حسين سرمك حسن: لؤي حمزة عباس ، إغماض العينين المميت، دراسة أسلوبية (8)

( بلى ، في هذه الزاوية من التاريخ ، شموع من الدم لا تريد أن تنطفيء )
                                                                                    ( أدونيس )
في قصة ” زهرة منفردة دقيقة الأوراق ” يقلب لؤي المحنة على وجه آخر من وجوهها البشعة التي صبغها الموت بالسواد ، وجه يحكيه بضمير المتكلم ويتسيّد فيه الفعل ” رأى ” . وهذه سمة أسلوبية ليست عفوية ، لأنك لو راجعت أغلب نصوص لؤي لوجدت أن هناك وصفا لغويا مباشرا أو غير مباشر هو الذي يسيطر على نصوص المجموعة كلها من ناحية ، وفعلا محددا يتكرر في النص ويهيمن على بنيته من ناحية ثانية . وفي هذه المجموعة يتسيد وصف ” إغماض العينين ” على أغلب النصوص :
– قصة ” قطرة دم لاكتشاف الجسد ” : – ” يفتح عينيه في اللحظة التي يغلق الآخرون فيها عيونهم – ص 17 ” .
                                                – ” يُغمض عينيه ويتراجع على منشفة القدم ثم يستدير ويفتح عينيه – ص 18 ”                                                                   
                                               – ” إذا كانت مرآة الممر الطويلة بمواجهته حينما تراجع مغمض العينين ثم استدار ، فإن وراءه ، أبدا ، مرآة السقوط بحلمها الصامت الذي لا ينتهي – ص 22 ” .
                                              – ” كلما أغمض عينيه يشاهد وجه المرأة يقترب وبريق عينيها يشع – ص 24 ” .
                                               – ” وقعت عيناه على العباءة مرمية على أرض الغرفة الضيقة . كانت خالته مغمضة العينين تزحف بظهرها على العباءة – ص 27  ” 
كما تكرر فيها الفعل ” رأى ” ومشتقاته ومرادفاته أكثر من ( 45 ) مرّة وسنحاول استكشاف الدوافع النفسية التي تقف وراء هذا التكرار لاحقا .
– قصة ” قرب المدرسة الانكليزية ” : – حاول أن يمرر يديه ثم دفع برأسه مغمض العينين عبر الفتحة .. حينما فتح عينيه – ص 33 ”
– قصة ” إغماض العينين : – ” ليخفف من سرعته ويغمض عينيه تاركا العالم ينسحب من على جانبيه – ص 35 ”
                              – ” متحسسا عذوبة اللحظة التي أغمض فيها عينيه – ص 35 ” .

                               – ” في المرات القليلة التي شاركهم فيها لم يمنع رغبته في إغماض عينيه – ص 36 ” .

                               – ” أحدهما وضع يده على كتف رجل معصوب العينين …. أطلق ثلاث رصاصات على رأس الرجل معصوب العينين – ص 37 ” .

                               – ” في عودته أغمض  قاطع التذاكر عينيه ….. في إغماضته كانت اليد ترتد مع كل إطلاقة – ص 38 ”
– قصة ” عينا رجل المترو ” : – ” يغمض عينيه ولا يرى غير وجوههم تترصد من فتحة ضيقة حركة الناس في الممر – ص 45 ” .
– قصة ” الباب الشرقي ” : – ” أغمض عينيه تحت شعوره أن ظلا يقاسمه الغرفة ثم فتحهما – ص 63 ” .
– قصة ” غسل الوجه ” : ” أغمض عينيه في لحظة نوم خاطف ، ثم فتحهما – ص 66 ” .
– قصة ” بطاقة بريد لأموات المعقل ” : – ” أغمض عيني لحظة يتعبها المشي فتتثاقل خطوتها وتغوص قدماها – ص 90 ”
– قصة ” لا زيارات للغرباء ” : – ” تستلقي على سريرها الحديد وتغمض عينيها وتموت – ص 96 ” .
وفي القصص الباقية التي لم يذكر فيها وصف إغماض العينين ، نجد أن أغلبها يقوم على فعل فتح العينين ، وبالتأكيد من حالة إغماض سابقة ( قصة ألق ما في فمك ) ، أو كحركة نهائية في الموت ( قصة علي الأحمر ورجل كثير الأسفار ) أو كوضع نفسي شامل متضمن في يقظة شاملة ودائمة ومؤرقة على حقيقة الموت أو الغربة والاغتراب ( والرحيل يعني قليلا من الموت حسب القول المأثور ) كما في قصص : عشق الحدائق المنزلية ولا زيارات للغرباء وطائر من معدن . 
أما في قصتنا هذه ” زهرة منفردة دقيقة الأوراق ” فإن إغماض العينين يتكرر بصورتين مختلفتين : – ” مازالت الطعنات مثل عيون صغيرة مغمضة – ص 53 ”

                                            
  – ” فاكتفيت بأن أغمض عيني وأتنفس
رائحته – ص 54 ” .
وفي كلتا الحالتين لا يمكن فهم دلالات إغماض العينين السياقية إلى من خلال الارتباط بالفعل ” أرى ” بمعانيه النفسية المثقلة بالإسقاطات اللاشعورية . وفي نص قصير من صفحتين ونصف فقط ومن القطع المتوسط ، يتكرر الفعل ” أرى ” بصيغته المباشرة وخارج الأفعال المرادفة له (17) مرّة . ولؤي من أصحاب اللغة العالية والخزين اللغوي الكبير الذي يتيح له استخدام أفعال أخرى غير الفعل ” رأى ” أو أفعال مرادفة له بسهولة ، لكنه مسوق إلى هذا الموقف بفعل ” الحتمية النصية اللاشعورية ” إذا جاز لنا القول ، وهذه ” حتمية ” يفرضها تفاعل مكنونات لاشعور المبدع مع موضوعته المركزية في النص وهي هنا الموت أيضا . وفي الخمسة أسطر الختامية يكرر القاص الفعل خمس مرات أي بمعدل مرة لكل سطر !! :                 ( لما رأيت باب الخشب مواربا شعرت أن شيئا وقع ، حتى إذا خطوت إلى الغرفة رأيت قدميك حافيتين من تحت السرير ، ورأيت المنضدة فرب الجدار ، أذكر أني سحبتها إلى الجانب ، قلت لك اصعد فصعدت ، ثم سألتك إن كنت ترى أحدا ، لكنك الآن نائم ، قدماك حافيتان . في نهار لاحق أمر قريبا من سينما الكرنك ولا أرى اللافتة ، أواصل السير منصتا لنقر خطواتي على الإسفلت – ص 55 ) .                  وفي هذا النص تمثل وبصورة صارخة واحدة من أهم السمات الأسلوبية لمنهج لؤي السردي تميزه عن كتاب القصة قاطبة . هذه السمة تتمثل في ما يمكن أن أصفه بـ ” العودة اللولبية ” إلى العبارات ، أي أنه يعود إلى جملة أو عبارة أو فقرة ( تتضمن بطبيعة الحال صورة أو فكرة أو ثيمة .. ) من موقع أعلى يطورها ويصقلها ويغنيها فكريا ويشحنها نفسيا . هو يعصر الحصيلة اللغوية حتى يقطر ثمالتها التي يُسكر بها اللحظة السردية . يقول بودلير الملعون : ” علينا أن نشرب الخمرة بالطريقة نفسها التي عُصر بها العنب ليصبح خمرا ” . وفي الكثير من قصص لؤي تجد إعادة توظيف لفقرات سابقة يلهب وقعها السياق الجديد الذي توضع فيه من جانب أو أن الشوط السردي وتحولاته التي أنجزت حتى الآن قد أقامت ذروة نفسية جديدة – للخيبة أساسا – تتربع عليها معاني المقطع السابق . يستهل القاص قصته هذه بالقول :                                                         ( قريبا من سينما الكرنك ، على الحائط المنخفض ، مازلت أرى اللافتة ، تخطف من أمامها السيارات فتنعكس حروفها على زجاج النوافذ وأبدان المعدن النظيف – ص 53 ) . وهي لحظة ” رؤية ” متعادلة ، لا تشي سوى بلوعة بسيطة مكتومة يفصح عنها بتردد الفعل “مازلت” الذي يعكس المثابرة المتطاولة ، وإيحاءات اللافتة التي ،
وقد نشر الموت خيمته على سماء المجموعة حتى الآن ، ترتبط بالفقدان ؛ اللافتة التي وضعها القاص على حائط منخفض يجاور موقعا لحركة الحياة الزائلة وهو السينما ( الحياة فيلم طويل !! ) . ويختتم القاص نصه بالقول :                                                                             ( في نهار لاحق ، أمرّ قريبا من سينما الكرنك ولا أرى اللافتة ، أواصل السير منصتا لنقر خطواتي على الإسفلت – ص 55 ) .                                              وهي أشارة متعادلة أيضا غير أن شيئا من الإحساس المستتر بالخواء يوحي به الإنشغال بالذات بعد أن لم ير الراوي اللافتة . لكن كيف وصلنا – أو عدنا – إلى لحظة عدم ” رؤية ” اللافتة ؟ لقد وصلناها بعد رحلة خسارة دامية وفاجعة تجعل لهذه العبارة المتعادلة معان شديدة الأذى الآن . فقد اتضح معنى اللافتة الآن ليس كعنوان رثاء ولكن كتفصيلات للكيفية التي يحاصر فيها الإنسان من قبل القتلة الأوغاد – والقاص يجعلك بتخطيط محكم تلعن كل القتلة الأوغاد بغض النظر عن أي تبرير وغطاء ، تلعن وكلاء الموت في أي مكان وزمان وهذا هو ما يمنح الأدب بعده الكوني – ومجيء الفقدان كحلقة منسابة تعلن عجز الراوي وانخذاله الجريح . فبعد الاستهلال مباشرة ينكشف معنى اللافتة عبر مداور غير مباشرة هي دائما من اختصاصات لؤي المقتدر الذي نفض يديه من دور السارد الكلاسيكي المفسّر منذ بداية اشتغاله في ساحة الإبداع ، مداورة يجعلنا ” نرى ” عن طريقها ما مكتوب على اللافتة بتداعي الإيحاء الحلمي ( وهو عرض سينمائي لمكبوتات اللاشعور  إذا آمنا – ونحن مؤمنون – بأن مكونات المدخل السردي – كما قلنا سابقا – تحدد مضامين واتجاهات المسارات الحكائية اللاحقة ) :                                                                                              ( في الحلم أرى كل شيء : الحربة ، والطعنات وجسد الرجل كما رأيته مصورا في الجريدة . أكاد أعتذر له وأنا أدخل حاملا رسالة من صديق بعيد ، فأعرف ، في غلالة الموت أنه لم يمت ، وأن يده تمحو الحربة والطعنات وهي تشد كعادتها على يدي . يقلب الظرف متلمسا الطابع المكرّر ، ثم يرفع يده ليغطي ، بأصابع معروقة ، ابتسامته – 53 ) .                                                                                        ومن عادة الحلم أن يكون منفذا لإشباع رغبة تلوب في لاشعور الحالم . وها هو الراوي الحالم يعيد صاحبه القتيل إلى الحياة . ليس ذلك فحسب بل يمنحه قوة خارقة على محو الطعنات التي أهلكته ، ويواصل ممارسة حياته اليومية فيتسلم من الراوي رسالة حملها إليه وجاءته من صديق بعيد . يأتي ذلك رغم أنه يستعيد في البداية صورة جسد الرجل المسجى التي نشرت في الجريدة ، وكأن الحلم ” يخلق ” كائنه

من ” تراب ” الجريدة . ويمكن أن نصف هذه الحركة الحلمية بأنها جرعة تمهيدية لتخفيف مناعاتنا النفسية ، من خلال زرع الإحساس بموت الرجل رغم محاولة إعادة إحيائه . ثم تبدأ الرحلة ” التجزيئية ” ، تجزئة ملامح اللوحة إلى مكوناتها الفردية التي تنشر المسارات على بنيتها الشبكية . فعل لؤي في مسعاه التجزيئي هذا – وهذه سمة جديدة أساسية – يجعل الجهد القرائي يشبه محاولة تركيب أجزاء أحجية الصورة المقطعة :                                                                                              – مشهد جزئي رقم (1) :
يعود الراوي فورا إلى أرض الواقع من الحلم فيستذكر لقاءه بالرجل القتيل فلا يتذكر من أحاديثهما غير ماله صلة بالخراب ممثلا بـ ” كريكور سامسا ” بطل ” مسخ ” كافكا الذي استيقظ صباحا ليجد نفسه وقد انمسخ إلى حشرة تافهة . وهذه اللمحة تمعن في تأصيل سطوة اللاجدوى والإغتراب .
– مشهد جزئي رقم (2) :
ذكرى عن محاصرة الرجل المجهد بطعنات الحربة – التي مسحتها الكف في الحلم – في جسده والتي تشبه ( عيون صغيرة مغمضة أو لأفواه ملمومة ) وهو وصف استثنائي يسحب الطعنة إلى الداخل بعد أن اعتدنا على الوصف التقليدي للطعنات وكأنها عيون كبيرة مفتوحة أو أفواه مفغورة . والرجل المحاصر ينظر من النافذة لير قاتليه فيلاحظ وجود الشاب الراصد على الدراجة من شديد . وخلال ذلك يجلس الراوي قرب قدمي الرجل الحافيتين .
– مشهد جزئي رقم (3) :
ينتقل الراوي ليتحدث عن رحلة ليلية على قدميه مشى فيها طويلا منذ الظهيرة . غادر غرفته وكان صغيره نائما ( فاكتفى بأن يُغمض عينيه ويتنفس رائحته ) . إنه يستنشق رائحة الحياة المفعمة بسكينة الطفولة مقابل رائحة الموت اللاذعة التي ستكتم أنفاسنا بعد قليل . تنتهي رحلته عند بناية بريد البصرة وقد بدأت ساقاه تؤلمانه . يسلم الرسالة للرجل الذي يلمس الطابع المكرر كما في الحلم الذي يتأسس عادة على بقية من النهار السابق . على الطابع صورة ( زهرة منفردة دقيقة الأوراق – وهي جملة العنوان ) . وفي إشارة الرجل إلى أن من بين الألوان النادرة لهذه الزهرة ؛ زهرة التوليب ، فصيلة ذات لون أسود . وهي حلقة فيها مسحة إحالة بسيطة إلى سواد
اللافتة المضمر السابق واللاحق ولسواد الأسى المهيمن عل أجواء الحكاية .
– مشهد جزئي رقم (4) :
بعد أن يسأل الرجل الراوي عن المطر ويجيبه بأنه كان يمشي تحته ولم يشعر به ، يبدأ بالتداعي من لحظة ( وقوفه قرب سينما الكرنك ، بجانب الحائط المنخفض ) وهو ما استهل به القصة مع تغيير مهم الآن وهو أنه كان يرى اللافتة تخطف من أمامها السيارات فتنعكس حروفها على زجاج النوافذ . ، في حين أنه – الآن – ينتظر مرور سيارة أو أن يعبر أحد على دراجة . أي أن هذه الحركة هي الحركة الإبتدائية التي جلب فيها الرسالة للرجل المحاصر . فكر آنذاك بـ ” أننا نحيا ، أيضا ، في الصورة والمرايا والزجاج الشفيف ) ، مثلما ” تحيا ” اللافتة وتنعكس سريعا على زجاج نوافذ السيارات . وفكر أيضا في صاحبه المهدد الذي ينتظره الآن كاسرا مسار زمن فعله الماضي محولا إياه من الماضي إلى الحاضر الذي يشي أيضا – ومن خلال السياق – بالمستقبل : ( فكرت في .. أنك تنتظر ، وأن أمامي مسافة أعبر فيها جسورا وأمر بأشجار وبنايات ) . ومن هنا تبدأ الوقائع بالتداخل حيث يدخل الراوي البيت ( تضرب السلسلة القصيرة المدلاة صفحة باب الحديد ) خلفه وكأنها حركة ناقوسية منذرة بأمر جسيم ( رأيت باب الخشب مواربا ، شعرت أن شيئا وقع ) . وهنا عودة إلى الفقرة السردية التي يسحب فيها المنضدة ليصعد عليها الرجل المجهد بطعناته ، وبقدميه الحافيتين اللتين ستكونان الآن علامة على الخراب النهائي : ( حتى إذا خطوت إلى الغرفة رأيت قدميك حافيتين من تحت السرير ، ورأيت المنضدة قرب الجدار ، أذكر أنني سحبتها إلى الجانب . قلت لك : اصعد ، فصعدت ، ثم سألتك إن كنت ترى أحدا ، لكنك نائم – وهنا يعيدك لتقارن بنوم الصغير الآمن ، الناقد – الآن ، قدماك حافيتان ) . وبتداخل الأزمان المربك ، بين ماضي الواقع ، واقع الفقد ، وحاضر الرغبة ومستقبلها الإستعادي ، عند هذه الذروة الدرامية السوداء تصبح عودة القاص إلى ختام قصيدته بتحوير الاستهلال الذي بدأ به ضارية المعنى والتأثير : ( في نهار لاحق أمر قريبا من سينما الكرنك ولا أرى اللافتة . أواصل السير منصتا لنقر خطواتي على الإسفلت ) .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *