوحظ خلال تلك الفترة، أن زيادة حجم الضرائب المجباة من قبل سلطات الاحتلال البريطانية؛ أدت إلى تقليص كبير في الحصة المتبقية للفلاحين من صافي الإنتاج أولا، وإلى تقليص حصة الإقطاعي، أو المالك، وشيخ العشيرة ثانيا . وأدت كذلك إلى تقليص حصة شيوخ الدين، والمقلدين، والسادة ثالثاً. وقاد هذا إلى تدهور كبير في مستوى معيشة الفلاحين، وفي مستوى معيشة شيوخ الدين إلى حد ما وخاصة الصغار منهم. وكانت هذه المسألة واحدة من بين أهم المسائل أو الأسباب الكامنة وراء تحرك شيوخ العشائر، وملاكي الأراضي، وشيوخ الدين في المناطق الشيعية. إضافة إلى الحس الوطني والواجبات الدينية، التي ستوظف لمقاومة سلطات الاحتلال البريطانية.
*عن موقع المعرفة