(5)
( أن تقتل أو لا تقتل ، تلك هي المسألة الحقيقية ، لا الإيمان أو الإلحاد ، لا الشرق أو الغرب ، لا الشمال أو الجنوب . فالمشكلة الحقيقية هي هذه : هل لنا الحق في أن نقتل إنسانا ؟ )
( جوزيف كونراد )
في قصة ( إغماض العينين ) والتي حملت المجموعة عنوانها ، يأتي الاستهلال – وهي من المرات القليلة – وصفيا متعادلا لموظف المركز الصحي الذي بلا اسم ، وهذه سمة أسلوبية أخرى حيث أن الغالبية المطلقة من شخوص قصص لؤي لا يحملون اسما في النص . فمن بين سبع عشرة قصة في هذه المجموعة مثلا هناك قصة واحدة يحدد فيها الكاتب اسما لبطله وهي ” علي الأحمر ” التي تحمل اسم بطلها . وأعتقد أن القاص يقوم بذلك متعمدا لأن من اليسير عليه أن يخصص الأسماء لأن أغلب قصصه تسرد بضمير الغائب ، في حين أن صعوبات التسمية تقع عند استخدام ضمير الأنا لأن الحضور السردي المباشر والمطابق للشخصية يغني عن التسمية . فالشخص الأول هو في الواقع اسم مضمر في تاء الفاعل . ولكن لأن المسافة النفسية بين المتلقي والشخص الغائب واسعة فإن عدم حصر وجوده باسم معين يرفع – من وجهة نظري – من فرص التماهي بينهما . فالراوي في هذه المواضع ينفصل تماما عن المروي عنه ، في حين نقف نحن المتلقين على خط المراقبة لا يهمنا كثيرا الراوي بقدر ملاحقتنا لأحوال المروي عنه – الغائب كما يُسمى في حين أنه تام الحضور في السرد ، بل بالعكس إن قوة حضوره تفوق قوة حضور الضمير الأول على خشبة النص ، حيث يحصل نوع من الاندغام القرائي (الآلي ) بين القاريء الذي يقرأ بضميره الشخصي وضمير المتكلم السارد ، في حين أن انفصال ضمير الغائب قرائيا وفعليا يجعل المسافة أكبر ، مسافة نراقب عبرها حركته ونرصد تحولاتها بدقة . فعندما يقول السارد : ” عدتُ ” أو ” أعود ” ، فإن مجاورة قريبة جدا تحكم الفعل بحيث أن الوجود المادي المستقل للفاعل تضعف حدوده أمام حضور أنا المتلقي وكأننا أمام بؤرة داخلية ، في حين أنه – أي السارد – عندما يقول : ” عاد ” أو ” يعود ” فإنه يوجه أنظار القاريء إلى بؤرة خارجية ، إلى مساحة مستقلة يتمظهر عليها فعل “الغائب” . في ضمير المتكلم تكون العين المراقبة ممتدة من الأنا إلى الأنا ، أما في ضمير الغائب فإن عين القاريء تمتد من الأنا إلى ” الآخر ” ؛ آخر نلاحق حركته ونقيم أبعادها كما يحصل الآن للموظف قاطع التذاكر في المركز الصحي الذي : ( ظل مصرّا على ركوب الدراجة ، يسير إلى جانب الرصيف منتظرا أن يخلو الشارع من السيارات ليخفف من سرعته ، ويغمض عينيه تاركا العالم ينسحب من على جانبيه من دون أن يراه . لم يكن ذلك يتحقق على نحو دائم ففي مثل هذا الوقت يكون الشارع في ذروة ازدحامه ، لكنه في حال تحققه يمنحه شعورا نادرا بالسعادة يمتد طوال النهار – ص 35 ) . إنها لعبة طفلية أصلا ، كنا نقوم بها كثيرا في أيام طفولتنا ، فيها مزيج من التوتر اللذيذ والشعور بالخفة والأحاسيس الجنسية . هي حالة من الإحساس الطاغي بنشوة بالجسد الذاتي ، الجسد في انغلاق دائرته الحسّية الشبقية والتي تصل درجتها القصوى في شهقة البدن الطوفانية المقلقة عند الانحدار على سكة الموت في مدينة الملاهي . ولكن صاحبنا موظف راشد يرتد إلى ممارسات مبكرة بفعل الحاجة إلى اللعب أولا ،حاجة يفرضها الطفل – الهو الرابض في أعماقنا ويبحث عن اللذة أبدا ، وهي هنا لذة تضعه على حافة الكينونة الرحمية المستكينة ببهاء اكتفائها الباذخ وبرزخها الذي يصل بين ” الظلمة الرمادية المحببة ، ظلمة يشوبها ضوء مضبب بعيد ، لم يدرك إن كانت سعادته في الظلمة التي يتحرك في دواخلها ، أو في الضوء الذي لا يكاد يميّز مصدره – ص 35 ) . لكن هذا الشكل من الاستثارة الحسّية الذاتية يشيع كوسيلة إشباع بين الأشخاص من ذوي العوالم الداخلية ، أولئك المستغرقين في عوالمهم الدفينة ، من نسميهم بذوي ” الشخصيات الإنطوائية – introvert ” . هؤلاء يجدون سعادتهم في ظلمة الباطن الرمادية المحببة ، في ” إغماض العينين ” الذي كان يوفر له الإحساس بانسحاب المواضيع من حوله بالسهولة التي ينسحب فيها العالم من على جانبيه كل صباح . كان ” إغماض العينين ” يحصل لديه حتى وهو وسط زملائه من موظفي المركز فيداري خجله حين يستيقظ بالقول أنه لم يستطع النوم ليلة البارحة . لكن خراب عالمه الداخلي المكتفي بذاته جاء على أيدي القتلة أيضا . فقد حاول النظر عبر سياج المركز إلى الساحة الترابية ليراقب الأطفال وهم يلعبون الكرة ، لكنه لم ير أي طفل ، بل شاهد سيارة بيضاء تقف ويترجل منها ثلاثة رجال يدفعون رجلا معصوب العينين يقوم أحد الرجال بقتله بثلاث رصاصات يوجهها إلى رأسه . كانت الكوة الوحيدة التي يطل منه على العالم الخارجي هي اللحظات البسيطة التي يشاهد فيها لعب الأطفال ، وهذه قد أغلقت الآن إلى الأبد . أغلقت ممارسة الموت التي قام بها القتلة وباستهتار وهم يدخنون بهدوء دائرة عالمه تماما ، لكن ليس لكي يوغل في التلذذ بعالمه الباطني ، بظلمته الرمادية الرحمية المحببة ، وبتشوفه نحو ضوئه المضبب البعيد ، بل لتسدل ستارة كوابيس الموت والخراب الخانقة ، حيث لم يعد إغماض العينين مصدر تيار نشوة وتلذّذ يطفو به على صخب العالم ، بل غطاء صندوق ” باندورا ” المخيف الذي يفتح مع كل إغماضة ، فـ ( في إغماضته كانت اليد ترتد مع كل إطلاقة ، وكان الرأس ينتفض – ص 38 ) .
(6)
( الإنسان هو ذاك الحيوان الغريب . إنه قريب من الشيطان أو الوحش ، ولكنه في الآن نفسه غير بعيد لأن يكون إلها )
( هنري ميلر )
في قصة ” العدسة ” تعود سيارة الموت البيضاء لتقطع الطريق على أحد باصات نقل الركاب ، وينزل منها رجلان يقومان بإنزال أحد الركاب عنوة ويقتلانه بإطلاق الرصاص على رأسه وصدره : ( إطلاقات قيل عنها فيما بعد بأنها لا تصدر إلا عن محترف ، ولا تصيب إلا لتقتل . عضّ الراكب على أسنانه واعتصر ملامحه كما لو كان يتذوق طعما مرّا ؛ أكثر الطعوم مرارة في حياته ، وأصدر من أعلى حنجرته حشرجة غريبة قبل أن يسقط على أرض الكراج – ص 42 و 43 ) . وإذا كان القاص يصف عملية قتل الضحية ولفظها أنفاسها بهدوء ، فإنه يصف بهدوء أكبر ردود فعل الناس ، وحالة الجثة التي غطاها سائق الباص بالبطانية: ( بقيت الجثة ممددة وقد جفت بركة الدم الى جانبها ، كما أن حذاءها أخذ يبدو مع الوقت أكثر اتساخا كأنها تواصل المسير على طريق مترب ، ولاحظ الناس خلال حركتهم أن البطانية تشبعت بدم خفيف الإحمرار ، كأنه بقع شاي قدبم – ص 43 ) . لقد ماتت رهبة الموت في نفوس الناس ، وتبلدت أحاسيسهم ، وصاروا بإمكانهم أن يتحدثوا بطلاقة عن الواقعة . إن أفظع ما أصاب المجتمع العراقي عبر العقود الأخيرة ، وخصوصا بعد الإحتلال هو انخلاع الرهبة من الموت من نفس الإنسان . تلك الرهبة التي كانت السبب الأساس وراء نضج شخصية العراقي القديم ، هذا النضج الذي وضعه في قلب الخلق الحضاري ، ففي الوقت الذي كان فيه البشر – في جميع أصقاع الأرض – يُقادون إلى الموت مذعنين مسلمين ، ظهر عراقي يحتج بقوة ويتساءل : لماذا أموت ؟ محاولا إلغاء المسافة بين الأرض والسماء وبين الإنسان والله من خلا الحصول على الخلود . وهذا يعني أن الموت كان مشكلة بالنسبة للعراقي الأمر الذي يرتبط بقوة الشخصية . لكن الآن لم يعد الموت مشكلة ، صار ” عادة ” ، صار ” حدثا ” عاديا بعد أن كان حادث الحوادث وختامها . صار واقعة يومية بعد أن كان مأزقا وجوديا . صار عملا من أعمال الإنسان بعد أن كان وظيفة من وظائف الله . وهكذا ظلت الجثة ممددة ( والإشارة الذكية إلى تزايد اتساخ الحذاء كناية عن طول رحلة المهانة بعد الموت ) من الصباح حتى العصر ، ليأتي رجل خمسيني يقول بأن القتيل أصغر أخوته . لحظة الموت للضحية التي تلفظ أنفاسها وتخلص ن لكن مهانة ما بعد الموت لنا .. نحن الأحياء ، ولهذا ينتقل تركيز القاص إلى تفحص ردود أفعالنا من خلال سائق الباص الذي كان يشرب الشاي بهدوء ، وشقيق القتيل الذي يصفه القاص بأنه ( رجل خمسيني بشعر أبيض ولحية نابتة ونظارة ذات إطار أسود ثخين ، عدستها اليسرى مكسورة كسرا طوليا – ص 43 ) ، وكأنه كان في حالة حداد استباقي على أخيه الأصغر سنجد ما يؤكده في ختام القصة من ناحية ، كما أن العدسة المكسورة كثيرا ما تكون شارة بؤس وتشيع بين المسحوقين من أفراد الطبقات الشعبية من ناحية ثانية . وحين يحمل الرجل وسائق الباص الجثة ويلقيانها في حوض سيارة الحمل يسمع السائق الأخ يقول بصوت خفيض أنه يتمنى أن يكون أخوه قد ارتاح الآن لأنه كان يعدّ أيامه منذ أكثر من عام !! . هكذا يصبح الموت خلاص وطريق الراحة الوحيدة وليس إحدى الراحتين كما يرى المعري ، ولا تلفت نظر السائق سوى عدسة الرجل المكسورة طوليا ، فهو يعتقد أنها تجعله يرى العالم نصفين !! .
(7)
( ملوّحين بأسلحتنا الحمراء فوق رؤوسنا
لنصرخ جميعا : سلام .. حرية .. تحرّر )
( شكسبير )
( يوليوس قيصر )
في قصة ( عينا رجل المترو ) ينتقل القاص إلى معالجة مظهر خطير آخر من مظاهر المحنة ويتمثل في ظاهرة التهديدات ( ظرف فيه إطلاقة وورقت تهديد تأمر المواطن بمغادرة المنطقة السكنية ) :( يكاد يعرف أنهم من فعلوها بوجوههم الطولية وقذارات حياتهم ، وحدهم يمكن أن يضعوا الإطلاقة في الظرف ثم يدسوا الورقة المطبوعة مؤكدين بأنهم يراقبونه في كل وقت ، وأن الرصاصة المقبلة ، لابد ، ستكون في رأسه . يغمض عينيه ولا يرى غير وجوههم تترصّد من فتحة ضيقة حركة الناس في الممر – ص 45 ) .هكذا حطمت حياته الأسرية والشخصية يد امتدت لتلقي ورقة التهديد المصحوبة بالإطلاقة التي تحول التهديد من مستوى إلى آخر . فلا يأخذ الفرد المهدد عادة ” كلمات ” الوعيد على الورقة بنفس القدر الذي يأخذ به وجود الإطلاقة ” المادية ” المصاحبة . هناك تكون اللغة – الكتابة موازية للموت ، وهنا يحضر الموت متكثفا في أداته . تدفع مفردات التهديد الفرد إلى ” تصور ” حوار مع احتمالات الخطاب المفتوحة ، لكن الإطلاقة الصامتة لا تتيح سوى احتمال واحد وأخير فلها ملمس الموت وليس أوصافه المجردة ، وهذا ما يعبر عنه القاص حين يصف استجابة الرجل عندما عثر على رسالة الإنذار القاتل ، فهو لم يكمل قراءة الورقة : ( كانت الإطلاقة قد هيمنت عليه مثلما شغلته الكلمة المكررة على واجهة الشقة . لم يفكر بنفسه عندئذ ، لم يفكر بطفليه أو زوجته ، كان أحد ما يحدثه بأن جميع من قُتلوا عاشوا اللحظة بتفاصيلها حتى لو لم تكن ثمة أشياء كهذه .. كان للموت في تصوره لون هو لون هذه الكلمة على الواجهة ، وصوت هو صوت الورقة الذي لم يستمع إليه ، وملمس هو كلمس الإطلاقة المشبعة ببرودة الصباح – ص 46 و 47 ) . ورغم كل التوصيفات الشعرية التي تريد تهويل فعل الكلمة والورقة ، إلا أن تأثيرها يبقى ملطّفا قياسا إلى الرصاصة الباردة برودة وجه المثكل . وحين يستهل القاص قصته بوصف الحال المزري للرجل الذي ترك بيته الحميم وصار يتنقل من بيت لبيت أرقا حدّ أن يقع مغشيا عليه من أول الليل إلى أول النهار ، فإنه – أي القاص – يقوم بمضاعفة عذاباته ومن ثم تعاطفنا الذي سيترتب عليها من خلال عرض الخسارة الجسيمة التي سببها تهديد الأوغاد له . فقد جعلوا الرجل يخسر حياة أسرية دافئة كان يعيشها مع زوجته وطفليه . ودائما – وهذه سمة أسلوبية مضافة لدى القاص – عبر اللمسات الإحيائية التي يبث فيها الحياة في ما هو جامد .. في ما هو ” ميت ” مع وقف التنفيذ ، في الكرسي .. في الناظور .. في المصعد .. في المعطف .. وفي صورة طفلي الرجل الفوتوغرافية المعلقة على الحائط ، وهما ( يلتفتان لينظرا إلى نقطة في ركن الغرفة فيبدوان أصغر مما هما عليه الآن .. كانا يلهوان أمام الشقة في الصباح الذي اكتشف التهديد فيه – ص 45 ) . هذه المزاوجة بين الحميمية والإلفة والإحساس بالانتماء ، وبين التمزق والوحدة والإنهجار يقطع قلوبنا ويشعل لعناتنا على القتلة المتوحشّين . ودائما أيضا يعمد لؤي إلى إشعال تفاعلنا مع شخوصه والكيفية التي تسحق بها حيواتهم أقدام قاسية متجبرة من خلال خلق ” واقع مواز ” مناقض يصعد مرارة الخسارة والإحباط والهوان . وفي الغالب يُخلق هذا الواقع المقارن من خلال اللعب على المعاني الرمزية للموجودات أو تحميلها لها ، موجودات تحيط بالإنسان ولا تنهض قيمتها التي علاها صدأ الرتابة والإعتياد إلا في أوقات الفقدانات الناجزة أو الوشيكة العزيزة كما حصل ذلك مع معطف حيدر أو ربطتي العنق مثلا في قصة ” الباب الشرقي ” . وهنا تشكل النبتة التي جلبها الرجل / الأب قبل أيام من التهديد مركزا موازيا تلتم حوله دلالات كثيرة وكبيرة تغني عن سرد فائض من جانب وتثري حالة الإحتدام النفسي وتصعّد قسوتها من جانب آخر . فشكل أوراق النبتة يشبه القلوب الملمومة من الأسفل والمشطورة من الأعلى ولها عروق . وكان الرجل وهو يحملها يسمع أوراقها تنبض كلما صعد درجة من درجات السلم . إنها كائن حي يضاف إلى العائلة الوادعة . لكن الأكثر وقعا في معاني النبتة الرمزية هو أن اسمها ” بيت الغريب ” . ها هي زوجته تقرب فمها من أذنه لتهمس بأنه بأنه اشترى هذه النبتة من أحل اسمها فقط . وها هو يقرأ اسمه كاملا على ورقة التهديد . هنا يتجلى جانب من الإعجاز القصصي لهذا المبدع . فالحياة كلها حكاية ، وكل مكوناتها تشتغل فيها وتلعب أدوارها وتسرد حكاياتها الجزئية التي تلتحم لتعطي الصورة الكلية للحكاية النهائية . ومن أخطر السقطات التي يقع غيها الكثير من القصاصين هي حين ” يتدخلون ” لـ ” يشرحوا ” أدوار ومعاني تلك المكونات . إن على القاص أن ” يحكي ” الحكايات التي يلتقطها وحسب ، ويبقى على القاريء مهمة أن يربط ويصل ويفسر ، وهي مهمة جسيمة وليست يسيرة . وقاريء لؤي ليس كأي قاريء ، إنه ” قرّاء ” ، والبون شاسع بين ” فاعل ” و ” فعّال ” . نخرج الآن من دائرة الواقع العائلي الموازي ، واقع البيت الذي دمّر هدأته الدافئة تهديد الأوغاد وجعل بيت الغريب غريبا فعليا ، لنخرج إلى واقع مواز أوسع وأكثر ثراء بالدلالات التي تجسم ملامح الخسارة العامة المضمرة . وهنا تبرز تقنية أسلوبية متواترة وتتمثل في سعي القاص إلى توسيع الصورة الجزئية التي يستهل بها حكايته ، وتوزيع ملامحها على مكونات واقع أعم وأشمل . ومن البيت إلى مساحة المعاني المكتنزة للمدينة الأوسع : البصرة ، وكل قصص المحنة تجري في البصرة ، ثغر عذاب العراق الناقم ، حيث يجلس الرجل بعد أن يمهد له القاص بجولة يرى فيها المكونات الأصيلة والمفعمة بالسمات الروحية للمدينة من بشر ونهر وصخب حياة ، مع صديقيه : (أحمد) و(علي) . يحدثهما الأخير عن صمت المدن وصوتها :( قال : هل تصدقان بأني لم أسمع البصرة تحدثني طوال سنواتي الخمسين ، سمعت صوتها هناك في أحد المساءات الباردة حين كنت متوجها بالمترو من فرانكفورت إلى دارمشتات ، لاحظت فور صعودي رجلا بين الركاب القليلين ينظر إلي … انحنى قليلا وسألني بصوت خفيض إن كنت من البصرة .. كلما استعدت صورته في ضوء العربة القوي بسحنته ، بعينيه الزرقاوين ، بلهجته تأكدت بأنه كلمة المدينة التي لم يسعني سماعها هنا – ص 47 و 48 ) . وهنا تيرز خاصية شديدة الفرادة في بناء قصة لؤي يمكن وصفها بـ ” التكوين الشبكي ” ، حيث تنتشر الدلالات من نقطة ( عقدة ) لتنطلق في مسارات متعددة يمكن أن تعود كلها لتلتقي في النقطة المركزية التي تكون عادة فكرة تنطوي على مضمون فلسفي أو وجودي . فعملية التهديد ليست موجهة إلى الوجود الشخصي للـرجل ” الغريب ” الذي سيصبح غريبا فعليا في مدينته بل لـ “كلمة المدينة” التي لم تُسمع سابقا وسوف لن تُسمع أبدا بعد ذلك . وارتباطا بفكرة المدينة هناك أولا مسار الحياة الأسرية التي أربكها تهديد القتلة ، ثم مسار النبتة ” بيت الغريب ” بإيحاءاتها الإستباقية ولؤي وهذه سمة ثابتة أيضا يربكنا دائما بحركة نفسية تشبه التخاطرات أو التوقعات الباراسيكولوجية ، ومسار الحركة اليومية الصاخبة بضجيجها المحبب الذي ينعش الوجدان ، مسار حكاية رجل المترو التي قصها عليهما ؛ على أحمد والرجل ، ومسار حكاية ” مدام ديولافوا ” في رحلتها المعروفة إلى البصرة بـ ” زفرتها ورثاثة أناسها ” كما يقول علي ، وأخيرا مسار رشقة الرصاص التي انطلقت ليمزق صداها حديثهم عن ” العالم الذي يبدو جديدا ” كما يقول القاص . وفوق الارتباط السردي الشبكي ، هناك شبكة من الارتباطات الإيحائية الماكرة بين كل فكرة والحدث ” العفوي ” الذي يليها أو يصاحبها وقد يسبقها أحيانا ، ليس أقلها الصلة بين كلمة المدينة التي لم يسمعها علي طوال خمسين عاما هنا وسمعها ” هناك ” ، وصوت رشقة الرصاص التي جعلت علي ينحني بصورة مباغتة ، وبين الرشقة نفسها وفكرة العالم الذي يبدو جديدا ، وبين فكرة مدام ديولافوا في كتابها المصفر المتآكل الأطراف وزفرة حكايتها ورثاثة أناسها والذي كان أحمد يحمله وبين رثاثة أناس المدينة الحاضرة بدشاديشهم المبقعة بالزيت ووجوههم غير الحليقة وزفرة الأمواج اللاذعة الدسمة ، وبين رحلة مدام ديولافوا التي يشكك في حقيقيتها علي ويعدها – كبقية الرحالة – تتحدث عن مدن غير حقيقية ، ورحلته هو إلى فرانكفورت حيث سمع ولأول مرة منذ خمسين عاما كلمة مدينته البصرة في مدينة أجنبية وعلى لسان رجل مترو عابر – متعب هو نص لؤي ، أليس كذلك ؟! – وكل هذا التكوين الشبكي المدوّخ يجمعه القاص – وهذه من سماته في فقرة واحدة هي هنا الفقرة الختامية من قصته حيث يقول : ( قبل ثلاثة أشهر حدث ذلك ، يتذكره الآن وهو يخطو في شقته ، بالصورة الجانبية لمدام ديولافوا على الغلاف ، وبعيني رجل المترو ، وبانحناءة علي المباغتة لحظة انطلاق الرصاص . عند عودته أوقف أحمد السيارة ونزلا ليستمعا لأصحاب الزوارق وهم يتحدثون حديثا متداخلا عن الرجل بسيارته البيكب ، عن صرخاته المتقطعة ، وعن البنادق التي أكلت وجهه ، على الحافة المصدوعة للرصيف رأى شظايا الزجاج ملوّثة وأحس الرائحة تظلل بكثافتها المكان – ص 48 و 49 ) .