لم يعلم القاتل أن جريمته الأخيرة ستجر على المدينة الهادئة كل هذه الفوضى العارمة فمنذ أن جندته أياد خبيثة لقتل الكفاءات وهو يمتهن هذا الفعل الشنيع بإيمان مطلق غير آبه بما ستؤول اليه أحوال الضحايا وأهلهم،كان يتلقى الأوامر بالتنفيذ عبر هاتفه الخلوي فيأخذ بالتحري الدقيق عن توقيتات ذهابهم وأيابهم من دون أن يكترث بمسراتهم أو أوجاعهم أوحتى ينشغل بهمومهم أوأحلامهم،انه يقتل من يستحق الموت ،هكذا أدلجوه مَن جندوه لهذه المهمة القاسية موظفين جهله وعوزه وعدم كفاءته لهذا الأمر المخيف،هكذا وببساطة شديدة زرعوا بذرة القتل في جوفه الفارغ فراح يندفع كالأعمى ليبطش بالضحايا ضحية تلو أخرى إلا أن حلَّ الأيعاز الأخير برسالة قصيرة قلبت الأمر رأساً على عقب :
الطبيب يلدرم عباس” !
.لم يفكر كعادته بمعنى الأسم أو دلالته بل حمل مسدسه وخرج عازما على القتل في مساء ذلك اليوم الرتيب، تربص بحذر بضحيته الجديدة وتابعها بحذر أشد حتى أستقر بهما المطاف في فم الزقاق المؤدي الى دار الطبيب، ترجل من سيارته شاهراً مسدسه علناً وخطا بأصرار القتلة المحترفين صوب ضحيته وماهي إلا لحظات حتى دوّى صوت الأطلاقات بقوة في الفضاء الساكن ليحجّر المنطقة بأسرها ويترك على وجوهها الحائرة ألف علامة و علامة ، سرت الرصاصات المسمومة في الرأس العليم وسال الدم الطاهر ساخناً يرقش الأرض بذنب آخر ، مات الطبيب ولاذ القاتل المأجور كعادته بالفرار مخلفاً وراءه دوي صفارات الأسعاف والشرطة يبلغان السماء بعروج

طائرجديد،تمكن القاتل من الوصول بسرعة الى مخبأه السري وأختبئ فيه عن الأنظار وسط الوحشة والظلام،كان جسده المرتعش بحاجة الى الراحة و الهدوء فقررالنوم ، توسد البلاط البارد وغاص في نوم أيقظته منه أصوات قرع هادئة كانت تتوالى بأنتظام على الباب الخشبي ،صحى فزعاً وأضاء المصباح الوحيد للمخبأ المعتم،اصدمت عيناه المضببتان بأمرأة متشحة بالسواد تنتصب بحزن في الزاوية الضيقة للغرفة،إمرأة لايعلم من أي الأماكن نفذت الى عالمه النائم،إقترب منها بتوجس وسمعها جيدا تقول له بصوت يملؤه الأسى :افتح الباب لهم، لقد جاؤوا به.
تحرك مفزوعاً صوب الباب الموصد فتحه بهدوء فأندفع نحو فضاء الغرفة فتية تعلو وجوههم معالم حزن قاتلة،تمعن فيهم جيداً كانوا أربعة يجمعهم شمل حزن واحد،تراجع إبان تقدمهم صوب المرأة التي لم تتحرك وصاح بإذنها :
مَن أنت و هؤلاء مَن ؟
أنا أمه وهؤلاء أخوته.
انهم حزينون .
على غيابه.
غياب مَن؟
حكيم المدينة ! ولوحّت الى النافذة المفتوحة،التفت القاتل برأسه نحو النافذة وطالعت عيناه الحمراوتان الفضاء المفتوح،كان الأفق الفسيح احمراً كالدم وكان الهواء الثقيل ينقل في تموجاته الكسولة استغاثات حشود منكسرة كانت تتقدم بأسى نحوه،روّعه ضجيج الأصوات المستنجدة وروّعه أكثر شكل الحشد الحزين فصاح بجنون :
مَن هؤلاء؟
انهم مرضاه المختلين في المدينة وهم من كل الأطياف،أنظر؟ قالت الأم وهي تنظر بحزن نحوهم،إنهم يحملون على رؤوسهم مَن كان بالأمس يربت بكفه الكريمة على عقولهم الجريحة،يتقدمون به مرفوعاً كالقمرالوحيد وأعينهم الحزينة تسألك :
لماذا قتلت الحكيم ؟
ارتبك القاتل من زحف المرضى المجنون،راحت عيناه تبحثان عن منقذ بعد أن أوصد الأبناء الباب وراءهم وأوصدت الأم النافذة خلفها وتحلق الحشد الثائر حول مخبأه السري ،تراجع االى الوراء وموجات الندم تتلاطم في دمه وتصعد عاتية الى رأسه بقوة،كان يتمنى لو لم يقتل الحكيم،لكن الأمر قد فات الآن،قال هذا في سره وقرر في الحال ان يسلم رأسه للمرضى الغاضبين ليقتصوا منه جراء فعلته الشنيعة،جثا على ركبتيه وأغمض عينيه بشدة ثم إنكفئ بهدوء على وجهه،أحس بكف رحيمة تربت على رأسه بحنان،رفع رأسه وفتح عينيه جيداً ليرى وجه الحكيم يطالعه بأبتسامة ويقول:
ممَ تشكو ياولدي ؟
وجهه المدور وجسده الضئيل وابتسامته البريئة يرافقهم ظل حضور مريب يعتدل الآن أمامه ليعلن له عن نفسه بقوة، إنه هو! هل يكّذب مايراه أم يصدّق عيناه التي صارت تتأمله بيقين ،كَّذبَ المشهد الثقيل وحسبه كابوس مفزع أووساوس مرعبة، لكن الجراح الذي تجلى له مافي سر قاتله ً دسّ كفه الناعمة في رأسه بهدوء وأستخرج بلطف الطلقات النائمة فيه ، مدّها ملطخة بدمه النقي وقدمها بكف مدماة له، إمتدت كف القاتل المرتعشة لكف القتيل ،انتشلت الطلقات من راحته بهدوء ثم أطبقت قبضتها الكبيرة بقوةعليها،،سال الدم من الثقوب الغائرة في رأس الحكيم وخددّ جريانه الهادئ وجهه الصافي بخطوط حمراء وخزت سهامها الحادة قلب القاتل الجرئ ودفعته للأعتراف في حضرة القتيل:
ماذا عملت يداي ؟
لاشئ قال الطبيب إن كل شئ على مايرام .
لم يكن كل شئ على مايرام قال القاتل في سره فالزحف المجنون يتقدم والدم الغزير يجري والموت صار قاب قوسين أوأدنى منه،
إفتحوا الباب لهم ، لقد وصلوا ، قالت الأم .
ماأن فتح أحد الأبناء الباب الموصود على القاتل حتى غصت الغرفة الضيقة برجال تحمل رؤوسهم المتباينة وجه الحكيم المقتول،تقدموا صوب القاتل شاهرين مسدساتهم عالياً ،أعترضهم الحكيم بجسده النحيف وأعاق تقدمهم صوبه ثم التفت الى القاتل :
إغمض عينيك عن رؤيتهم، انهم قاتلوك لامحال!
إنهار القاتل المرتبك وتداعى جسده على الأرض ، أستسلمت ارادته الواهنة للموت ، تمدد وعيناه الخائفتان تحدقان بإنكسار في عيني الحكيم ، تتوسلان الخلاص الأخير الذي جاء عاليا على لسانه الغاضب.
إغمض عينيك ،إغمضهما بشدة حتى لاترى وجه القاتل .
إنصاع القاتل لنصيحة ضحيته الأخيرة وأغمض عينيه بشدة ، ظل يترقب الموت الوشيك على يد قاتليه،مرت اللحظات ثقيلة كالدهور وهو مسجى على البلاط البارد ينتظر وابل الرصاص من الأكف المجنونة،لم يحصل أي شئ فالصمت كان يكتنف اللحظة تماماً ،سأم الأنتظار المرير لذلك قرر في نفسه أن يخالف الوصية ويفتح عينيه ليرى وجه قاتليه الغاضبين، فتح عينيه بحذر شديد ولم يرَ أي شئ حوله ،كان المكان ساكناً و لم يكن سواه غائصاً في عتمة الفجر الشفيفة، حاول النهوض متكئاً على قبضته فوخزته راحتها بشدة ،بسطها في الحال فتلألأت أمام ناظريه الخائفتين طلقات صدأة ماأنفك الدم يسيل منها مرقشاً بلاط المخبأ السري بنداوته الساخنة .
” من خيرة اخصائي الجملة العصبية في العراق ولد في كركوك وأغتيل وشقيقه زين العابدين عباس فيها مساء 5 / 9/2011 ، خصص يوماً أو أكثر من أيام الأسبوع لعلاج الفقراء مجانا ، لفظ أنفاسه الأخيرة في محلة تسعين مخلفاً وراءه مئات المرضى الذين مازالوا بحاجة إليه .