*حاوره الأستاذ سعدون هليل (عن مجلة الثقافة الجديدة)
س1/ عند قراءة روايتك (الحلم العظيم) يكتشف القاريء أستخدامكم في سردها نهج التوليد الحكائي المتبع في ــ الف ليلة وليلة ــ ما مدى أستفادتكم من الليالي العربية؟
الجواب / أعتقد ان المتابع والذي يعنى بالسفر العربي الخالد ــ ألف ليلة وليلة ــ سوف يدرك مدى توغل هذهِ الحكايات ببنية الثقافة العربية والاسلامية وسيرى أن الليالي العربية هي نتاج العقل التخيلي (العربي والاسلامي .. الحضارة العباسية تحديداً) الذي يجنح الى تشكيل المشهد من مخيلة تواقه الى التحليق في مناخات وأجواء غير متوقعة، غرائبية ومفاجئة للمتلقي، هنا، سأتجاوز الأثر الذي تركته الف ليلة وليلة في العقل الغربي في القرن الثامن عشر والتاسع عشر فقد اشار الى ذلك كتاب الدكتور محسن الموسوي (الوقوع في دائرة السحر) ، والذي كتبتُ عنه

مقالاً (في حينه) تمجيداً لجهدهِ الأستثنائي. لكني لا أستطيع أن أبرح تلك المناطق التي أستغلها وأستفاد منها المبدع العربي من حكايات الليالي الأربع والسبعين حكاية سردتها شهرزاد خلال الف ليلة وليلة كما ارجو الانتباه الى أن مصطلح الليالي العربية قد أشاعهُ الفرنسي أنطوان غلان ومنه أخذنا بهِ ترجمته لألف ليلة وليلة، وليس مصطلحاً حديثاً كما يعتقد بعض النقاد غير المتابعين وهم يشيعون في الثقافة مفاهيم خاطئة في فهم المصطلح، لعدم تتبعهم لمصطلح الليالي ثم الدعوة لضرورة الانتباه الى الغاية من تمديد الزمن خلال سرد الحكايات التي تتجاوز لمئة حكاية ومع هذا أمتد زمن السرد فيها الى الف ليلة وليلة، اليس هذا دافعاً لتعطيل آلة الموت، أي تأجيل المصير المحتوم ؟ .. أن هذا الكتاب المدهش والذي سُطرت عشرات الصفحات في الثناء على خصائصهِ الحكائية والأسلوبية، هو كتاب استثنائي أدركنا اهميته في سنوات مبكرة من حياتنا الأدبية، ولا مفر من الأستفادة المباشرة وغير المباشرة منه. أن توليد الحكايات من بعضها خصيصة من خصائص الليالي، وخلال أشتغالي في الحلم العظيم أعتمدت تقطيع الحكاية الواحدة الى اجزاء وشكلتُ وحدات سردية متعاقبة واخر تم تأجيل سردها الى فصول قادمة، لذا، كنتَ ترى أثراً خفياً لليالي العربية، أن أبرز عنصر متطور في الحلم العظيم،هو عنصر الحرية الذي تتمتع بهِ الرواية وفسح المجال للمخيلة أن تعمل بجدية ومثابرة، وكلاهما (الحرية في التعبير والمخيلة في خلق المشهد) هي مؤشرات من السفر العربي الكبير، فشهرزاد كانت تتمتع بحرية القول كما أنها تكشف عن مخيلة نادرة في السرد، الفارق الوحيد الذي يبعد الحلم العظيم عن الليالي العربية، هو الوعي الذي يتمتع بهِ السارد في الرواية، مؤلف القصص، كما ان موضوعة الرواية (الحلم العظيم) موضوعة سياسية مباشرة وأجتماعية واضحة وثمة هدف مخفي غير معلن يتضح بصورة غير مباشرة من خلال القراءة الواعية للرواية.
س2/ نجد أن أغلب قصص أحمد خلف يهيمن عليها ضمير المتكلم. هل هي مصادفة أم طريقة تتبعها في العديد من أعمالك القصصية والروائية ؟
الجواب / يمتلك ضمير المتكلم خصيصتين بارزتين دون بقية الضمائر، الأولى مقدرته الفائقة على ترجمة الذات الساردة بصورة شبه دقيقة، أذ يستطيع المتكلم أن يبوح بمكنون النفس ودواخلها القصية، أي أننا نعالج أنفسنا بالسرد، ومن خلاله نفرغ المزيد من الشحنات الداخلية المحتدمة، ويعطينا فرصة مثلى، أشبه بالمرآة التي نرى أنفسنا من خلالها، هي ما اصطلح عليه بمرآة السرد حيث يتأتى لنا معاينة ما عانيناه من أتراح وما عشناه من أفراح، وفيه مقدرة فضحائية لكشف المزيد من الاسرار والكوامن الذاتية وهو بطبيعته يغري السارد على التورط في مناطق سردية غير متوقعة قد يفاجيء بها السارد وهو في منتصف الطريق للكشف عن الحقيقة .. وثاني الميزتين، هي الطاقة الشعرية الكامنة في روح الخطاب الذي يتشكل عبر سرد الانا المتكلمة، فأنت تقف حائراً أمام نبرة الخطاب، النبرة التي هي حالة من حالات التوافق والتناغم الكيفي على التنوع في زاوية الخطاب، في الأنتقالات، في عملية التقطيع، لحظات الصمت داخل السرد، أنثيالات غير متوقعة . فهو يحمل بين طياته طاقة شعرية لا يمتلكها ضمير الغائب مثلاً، أن الضمير الاخير غالباً ما يخاطب المتلقي من علو، أي من مسافة تكاد تكون ملموسة، أنه يروي عن شخص أفتراضي، لا يمكن القاء اللوم عليه، لأنه يستخدم ضمير ــ هو ــ والمتلقي لا يعلم الكثير عن تلك الشخصية بقدر ما تصلهُ من معلومة عبر ذلك الضمير، أن ضمير الغائب تتجسد مقدرته في خلق حالة من الأغتراب العقلي والوجداني لنا،والآن، أدعوك الى كتابة عبارة واحدة بضمير المتكلم ثم أقلبها وأكتبها بضمير الغائب سوف تجد أن الأولى هي الأقرب الى التصور وأن لا حواجز او مصدات حتى لو كانت خفية ، فالمسافة لا توجد الا في ضمير الغائب، يقال أن يوليسيس قيصر هو أول من أستخدم ضمير الغائب في كتابة سيرته الذاتية، وكان يخاطب نفسه من خلال الحجاب أو ستارة ضمير الغائب، كأن يكتب قوله الأفتراضي :
(كان يوليسيس قيصر بستيقظ مبكراً ويغادر الفراش عند مطلع الفجر) وعليك أن تتخيل شخصاً يتحدث الى نفسه أو يكتبها كما يفعل يوليسيس قيصر، أن هذا الأستخدام الغريب ينم عن حالتين الاولى : ــ الأبتعاد عن سفح الذات أو فضح أسرارها والثانية : ـــ أبعاد أية تهمة أو شكوك قد تساور المتلقي بشأن الشخصية التي يسرد عنها المؤلف حكايته، ولقد جربت الأستفادة من لعبة الضمائر بقصدية واضحة، فأنت ترى في النص الواحد أن الضمير كثيراً ما يتغير ويتبدل بطرق توحي للمتلقي بعفوية أو تلقائية في التحول من ضمير الى آخر وذلك لغرض العمل على تبديل النبرة أو النكهة التي ينطوي عليها التغيير أو التحول وهي خاصية قصصية ينبغي الأنتباه الى خطورتها في أننا اذا لم نحترز من خطورة التحول سوف نفقد مصداقية السرد مما يدفع بالمتلقي الى التخلي عن مشروع قراءة النص .
س3/ ما هي نسبة المتخيل في روايتك ــ موت الاب ــ وما هي نسبة الواقع فيها ؟
الجواب / أن أعطاء الخيال فسحة ومساحة كافيتين في النص القصصي والروائي لأستثماره، هو في الحقيقة صياغة متقدمة لكينونتنا وأنتشالها من براثن الجور الذي رزحت تحت نيره وقد تفنن الواقع القاسي بإيذائنا بكل شروره، ان متعة الخيال والأستناد الى المخيلة لكي تمتثل للضرورة الفنية هو أمتياز المبدعين الجادين، ودعني أستعير من أحد كتاب أمريكا اللاتينية قوله : ــ أن الخيال يعني معرفة الواقع وكشفه وهو المكان الأكثر أحتمالاً للعمل تحت سقفه. ومن تجربتي التي أعتز بها، ارى ان نقد الواقع ينبغي أن يتم على أساس الأستفادة قصصياً من الخيال أيضاً وأن الصيغة غير المباشرة لنقد الواقع هي أنجح الطرق لفضح قسوته وجورهِ، وفي رواية (موت الأب) التي عملتُ فيها قرابة الخمس سنوات تحتم علىَ الأستفادة في أنجازها بالصورة التي أريد، أن أستغل كل طاقة أو رؤيا أو حالة ومشهد وتصور ونبرة سردية، ونكهة في القص، أنا أدعوك الى العودة ثانية الى موت الأب، لتكتشف حقيقة التناغم الذي أطرى عليه أكثر من دارس لها، تعال معي الى الكتاب الثالث الذي هو الفصل الأخير في الرواية، ستضع يدكَ على مقدرة الخيال الخلاق للصورة والمشهد الذي يجمد الزمن في مكانه للحظات وربما ساعات ونحن نقرأ صفحات من الصراع الدموي والدرامي بين الأب والعم، كذلك النهاية المأساوية ليس للعم فقط، فهذا نال عقاباً قد لا يستحقهُ قياساً بالجنحة التي أرتكبها وهي الزواج من أمرأة اخيه، ولكن أعني موت الأب، ذلك الموت الرمزي والذي كانت الصفحات فيه تغص بالشاعرية والمخيلة المتدفقة تلك هي أحدى النعم التي يمنحها لنا الخيال، دونما منةً من أحد، فأنت حين تجيد تدريب المخيلة على مساحات معقولة، لا فوضوية في الشطحات سوف يتقدم الخيال لأعانتكَ بكل أريحية وسخاء، هذا ما تجسد في موت الأب، ولقد عملت المخيلة على كشف الواقع ورزاياه، انها تنبأت بنهاية مأساوية لذلك الواقع المزري كما اشار أكثر من ناقد ودارس لها، ومن أبرز من أشار الى طاقة الحدس في الرواية، هو الدكتور حسين سرمك والأستاذ عواد ناصر وناطق خلوصي وعباس عبد جاسم وتحسين كرمياني وطراد الكبيسي، كل واحد منهم أشار الى مقدرة المخيلة على الحدس بطريقتهِ الخاصة والتي تجنبهُ المسآلة والمواجهة مع السلطة آنذاك لأن الرواية نشرت في منتصف 2002، أي قبل التغيير في عام 2003 مما دفع الاستاذ توفيق التميمي الى أعتبار صدورها في ذلك العهد أمتيازاً يحسب للمؤلف، اضافة الى تقنيتها الفنية والجمالية الواضحة. على أن الرواية أستثمرت الواقع الى أقصى ما يتمكن السرد من دفع المشهد القصصي الى أمام، بغية أدانة الواقع المتردي الذي أشارت الرواية الى حالات الاختناق التي يعاني منها كوضع سياسي وأجتماعي فاسد، لقد تم نقد الواقع المزري ذاك على أسس سردية غير مباشرة، وتلك لعمري أفضل طرق المقاومة ضد نظام يعتمد الهراوة البوليسية والعنف المستمر.
س4/ يشكل البحث عن الغائب ظاهرة في قصص أحمد خلف، وقد أستمدت طاقتها التعبيرية كظاهرة فنية وأجتماعية من الموروث الشعبي العراقي، ما مدى أمكانية الاستفادة من المثيولوجيا والتاريخ في الفن القصصي ؟
الجواب/ في الوقت الذي تقوض فيه حرية التعبير وكذلك حرية الرأي والمعتقد، في ذلك الوقت الذي يصبح فيه الانسان وحيداً ومعزولاً، بل أعزلاً آزاء آلة الموت، حيث يُغيَب الانسان في أية لحظة ولأي سبب، في الظروف العامة والخاصة القاهرة التي يعم فيها البطش بلا رحمة، من الممكن أن يلجا الفنان والمبدع والقاص والشاعر كل هؤلاء المنتجين، لا مفر لهم من اللجوء الى وسائل تعبير غير مباشرة، رموز وأقنعة ومعادلات موضوعية، أو القيام بعملية بحث عن المخلص والمنقذ الذي يمكنه ان يقود سفينة الاحلام نحو شاطيء الأمل، وكلما ازداد المخلص، المنقذ أبتعاداً عن مدينة الامان كلما ازدادت قوانا التعبيرية في بحثها الدائم والدؤوب عن المدينة الفاضلة، وهي تنأى عنا وتبتعد، لكن المبدع الخلاق لا يكف عن رفع ناظوره بعيد المدى، ليبحث في الأفق النائي لكي يضع يدهُ على ذلك البريق الخاطف وهو يلوح لنا بين حين وآخر، تلك هي القضية وذلك هو الحال، وعليه فأننا حين نلجأ الى أستخدام الرمز والأسطورة والحكاية الشعبية وغيرها من المهارات أنما نريد أولاً توصيل ما يحمله النص من رؤيا أو فكرة وثانياً، أن هذهِ العناصر تزيد النص جمالاً ودلالة فكرية وأجتماعية لا يمكن التغاضي عنها، وعن العناصر التي تتهيأ لتكشف لنا عن مخلصنا، منقذنا، لهذا، نرى أن معظم الأديان والحركات الاجتماعية والمعتقدات، جعلت لها منتظراً تنتظر مجيئه أو هي في أنتظار ان تحين الساعة. أن المنتظر او المنقذ المخلص عندي لا يستند (من حيث هو فكرة) الى عقيدة مثيولوجية أو طوباوية وأن لعبت هذهِ العقيدة دوراً خطيراً في اللاوعي الجمعي والشخصي، ولكن بروز الوعي ومعرفة دراما الحياة، يجعلنا حريصين على أستخدام المثيولوجيا أو الاساطير والحكايات دونما تكون هي المصدر والناتج أي أننا حين نستعير من التاريخ أشارة أو حادثة، ينبغي الا تتجاوز تلك الحادثة حدود المرجعية الفنية والجمالية، أي أن يكون التاريخ أو المثيولوجيا في خدمة النص. عليك أن تكون شديد الحذر وأن تحاول أستثمار ثقافتك التاريخية أو أطلاعك الثقافي مهما كان عميقاً في الفلكلوريات أو المثيولوجيات التي نعرفها، وينطوي الحذر على الا يصبح النص، تابعاً الى المرجع بل ينبغي أن يكون العكس هو الصحيح . وفي رواية موت الأب على سبيل المثال،يقول البطل لصديقه متلقي الخطاب، يقول له : سوف أكتب رواية عن بلادي، أستخدم فيها التاريخ كمصدر من مصادر الأدانة غير المباشرة، فيظن المتلقي أن المقصود هو كتابة رواية تاريخية فيصحح لهُ السارد بقوله : كلا، أنما التاريخ في خدمة الرواية. وهذا ما أطمح اليه في معظم ما كتبته من نصوص، مستغلاً الرموز او الاستعارات الكبيرة أو الكنايات أو الفلكلور، أذ هذهِ المصادر توفر زخماً رائعاً للنص حين يتوفر المؤلف الحاذق في أستخدامها على المقدرة التي تجعل من نصهِ، لحمة عضوية واحدة، لا أنفصال فيها بين الواقع أو الخيال، بين المرجع وبين النص.
س5/ أريد ان أسالك عن كتابك الاول والذي صدر عام 1974، كان العنوان مفاجئاً ــ نزهة في شوارع مهجورة ! .. هذهِ سمة العديد من عناوين كتبكَ، أعني المفارقة الجمالية والفنية. كيف تكون النزهة في شوارع مهجورة؟
الجواب / كثيراً ما وجه لي سؤالاً من هذا النوع .. لماذا: في شوارع مهجورة ؟ لماذا الخراب الجميل، القادم البعيد وخريف البلدة وحامل الهوى وموت الاب والحلم العظيم، الى آخر أسماء المؤلفات. حسناً، سأفترض أن السؤال يتوجه الى جوهر النص، اعني الى المحتوى أو الغاية من خريف البلدة أو نزهة في شوارع مهجورة، ليس مجرد عنوان وتسميه، بل كدلالة أشتغل عليها السارد ــ المؤلف في بعض الأحيان، خلال تأليف كتاب وليس عنوان .. ومع هذا، يرى البعض من الزملاء، أن العنوان هو عتبة الدخول الى النص، أو ثريا النص التي يحملها ذلك النص، في تصوري لا يوجد في الكتابة ما هو خالٍ من دلالة أبداً، كل ما يقال يحمل دلالته أو الأستعارة التي يستند اليها. كذلك العنوان، يكفي أننا نطلق عليه تسمية : عنوان، أي يمتلك أمكانية الدليل لكي يأخذ بأيدينا الى المرمى والغاية والمقصد. لقد لازمني أعتقاد جازم في سنواتي الاولى أني سأحط في يوم ما في أرض الأحلام أو في المدينة الفاضلة التي يصبو اليها أبناء جيلي أو تلك الفئة المثقفة من الناس، وكانت سنوات الستينيات بما فيها من عذابات ومرارات وآلام، هي التي تشجع على البحث عن صيغ أجتماعية وجمالية أن لم تكن فكرية وفلسفية في بعض الاحيان، لذا، فعناوين كتبي هي نتاج تلك المرحلة العاصفة، المليئة بالأحلام والأفكار والحركات السياسية والثورية والفنية، (يجب الأ ننسى أنتشار الوجودية، وظاهرة تشي جيفارا، ومدارس الفن السريالي والدادائي وغيرها من حركات سادت مرحلة الستينيات وآخر ما نذكر بهِ ثورة الطلبة في فرنسا ومصر وكذلك أنتكاسة العرب في 5/حزيران 1967 وأشتعال نيران الثورة الفلسطينية، وكذلك ثورات الطلاب في العالم الغربي وحركة الترجمة الهائلة، كل هذا جرى في عقد صاخب لا يقر له قرار، فما كان من المبدعين الا التوازي مع عصرهم ومرحلتهم، لهذا، لم يكن غريباً كل ما حدث على مستوى الفن) في تلك الأيام، كنا أنا والقاص جمعة اللامي نواصل لقاءنا اليومي وفي بعض الاحيان نستمر في القراءة والكتابة حتى ساعة متأخرة من الليل، لتتكشف لنا بغداد ــ المدينة التي نحبها أنا وجمعة اللامي كنا نقطع الطرقات فقط، حتى خيل الينا أن شوارع بغداد هجرها أهلها، وكنا نتساءل : الى أين مضى الناس وتركوا المدينة مهجورة الشوارع ؟ كان سؤالنا، ربما ينطوي على حدس أو نبؤة تنبأ بها احدنا بما سيأتي من خراب ودمار يعم المدينة ويقوض أركانها ويجعل شوارعها مهجورة من ناسها تماماً. وكذلك كجزء من ثقافة تلك المرحلة، حيث كنا، أو كان المثقف ينعم بالفائدة من الفكر الجدلي الذي يخلق الجديد عبر التناقض أو الصراع، وهي حالة يشي بها ذلك الواقع المتردي الذي عاشه الناس بعد عام 1968 وما تلا ذلك من أعوام، اني أرى أن نقد الواقع قد جاء في صيغة الكتابة الابداعية قبل أن يتعرض لهذا الواقع، الخطاب السياسي الذي تردد طويلاً في نقد تجربة الثلاثين عاماً المنصرمة.
س6/ الا تبدو القصة القصيرة في العراق مظلومة نقدياً قياساً، أولاً؛ لتاريخها الطويل نسبياً، ثم قياساً مع بقية الفنون الاخرى، الشعر تحديداً ؟
الجواب/ من الصعب الأخذ بالاحكام والقرارات والآراء القطعية،كما لو كانت حقائق، لأن الكلام في مجال المقارنة والتقابل قد ينطوي على دوافع شتى، البعض منها يبدو غامضاً، كما أن المشهد القصصي العراقي لا يزال يحظى بأهتمام المعنيين بهِ، منذ الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين حتى اليوم، أذ المشهد القصصي حيوي وفاعل ولا يجوز (أخلاقياً وتاريخياً) تجاوزه في حال الحديث عن القصة والرواية في العراق، قد يكون لظاهرة هجرة المثقفين العراقيين خارج الوطن أثر واضح على مجمل المشهد الثقافي والادبي، وليس القصة وحدها، هناك تذمر من الحالة العامة وهناك رفض لبعض مجريات الأمور، ولكن بعضنا واصل العمل بكل جدية في الكتابة، وأذا ما قمنا بدراسة ومتابعة مخلصة سوف نجد ان الكثير من الدوريات العربية تتلقف النتاج القصصي العراقي بأريحية واضحة، ويفوز عدد ليس بالقليل من القاصين العراقيين الجدد وبعض القدامى، لكن الكتابة عن ظواهر القصة والرواية، أمرٌ مناط بالنقاد لأنشغالاتهم المتأخرة، وأن الكثير منهم وجدَ لهُ أماكن عمل أو أهتمامات أخرى، ورغم هذا، ما زالت القصة القصيرة تحظى باهتمام ملحوظ، وأن تراجعت الكتابة عنها بعض الشيء، ذلك لأن الظرف الموضوعي أختلف من حيث الذبذبة والتوجه والدوافع المتعددة في مشاربها، عما كان عليه فيما مضى، وينبغي الا نهمل دور الظروف الشخصية للمتابعين ونقاد الأدب.أضافة الى أن الرواية بدأت تزحف على مساحة المشهد السردي كله تقريباً، ولكني ما زلت ارى ثمة ولع شديد لدى القاصين العراقيين في كتابة النص القصصي أو نقده ومن الغريب اني ارى هذهِ الايام عودة ظاهرة نقد القاص وليس الناقد للمجاميع القصصية الصادرة مؤخراً.
س7/ (الحلم العظيم) أتراه حلماً شخصياً أم هو حلم جماعي تريد الوصول اليه وتريد تحقيقه ؟
الجواب/ تمتد جسور الاحلام من الذاتي الى العام، ويصبح من الصعب على المبدع الجاد التفريق بينهما ليس على مستوى النتائج، أنما حتى على مستوى الدافع، حيث تمتزج لديه (المبدع) هذهِ المستويات بتلك مما يجعله لا يفكر في المساحة الضيقة المرسومة لهُ ولأحلامه الخاصة، أنما تصبح المشكلات الاجتماعية والأخلاقية هي مشكلاته الشخصية وكلما لامسَ تطورا إيجابياً بين السلطة والناس كلما، أمتدت المساحات الخضراء في حياته، علينا نحن الذين عشنا مرحلة ما سميَ الجبهة الوطنية أن نتذكر يوم قيامها كيف كان المثقف العراقي (اليساريون تحديداً) منتعشاً كأنه أصبح على أبواب المدينة الفاضلة، ذلك قبل أن تقدم السلطة على تهديمها بذرائع واهية ومضحكة، مما جعل الصدمة لدينا عنيفة وردة الفعل مؤلمة، هذهِ أحدى الأشارات التي وددتُ التذكير بها والتي من الممكن أن تدلنا على عملية المزج بين الذاتي والموضوعي، أنا لا أفرز نفسي بعيداً عن آلام شعبي، بل وأعرف جيداً من هم المخلصون لهُ، لذا، حين أنجزت الحلم العظيم، كنتُ أريد أولاً أن أأورخ لتلك المرحلة التي دفع فيها اليسار ثمناً باهضاً بعد ما حدث من أنشقاقات داخل الحركة الوطنية وما أدى اليه ذلك التشرذم وقد ذكر السارد ذلك في الرواية. وثانياً؛ هي سيرة ذاتية لساردها وتعايشه بين مجموعة من الشباب المنتسب لليسار، أذن، لا يمكن التفريق بين الحلم الذاتي والجمعي فيما يخص الحلم العظيم، لذا فهي سيرة ذاتية من جانب وهي رواية أيضاً.
س8/ ما تقييمك لحركة النقد في العراق في المرحلة الحالية، أقصدُ ما ملامح الإيجاب والسلب التي تميز هذهِ الحركة اليوم ؟
الجواب/ لا يمكن أعطاء صورة متكاملة أو التحدث عن مشهد يفي بأنصاف النقد الادبي العراقي الذي غاب عن ساحته الفاعلة والفعلية أكثر الأسماء جدارة بالأشارة لها، د. علي جواد الطاهر وعبد الاله أحمد وعبد الجبار عباس وعبد الجبار داود البصري وصمت عنهُ طراد الكبيسي وأنشغل الاخرون في قضايا لا تدخل في صلب العملية النقدية. المشهد النقدي اليوم مثير للحزن ذلك لأن الحالة السابقة في العهد الشمولي أستمرت تقريباً أن لم تكن أتسعت أكثر أعني ما يكتبه المبدع عن زميله الاخر الذي يحمل له المودة والاحترام منذ زمن بعيد، وذلك أمرٌ تجسد في الاخلاقيات الراقية للأساتذة ناجح المعموري وعباس لطيف وفاضل التميمي والدكتور حسين سرمك وعبد علي حسن وبشير حاجم وزهير الجبوري، فهؤلاء النقاد واصلوا تصديهم بكل جدية ودون غرض أو غاية مباشرة أم غير مباشرة، للنتاج القصصي والروائي وبحرص يفوق ما يتمتع بهِ الناقد العربي في أي قطر آخر من أهتمامهِ وعنايته المعروفتين بكل نتاج يخص المبدع في قطره .. نحن وسط هذهِ الفوضى الأجتماعية وعجالة الأنتاج الثقافي لا يمكن أن نعدم ما يقدمه النقد الجديد في الافق الجديد، وفي مجالِ القصة والشعر الحديث أكثر مما يشمل باقي الفنون، لا شك ان بوادر حركة نقدية شابة جديدة تتبلور في الافق وهو (أي الافق) يتسع لكل الاصوات المخلصة التي تتحدى ما يعيقها من مصدات تعمل على أعاقتها، لكننا دائماً نتذكر المحاولات المخربة لطمس الثقافة العراقية التقدمية في المراحل السابقة وكيف أنتهت تلك المحاولات الى الفشل الذريع، وخلافها، تشرق شمس جديدة دائماً.
س9/ كان بطل روايتكَ ــ الحلم العظيم ــ غارقاً في الجنس، تحركهُ نوازع أيروسية قوية بحيث نجده يتورط بعلاقة مع أمرأة تعود بنسبة قرابة الى أحد المناضلين في الرواية .. كيف تبرر هذهِ النوازع ؟
الجواب / من الواضح أن السؤال يركز على الجانب الاخلاقي للسارد (بطل الرواية) وليس الجانب السياسي أو النفسي، رغم أنهما ممتزجان ببعضهما، لكن لا ينكر أن السارد يتميز عن الآخرين بذاتيته وشخصانيته الطاغية على كل حركة أو نأمة يقوم بها. بل يمكن القول أنه يرى في الجنس نوعاً من الخلاص من المحنة الذاتية لكنه يعلم جيداً، أن الحقيقة وهي قضية تعنيه تماماً، لا تكمن في ممارسة الجنس بل في البحث عنها وخوض التجربة الصعبة من اجل أكتشافها وادراك جوهرها، لهذا نراه يوافق على أخفاء حقيبة الاسلحة لجماعة الكفاح المسلح، رغم ان شقيقه الأكبر ينتمي الى جماعه مضادة فكرياً وسياسياً لجماعة خالد احمد زكي ومع ما للمجازفة تلك من عواقب وخيمة فانه يخفي حقيبة الاسلحة تحت سريره مباشرة، بل يزيد على ذلك أن يضيّف المناضل الشيوعي المؤمن بإسقاط السلطة عن طريق العنف، يوافق على أخفاء الحقيبة والمناضل لديه في البيت، وهو اللامبالي، الذي أسميته في السؤال الأيروسي الغارق بالجنس، أن سؤالك ينصب على خطورة تلك العلاقة بين الإيروسي والمرأة ذات الصلة بأحد المناضلين، لكن النظرة العلمية ومنطقها يقول لنا، من الممكن أن يتحول القديس وينحرف الى مجرم أو شاذ في السلوك، وهو المنطق نفسه الذي يقول لنا أن عشرات المجرمين في السجون العامة تحولوا الى شخصيات فاعلة ومؤثرة أجتماعياً ومن ثم سياسياً، أذن، لم يكن الامر مقصوداً منه أدانة المرأة تلك، بل أدانة الظرف الموضوعي الذي حتم تلك النتائج. ولعل الأنغماس في الايروسيه نابعٌ من طبيعة تلك الظروف وبيئتها الشعبية الغارقة في أحلامها المحبطة، أن النظرة المثالية تبحث في مناقب الخير وتدير ظهرها لمنابع الشر، وهي بهذا تريد أدباً متفائلاً يمجد الأنسان دون الدخول على أخطائهِ. ولعله أفضل من أشار الى هذهِ النقطة هو الأستاذ عبد علي حسن في دراسته للمرأة في الحلم العظيم في جريدة طريق الشعب، وما أقترحهُ كان هو كبد الحقيقة. ولا يمكن اعتبار المناضل في رواية الحلم العظيم، مسؤولاً عن تصرفات الآخرين حتى لو كانوا يمتون له بصلة قرابة، بل المناضل يعلم جيداً، ما تفعلهُ البيئة وما يتركهُ الظرف من عوامل تغيير، سواءً على مستوى الإيجاب أم السلب، لذا، لم يكن المناضل هو المقصود ادانته من خلال تلك العلاقة غير السليمة بين السارد وبين المرأة، انما المعني بالأدانة هو الظرف الموضوعي، الذي يمثل الحالتين السياسية والأجتماعية آنذاك بكل وضوح.
س10/ لقد أنتهيت روايتك (الحلم العظيم) الى خيبة قوى اليسار وتشظت شخصية البطل (مؤلف القصص) بين الألتجاء الى اليسار وبين القوى القومية في نهاية الرواية، ما تفسيركم لهذا التوزع ؟
الجواب / بحكم تجربتي في الكتابة الأبداعية (قصة ورواية) لم أعد ميالاً الى أصدار أحكام نهائية بشأن أية مسألة سياسية أم ادبية. ذلك لأن الكثير من الأحكام ما تلبث أن تتغير، كعبارتك ((خيبة قوى اليسار)) أنها من العبارات الرنانة، ومن هذهِ الزاوية جرت محاولات للنيل من الرواية وهذا أمرٌ لا يثير عجبي، أذ هو حال كل عمل روائي متميز، لن أكتمكَ سراً، أن الرواية كتبت من أجل المساهمة في كتابة جزء من تاريخ الحركة الوطنية التقدمية وهو أمر يخص المؤلف كما يخص المرحلة. ويعتقد كل مؤلف أنه أستوعب مرحلته أو زمن روايته، وبما أني أحد شهود تلك المرحلة فقد كنتُ وما أزال أرى أن ثمة تداخلاً بين قوى اليسار وبين القوى القومية التي تمثلها الثورة الفلسطينية خير تمثيل، وهو ما حاول أن يفعله (مؤلف القصص) السارد،أقصد في مرحلة الستينيات من القرن الماضي، حيث كان الظرف العام يميل ليس في العراق فحسب بل في الوطن العربي الى مؤازرة الثورة الفلسطينية والأخذ بيدها بل كان ثمة حوار دائم بين فصائل اليسار العربي في عموم الوطن العربي وكان الجميع يعلم مدى خطورة الهجمة الرجعية في تلك السنوات. ولعل الكثير من اليسارين، بل قل الشيوعيين الذين التحقوا بالثورة الفلسطينية، ألم يستشهد الأديب والرسام الشيوعي أبراهيم زاير في صفوف الثورة الفلسطينية ؟ الم يلتحق شاعرنا الكبير مظفر النواب بها؟ ألم ينتسب اليها الشاعر الكبير سعدي يوسف، لقد كانت الثورة الفلسطينية ملجأ ومأوى قوى اليسار العربي وليس العراقي فحسب، ولقد أفردت الثورة الفلسطينية مكانة خاصة للمناضلين الشيوعيين العراقيين، ودعني أذكرك بالذي حدث بعد تهديم الجبهة الوطنية وملاحقة الشيوعيين العراقيين من قبل النظام، الى أين لجا الشيوعيين العراقيين، اليس الى الثورة الفلسطينية أذن، لماذا (زعل) أنتقد البعض من الزملاء نهاية الرواية ؟ اذا كانت النتيجة على أرض الواقع تشير الى ذات المحصلة في الأخير، أليس الأبداع هو ضرورة واقعية وأنسانية لعذاباتنا وأختياراتنا ؟ أن الأشارة الأخيرة في الرواية لا تعني الا الأستمرار في البحث عن طريق الخلاص من المحنة التي عاشتها الحركة الوطنية وقوى اليسار منها، والشيوعيين العراقيين في القلب من تلك الحركة، ودعني لا أغالي لو قلتُ ولأنهم ليسوا في السلطة اليوم ارى من الصعب على الآخرين تأويل كلامي هذا لأن علاقتي بهم سوف تبقى علاقة في منتهى الشفافية،وبطبيعتي أنا كاتب مستقلٌ زاهد في كل الوجاهات الاجتماعية ومن هذا سوف تجد ثمة مصداقية في كلامي، أن ما كتبتهُ من روايات وقصص يكشف عن عدم رضاي وعدم قناعتي في الانظمة الفاسدة التي أضطهدت الشيوعيين عن دراية وتصميم، من هنا أعتقد أن من الشرف لنا ككتاب وأدباء مستقلين أن نكون معهم، أي مع قلب اليسار العراقي. أذ أنني أتحدث عن حزب لم يرفع السلاح في أي يوم ليستولي على السلطة بالبلطة أو بالسيف ولم تلطخ أيديهم بدماء الاخرين (أقصد الشيوعيين العراقيين) وهيئات النزاهة تشهد لهم بذلك ولستُ وحدي من يقر بهذا الأمر ويراه بوضوح. والميل اليهم ولو على المستوى العاطفي والأجتماعي هو ديدن المبدعين الاحرار الذين تهمهم قضية البراءة والنزاهة والأخلاص لشرف الكتابة، وهي صفات اتصف بها الشيوعيين العراقيين، ودعني هنا، أنتهزها فرصة مناسبة لكي أحييهم وأحي نضالهم المستمر لأن كاتباً ومبدعاً يدركُ ما تعيشه المرحلة الآن، لا يليق بهِ أن يدير ظهره لوعي الضرورة الذي يمثلهُ زمليه المثقف الشيوعي.