عباس خلف علي: كونتيجين (1) بين النبوءة وقِراءة الواقع

ما كدت أنوي الحديث عن هذا الموضوع لولا العديد من التعليقات التي أثارها – كونتيجين – على تويتر والتواصل الاجتماعي التي تثير الشك والريبة حقا فأغلب الردود قد غاب عنها التحليل وتورطت في التطابق والتشابه بين ما حصل من أحداث في الشريط وبين الأعراض المتحققة على أرض الواقع إلى درجة أنها اتخذت من فكرة نظرية المؤامرة التي دائما ما تكون جاهزة لتسويغ التهم على قضية جوهرية وبنظرة سطحية باهتة ، وهو للأسف ماجبلنا عليه في حواراتنا وأحاديثنا الجانبية نردد كالببغاء ما نتلقفه من الأفواه أو ما نقرأه بسهولة وأقصد بها القراءة غير الثاقبة والمبصرة ، ومع كل ذلك نحن لا نريد هنا بالطبع ان نبرئ ساحة أحد ولكن ما نعتقد وببساطة ان جوهر الفيلم كان أبعد من الظن الذي تلبس البعض فمخرج الفيلم – سيفن سودربرج – تقني بامتياز في تركيب الصورة في مجمل أثاثها الايعازي والايحائي ومنها استخدامه البارع للألوان وعملية استنطاقها هي بمثابة إشارات تخفي مالم يُقّلْ في الشريط ، وهو مبني على قواعد اساسية يدركها المتابعون لأفلام هوليوود وهي المادة ، الشكل ، المنظومة ومن ذلك تنطلق لتحليل الصورة : فالجانب المادي للصورة يحمل الافكار المقترحة في سياق تشكيل ابعادها الحوارية مع المتلقي أي نوع من الشد والجذب وهو بدوره يستدعي اللون الأسود لكي يمثل شكل من اشكال الظل أو العتمة وبالمناسبة هذا اللون يلعب دورا حاسما في انتاج الاوهام البصرية وخلق الخيال وهو لون لون يكون بارزا في منظومة العرض المرئي اي تسمح هذه المنظومة ببناء ممر الى الوهم والكشف . وهذا يفسر لنا ان قصة الفيلم لا تقرأ من خلال الشريط وحده فقط بل يجب الانتباه الى ما وراء احداثها .
وحسب تقديراتنا المتواضعة وجدنا الشريط لا يختلف كثيرا عن بقية الأفلام التي تمحورت حول فكرة الفايروسات ومنها سارس وميرس وأنفلونزا الطيور والخنازير وإيبولا ( الحمى النزفية ) الذي انتشر في بلدان غربي افريقيا .وهذا الفيلم بالأصل مأخوذ عن قصة الكاتبة الامريكية -سكوت بورنس- وهي بالمناسبة لديها مجموعة محاضرات عن مآزق الحروب والصراعات الأهلية المشتعلة في مناطق عديدة من العالم وما تجرها من ويلات على الشعوب وكذلك الحروب البايلوجية أو مواضيع الاوبئة مثل وباء أنفلونزا الإسبانية في عام 1918 الذي راح ضحيته الملايين من البشر وتعتقد هذه الكاتبة ، إن هذه الحروب لا تبرأ من وسائل الخبث وعلينا اعادة النظر بمفهوم الحريات وسلبية التكنلوجيا العصرية والوضع الاقتصادي المتردي في العالم وقضية توزيع المياه لان أغلب هذه المواضيع هي في مأزق حقيقي .
إذن نعتقد أن ( كونتيجين ) لم يكن يتنبأ كما هو معروف وشائع عند أغلب الناس وانما هو التحذير من القادم بدل حالة الذعر والاضطراب الاجتماعي الذي عكسه الشريط السينمائي وكأن الواقع هو ذاته يحصل الآن وهذا مانراه حقا في براعة الشريط في التعبير عن سيرة السيدة بيث ايمهوف( غونيث بالترو ) عقب عودتها إلى امريكا من رحلة عمل في -هونك كونك- وتعرضها لنزلة برد كما كانت تظن أول الامر وبعد ذلك يتضح انها مصابة بفيروس مميت(كورونا/ كوفيد19) ثم يصاب ابنها كلارك بذات الأعراض تقيؤ وصعوبة التنفس وينجو الأب الذي يحجر وتثبت الفحوصات بعدئذ قوة جهاز مناعته ويعود لمنزله ولابنته –جوري- التي تشك إنها ورثت المناعة عن أبيها ، فضلا عن تفاصيل أخرى تتعلق بالطاهي الصيني الذي تناولت بيث- وجبة في مطعمه ليتضح فيما بعد هو مصاب أيضا بذات الفايروس لتعامله مع الخفاش وتوقعات – إرين ميرز- ضابطة مخابرات الأوبئة بأن هذا المرض قد يكون هجوما إرهابيا بالأسلحة البيولوجية فتقترح اغلاق مظاهر الحياة من الشارع والحجر داخل المنازل ، كل ذلك يحمل أوجه شبه بين ما يحدث اليوم وبين الفيلم ، وهذا صحيح تماما ، بينما التشخيص الدقيق هو أن الفيلم قام بتعرية الأنظمة التي تتبجح بقوة نظامها الصحي والعسكري والاقتصادي وإذا بها تقف عاجزة عن قراءة معطيات الواقع وكما قال- بيل جيتس- وهو صاحب شركة ميكروسوفت، أننا بحاجة لفك التباس المفاهيم التي درسناها عن القيم والمثل والأخلاق وإعادة النظر في الانفاق اللامحدود لترسانات الأسلحة النووية والجشع في نهب خيرات الشعوب بينما لم يستثمروا ما هو الأهم من أجل صحة الانسان ، بعدما ثبت للقاصي والداني ان الفيروسات هي الاقوى والاخطر من كل هذا الإنفاق الهائل التي هي بالأصل أموال منهوبة من الشعوب الفقيرة .
إذن باختصار شديد : لم يكن «كونتيجين» يتنبأ، لكنه يقرأ معطيات الواقع، ويستفيد من أحداث واقعية تحركها أنظمة متجبرة .

(1)كونتيجين: يعني العدوى وهو اسم الفيلم الامريكي الذي عرض لأول مرة في مهرجان فينيسيا السينمائي السادس والثمانين في ايطاليا 2011

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *