مهند الخيگاني: تشريح الصمت وتصنيف الكلام في عالم ماكس بيكارد

“ولد الكلام من الصمت من الصمت الكامل ، كان كمال الصمت قد انفجر لو انه لم يكن قادرا على التدفق في الكلام ” .
الصمت _ الكلمة _ الكلام ، يتكئ كتاب ” عالم الصمت ” بصورة عامة على هذا المثلث كقاعدة تنطلق منها الأفكار وتتدافع وفقها التصورات واحدة تلو الاخرى ، ومايدور بين ركائزه وما حولها من تحركات مكشوفة وضبابية احيانا ، يكشف عنها بيكارد بروحية متصوف وشاعر وفيلسوف .
يشير بيكارد الى أن الكلمة المرتبطة بالصمت هي الكلمة الخيّرة ، وذلك مم خلال رؤيته الى أن الصمت الكبير كان موجودا قبل أن يولد كل شي وقبل أن يمنح الخالقُ الانسان القدرة على الكلام ، حيث يرى أن كل شيء خيّر وجميل يجيء من الصمت ، الكلمات السيئة هي نتاج الضجيج والهروب والعزلة والتطور ، مشيرا الى أن الكلمات السيئة لا تعود الى الصمت ، و يعود هذا التفسير الى كونه يتعامل مع الصمت على انه حالة مقدسة ، حيث ترتبط بالإله الخالق ، ثم يعطي مثالا عن تلك الكلمات كلمات المسيح و الشعراء . ويحدّد بيكارد الكلمات ويصنفها حتى يميزها ، فالكلمة المرتبطة بالروح هي الكلمة العائدة الى الصمت ، وهذا شرطٌ من شروط انتمائها الى عالم الجمال والخير والصمت . كما في قوله : “الكلام الإنساني لا تحدده الحقيقة فقط ، بل يحدده الخير أيضا : في الخير يعود الكلام الى أصله” . وكأنه يقول ليس كل الكلام يُحسَب على الكلام ، مالم يمتلك تلك الخصوصية النافذة في جعله يعود الى أصله ومنابعه الأولى .
في هذا الكتاب يقوم بيكارد بتشريح موضوعة الصمت بكل أبعادها واتجاهاتها وفق قناعاته طبعا . و أسّس التكرار والتشريح بطريقة أو بأخرى لمجال إفهام القارئ من جوانب ومناحي عديدة يدور حولها عالم الصمت ، خاصة الاساس الذي تقوم عليه هذه الفلسفة ، برغم تنوع الموضوعات الفرعية . وما ميّز عملية الإيغال هذه ، امتلاك المؤلف خيالا غير محدود استخلص منه هذه المعرفة ، وبلا أدنى شك أن من يجاريه بالخيال من القراء ، هو من يستطيع أن يفهم ويتخيل الصورة التي يحاول رسمها في الكتاب كما يراد له قدر الإمكان . هذا الكتاب بالإضافة الى ما لمّحنا هو تطبيق في تفسير أهمية الخيال في استخلاص المعرفة و دوره الجوهري في تطوير العقل الإنساني وعلاقته الوطيدة بالمنطق ، على الرغم من أن الكتاب يتحدث في موضوعة ترتكز على المحسوس والذهني في وجودها . وفي واحدة من الوقفات الهامّة في الكتاب عن الصمت والكلام ، من حيث شيوعهما ، إن الكلام عكس الصمت ، لكنّه لا يساويه أو يناقضه بشكل عدائي كما ولا يعني التوقف عن الكلام أو توقف اللغة حضورًا للصمت . إلا أنه يقع في مشكلة هذا التحليل عندما يقول ، ” إن أي اثنين يتحدثان هناك ثالث يصغي وهو الصمت ” ، فإذا كان الصمت يصغي عندما يتحدث شخصان إذن لماذا التوقف عن الكلام لا يعني الصمت ! ، الا أن جابريل مارسيل وقف على هذه النقطة تحديدا في التمهيد لكتاب بيكارد ، موضّحًا وجوب التمييز بين الكلام بالمعنى الصحيح والكلام الذي هو مجرد ثرثرة . والتساؤل هنا ، إلى أي قدر يستطيع اثنان من الناس أن يتحدثا بالمعنى الصحيح وفق هذه ال ” أي اثنين يتحدثان ” المذكورة آنفًا ذات المنظور العمومي ، خصوصًا أن بيكارد في طروحاته أغلبها يهدف الى التفريق بين أنواع الكلمات والكلام وانتماءاته . أما في فصل عالم الأسطورة ، يقول بيكارد مبتدئا حديثه ،” يقع عالم الأسطورة بين عالم الصمت وعالم اللغة ، مثل أشكال تلوّح بصورة أكبر مما في حياة الغروب المتجمع ، فإن أشكال عالم الأسطورة تبدو ضخمةً كأنها تخرج من غسق الصمت ” ، وهو بذلك يشير الى أن كل الأساطير موجودة قبل الخلق ، وكأنه يقول أن المخلوق لم يكن سوى وسيلة لنفاذ هذه ” المآثر المكتوبة على جدار الصمت ” ، لكنّها في الحقيقة نتاج الثقافة البشرية الأولى ، تلك الغارقة في المجهول ، ملتحمة بخياله الخصب الذي لم يُستهلك بعد ، في القول والفعل ، على الرغم من أن الخيال يكبر ويتسع ايضا باتساع الأشياء وازديادها . وهو بذلك يحرِم البشري ويجرده من التجربة والخبرة ، و يضع العقل البشري في خانة من الجمود وعدم الإستقلالية . فلو أخذنا بيكارد الفيلسوف نفسه ، في هذا الكتاب وقدرته الفائقة في ترسيم دلالاته حول الصمت وتفسيراته غير المأهولة ، وسخائه في التحليل والتنقيب ، لهو خير مثال على ما يناقض قوله بخصوص الأسطورة ، عمله هذا هو بحد ذاته يفيق على مناخ شبيه بمناخات الأساطير وارتكازها على الماورائي .
ومن رحلة الى أخرى يأخذنا عالم بيكارد مجددًا الى تأويل لافت . حيث يقول : ” الحيوانات صور الصمت ” ، ثم يُلحق القول السابق بآخر فيقول : ” لن يكون صمت الحيوانات وصمت الطبيعة نبيلا وعظيما جدا لو كان مجرد فشل لتجسيد اللغة ، عهد بالصمت الى الحيوانات والطبيعة كشيء خلق من أجلها ” ، شيء مما ورد في فصل الحيوانات والصمت ، حيث يفترض بيكارد أن عدم قدرة الحيوانات على النطق ، لأنها خلقت بهذه الكيفية كحاملات للصمت ، أي أُريد لها ذلك من خلال عدم قدرتها على النطق ، وفي الحقيقة بيكارد ينظر الى كل الأشياء والمخلوقات في الغالب من وجهة نظر الانسان كمخلوق أعلى ، وبحسب ما يتوافر فيه من قابليات التفاعل ، والإدراك ممثلةً بالحواس والدماغ . الا أن عدم قدرة الانسان على مخاطبة الحيوانات والعكس ، لا يفترض أن الحيوانات لا تمتلك لغةً خاصة بها ، فمن الناحية العلمية أثبتت الدراسات أن الأصوات التي تطلقها الحيوانات والحركات التي تقوم بها هي وسيلة للتخاطب ، وعدم ادراكنا لتلك اللغة أو الوسيلة ، لا يعني أنها مجرد صور للصمت أكثر مما هي حيوانات . ومن الناحية الدينية يرد في القرآن مثلا عن قصة سليمان الذي كما هو شائع ، كان يمتلك القدرة على مخاطبة الحيوانات ، نرى ذلك في سورة النمل . بل أن الانسان البدائي قبل أن يطور اللغة والنطق ، كان يلجأ للتشبّه بالحيوانات ، حيث إن القردة تستخدم الصياح والضفادع النقيق ، والذئاب العواء والكلاب النباح … الخ وهذا يثبت بسهولة تامة في نقطة التساوي هذه بين الانسان الاول والحيوان ، أن الحيوان يمتلك لغة ، وهي لغة صالحة وفعّالة ، لكنّنا غير مؤهلين بيولوجيا لفهمها ، الا بمساعدة مؤثر آخر يمنح الانسان هذه الميّزة ، كأن يكون مؤثرا ميتافيزيقيا على سبيل الفرض مثل سليمان النبي ، أو عن طريق العلم .
ولابد من القول إن الكتاب العائد للفيلسوف السويسري _الألماني ماكس بيكارد ( 1888_ 1965) ، تمت ترجمته عن النسخة الإنكليزية الصادرة في 1948 ، وصدرت النسخة العربية منه لأول مرة على يد المترجم والشاعر قحطان جاسم سنة 2018 ، حيث شرع بيكارد في رحلته هذه منذ العام 1919 ، في إشارة الى أن الكاتب عاش زمنًا خصبًا بالدراسات الفلسفية والعلمية السابقة والمعاصرة له ، وقد كان خيارا شخصيا منه أنْ غادر دكتوراه في الطب وأهم النظريات العلمية بضمنها الدراوينية آنذاك واتجه الى اللاهوت كما تم الإشارة الى ذلك في بداية الكتاب وهو ما يترك لنا سيلاً من الأسئلة نتأمل فيها .
يستمر الكتاب في فصول لاحقة وبضمنها فصل الشعر ، ولعله أجمل الفصول ، ذلك أن أسلوب الكاتب وطريقة تفكيره يلائمان الشعر ، فكان حديثه عن الشعر والصمت والكلمات النابعة من عمق الروح ، تلك التي لا علاقة لها بالضجيج ، وتطابق الشعر الحقيقي والشاعر ، محمّلةً بالصدق والفكر . ويطرح أسماء شهيرة كأمثلة على ذلك ، هولدرين وغوته وشكسبير وجان باول ، إذ يعبر بيكارد عن الكلمات التي تستحق التأمل والنظر في حدائقها لفترات طويلة ، بأنها الكلمات التي تنبع عن الصمت لا تلك الناتجة عن ضجيج وهذر كلمات ذات منابع مشوّهة . ولقد اهتم بيكارد كثيرا بهذا النوع من الطروحات التي تنحى باتجاه عوالم الروح والعوالم الحسّية ، فهو يفسّر خراب الحياة بخراب الانسان من الداخل وما للتطور والآلة من دور في ذلك . يشعر القارئ لهذا الفيلسوف وكأنه يعيش حالة من الحنين والرغبة في العودة الى العالم القديم ، حيث البطء والهدوء ، والأصالة والقرب من الطبيعة وأشيائها وهو محق في ذلك ، إذ يبدو من خلال التجربة ، أن الإنسان في جوهره وطبيعة تكوينه أقرب لعوالمه الأولى من عوالم اليوم ، حتى من الناحية النفسية والصحية ، فياله من فرق شاسع بين هواء المدينة وهواء الطبيعة ، بين الجدران والضجيج وبين السكون والحركات الطبيعية للأشياء والحقول الفسيحة . وهذا لا يعني بأن نعود الى الأمراض والحروب والأنظمة المتسلّطة ، إنما هناك ثمن للتقدم والتطور ظل يتراكم عبر القرون وترك أثره في الإنسان .
في النهاية تبدو طروحات بيكارد كردِّ فعلٍ إزاء عدم التوازن الحاصل بين ” العالم الداخلي والعالم الظاهري ” وتحول الإنسان الى أرقام وأدوات وصعود الديكتاتوريات ولكنّه ردُ فعل ٍ متطرف أدّى به الى الإهتمام بالعالم الداخلي بشكل مفرط !

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| محمد عبد حسن : المتن السردي المفترض في رواية “العاشرة بتوقيت واشنطن”(1) .

(ملاحظات قارئ للاقتراب من النص) ينجح الروائي، منذ البداية، في الإمساك بقارئه.. حيث، يضعه منذ …

| حميد الحريزي : “قضايا المرأة في التدين الأجتماعي” للدكتورة بتول فاروق .

           جرأة في الفكر وتجــــــــــــــــــاوز للتقليد   كتاب ((قضايا المرأة في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *