-1-
الحلم ، في اللغة العربية، ما يراه النائم أثناء نومه من رؤى، وقد كانت الأحلام في العراق القديم ،والحضارات القديمة، نوعاً من العرافة والكهانة، لها كاهن أو عراف يفسرها ، فكان العراقيون آنذاك ، يعتقدون أن ما يراه الشخص في حلمه حدث سيقع عليه. وعلى الفرد أن يجتهد بالحصول على من يفسر له ذلك الحلم، والمفسر للحلم يجب أن يكون على اتصال بالأرباب نفسها عن طريق الكهنة ذوي الاختصاص (السقالو، السقاليتو)، أو كما في حال جلجامش إلهاً آخر يعرف نوايا اخوانه الأرباب وأسرار المستقبل.(1)
كما كان جوديا ، حاكم لكش، يستلم الأوامر من الآلهة لبناء معبد لتفسير الأحلام، فيقدم الأضاحي ويشرع بدعوة شعبه لذلك.(2) وفي التحليل النفسي، الحلم ، رمز، أو لغة رمزية ، كما هي الحال في لغة الأساطير، مثله مثل رمز النار والماء والسفينة ؛ لهذا يعتقد (فروم) أن الأحلام تجارب حقيقية لأرواحنا المنفصلة عن أجسادنا ،أي التي تغادر الجسد في النوم، وأن كلّ الأحلام ذات معنى وذات مغزى.(3) وهو حقل يوازي الحياة نفسها، أو أنه مرآة لها، فاذا كانت المرآة تعكس صورة الجسد الانساني أو غيره ، كما هو تماماً ، فإنّ الحلم يعكس هواجس النفس البشرية الباطنية التي لا تظهر على السطح نتيجة سيطرة العقل الظاهر على العقل الباطن . ذلك أن الأسطورة توأم الحلم من حيث الخصائص ، مفارقة الواقع الموضوعي المعيش، اللجوء الى العوالم الداخلية الذاتية ، لشعور بالعجز أمام الظواهر الكونية المتعددة والمتداخلة.(4)
واذا كانت الحضارات القديمة تعتبر الأسطورة نصاً حلمياً، وتعتبر الحلم رمزاً، كما الأسطورة، فإن العلامات التي يبثها الحلم تعتبر نوعاً من الانتقال من الصورة الى الرمز؛ ومن هنا يعتقد بعض الباحثين أنه يمكن لرمز الرؤيا أن يستقطب ضروباً من المحاكاة الأدبية لدورة الفصول، فلا مناص ، وقد قطعت الصلة بالنظام الطبيعي، ومن محاكاة هذا النظام، بحيث يصبح فيما بعد مخزوناً هائلاً للصور. بذلك يمكن اطلاق وصف شامل على الأدب إجمالاً بشخصه على أساس أنه تقصٍ ، هكذا حاله في الأنماط الرومانتيكية والأنماط المحاكاتية العليا والدنيا، وكذلك هذا النمط التهكمي الذي يمثله الهجاء.(5)
ومن هنا تبدو الأسطورة نصاً فطرياً، ويبدو الحلم نصَّ نبوءة مستقبلية، تحاول أن تستكشف ما هو مضمر/ خفي / منسي، ومترسخ في أعماق الذات المتعبة والخجلة/ المسكونة بالأمنيات، ذلك أن الأسطورة هي نوع من الحلم الجماعي. وكما أن الحلم لدى الانسان يأخذ شكله وحواراته وصوره من التجارب اليومية ليفسر انفعالاً حدث لأحاسيس الحالِم في غياب يقظته ، وكذلك هي في غياب يقظته ، وكذلك هي الأسطورة تأخذ شكلها ولغتها وصورها من وقائع التجربة لتخيّل تفسيراً لانفعال غامض وعلاقة صافية متفلتة من تحديات التجربة اليومية ومتحررة من رقابة المنطق. وليس هذا لدى من ينشطها فقط، بل لدى من يتعامل بها أيضاً. وكلما عادت الى ما قبل نشوء تنظيمات اللغة وقواعد المنطق تكون أصدق وأكثر صفاء. وبكلمة فإنّ المدلولات التي نستنتجها من الأساطير هي قفزة الى ما قبل انتظام عالم الذهن، تماماً كما هو الحلم قفزة الى ما قبل عالم اليقظة.(6)
-2-
وقد استخدم الأدب (قصة وشعراَ) بناء الرؤيا وسيلة، في محاولة للاقتراب من طفولة الفكر الانساني، بطريقة حاكى فيها الشاعر الأسطورة، أما بالتناص والتوظيف أو بالمحاكاة، كمحاول تجريبية واضحة، للتخلص من هيمنة التقليد والتكرار؛ فكانت هذه التجارب محاولة لخلق تصور جديد ،وربما كمحاولة لقراءة الواقع قراءة مختلفة، ذات طبيعة حلمية، تشكل فيها الرؤيا محوراً أساسياً من حيث البناء ،وربما تطور نحو الحكاية الأساسية، ومن هنا عدها بعض الباحثين واحدة من مظاهر الاداء الحلمي، كما في ملحمة جلجامش ؛ ذلك أن الأحلام تتصرف في حدود الرؤيا الاستشرافية ،لأن الحلم يقوم باستباق الأحداث، وذلك عبر مستويين ، أولهما يكمن في التعامل مع الأحلام، بوصفها نقالة للرسائل من الأقسام الغريزية الى الأقسام العقلانية في الذهن البشري، والثاني يتجسد في كون العمل الأدبي ذي بناء حلمي ،وله خاصية الحلم في الاعتماد على الجزئيات المتعلقة بالأسطورة. فليس ثمة توظيف كامل أو مستمر لأسطورة معينة ، بل استفادة ، بشكل ما من أساطير كثيرة ، يجري التضمين متقطعاً في الأحلام، لأن الحلم لا يحتفظ ببؤرة محددة، وانما يعتمد على المشاهد الحلمية.(7)
ووفقاً لأيريش فروم ،فإن الأسطورة تبدو كالحلم ، تعرض قصة تحدث في المكان والزمان ، قصة تعبر ، باللغة الرمزية، عن الأفكار الدينية والفلسفية، وعن تجارب الروح التي تكمن فيها الدلالة الحقيقية للأسطورة.(8)
المعروف أن الأحلام تحدث في الليل، وخلال النوم، فإذا حصلت في النهار؛ فهي من قبيل ( أحلام اليقظة)، وبالتالي يمكن أن تعد الأحلام نوعاً من الظلال الخفية أو الوهم الذي يحيط بالإنسان، وبحياته واهتماماته، وهواجسه، ومخاوفه وآماله؛ ففي قصيدة( ألام عارية) للشاعر جابر محمد جابر من مجموعته(وحيداً في الأزقة أغني) الصادرة عام 2015م، والتي يقول في مستهلها:(9)
في يوم ما …
أغلقت باب أحلامي بمزلاج
بعد أن ..
قطعت شجرة أمنياتي،
بمنشار لغياب.
بدءاً نتساءل: لماذا هذه الأحلام عارية؟ أو هل هي أحلام مجازية؟
هذا المقطع يفسر بعضه بعضاً، فهو نص مكتنز ينهض من ركام الأسطورة ،لأنه ينهض من ركام شجرة آدام/ شجرة الحياة، التي أسقط بسببها آدم وحواء من الفردوس، وهل يعني بالسقوط، سقوط الأنظمة، أو سقوط الانسان من الفردوس الى قاع الأرض / الواقع؟
اذا افترضنا أن العري هنا هو عري الجسد، فإن الأحلام هي مرآة النفس البشرية، في أمنياتها الدفينة، والتي تترشح عن طريق الأحلام والرؤى؛ فالعري لم يشعر به آدم وحواء الاّ بع أن أكلا الثمرة المحرمة(التفاحة)، ومن المحتمل أن العورة هي التعبير عن الرغبة الجنسية والصورة المثلى أو الحقيقية للجسد من دون تدخل خارجي، ومن هنا يسمي (فروم) العري (حلم الارتباك)، حينما يقول:” في الحلم الذي يكون فيه المرء عارياً أو لا يرتدي من الثياب الا القليل بضور الغرباء، يحدث أحياناً أن المرء لا ينتابه أقل شعور بالخجل من الوضع”.(10)
ذلك أن العري يشير الى حكاية ثياب الامبراطور، الامبراطور صاحب الخدم والحشم والمطبلين ،تُنسج له الأردية الغالية الثمن، بحيث يبدو الدجال هو الحلم، والامبراطور هو الحالم ذاته.(11) فهل سنكون قد ولجنا في دائرة المحذور، ولكن الانزياح الذي ختم به هذا المقطع شاعر يصطدم القارئ(بمنشار الغياب)، وهل يعني أن الغياب يعبر عن القطيعة؟
-3-
في المقطع الثاني، من القصيدة يشير – بلا شك – الى أن هذه القصيدة مكتوبة بطريقة خاصة، وهي طريقة التنضيد ، كل ومضة متصلة بالأخرى، ولكن كل ومضة تنتقي ما يناسبها فتبدأ من توطئة وتنتهي بضربة تشبه الى حدّ ما لحظة التنوير في القصة القصيرة، ومن هنا كان المقطع الثاني هو الحبّة الثانية من حبات الحكاية المنضدة هذه، في قوله:(12)
الأحلام بلا رقاب
والأيام مرتوية بالحمى
تسافر نائمة
مجتازة حدود الشهوة
الأحلام ، في أساسها، رؤى خيالية ،وتصورات تصل حدّ الهلوسة والهذيان، فيها تطلعات تحتاج الى من يستغل لهفتها بالاتصال الجماهيري أو الجسدي أو النفسي، فهي رغبات مكبوتة ، فقد بدأت هنا في هذا النص، جسداً بلا رقاب، في زمن ارتوى بالحمى، في اشارة الى صعوبة الحصول على الأحلام، لاقترانه بالحمى/ المرض، لأنها هي الأخرى تسافر نائمة، خارج لهفة الشهوات والأمنيات ؛ فلما أحسّ الشاعر بالحرمان الجسدي والذهني في هذه الظروف مع أن هذا المقطع هو تكملة للمقطع الذي سبقه، ولكن كل منهما له وحدته الموضوعية والنفسية واللغوية.
في المقطع الأول ، تبدو الشجرة مقطوعة ، ونحن نتساءل : لماذا قال الشجرة، ولم يقل جذع الشجرة ،أهو يشير الى انعدام الانوثة ،أو الأنوثة هنا مقطوعة؟ بينما كان المنشار الذي قطع الشجرة مذكراً، وجاء الغياب كذلك، أفي ذلك نوع من الغيبوبة، أهذه اشارة مضمرة الى غواية الشيطان؟
لقد كانت هذه الغواية هي الانحدار الشيطاني نحو ” شفافية عمياء”، والتي ترمز الى المرأة التي باتت سبباً في الغواية؛ وهذا المقطع يحيل بصورة غير مباشرة الى طقوس الختان، وهي قطع القلفة الزائدة من عضو الذكورة، فيطقس تطهيري ، مع أن الأنثى والذكر يتطهران من الاثم، بحيث يتم الاتصال الجسدي قبل وقوعه، وهي احالة الى نوع من الخصاء ،الذي تتصارع فيه الأضداد.(13) ولعل جملة (الأحلام بلا رقاب) هي احالة الى فعل القطع السابق، وهو الختان الذي يكبح جماح الذكورة، وسيادة صورة الانوثة، فالأشياء المنتصبة ، كالذكر والبظر والأشجار، والعصا والصولجان ، كلّها تجسد مفهوم الارتفاع وعصا الملك ذات الاحالة الرمزية الى سلطة الملك الذكورية والتي ربما تحيل الى عقدة أوديب.(14) وهكذا يمكن ربط المقطع الأول بالمقطع الثاني ، من خلال أحلام الشاعر التي تعيش بلا رقاب ، أو بلا هوية ،أو بلا جسد.
-4-
في المقطع الرابع، من قصيدة (دوائر مثلثة) يقول:(15)
ركبتُ عربة اللذة،
بإرادتي …
مرت بي
مأذنة عارية
بلا أسنان
سمعت رائحة الأحلام،
تثاءبت..
مثل هديل ذابل
ونزلت …
عند جدار الخوف
يمتطي الشاعر مطية اللذة، بإرادته، وهنا يعود الى العري السابق، عري الأحلام، فالمأذنة عارية، بلا أسنان ،وسمع رائحة الأحلام تتثاءب، لأنها استيقظت حديثاً؛ والسبب هو جدار الخوف ، مع أن الجدار يحمي من خوف جيش المحتل الا أنه صار لا قيمة له، بسبب ثقافة العري ، كل شيء عارٍ، حتى الأحلام باتت لا تؤدي مهمتها، ذلك أن الجدار له صفة العزل، والحصر والحماية، كما دث لبغداد في الحرب الطائفية المفتعلة من المحتل وذيوله، وكذلك كان جدار العزل العنصري الاسرائيلي ضد عرب فلسطين، وجدران الحرب الداخلية من أجل انجاح المشروع الأمريكي القائم على التدخل الخارجي، ونحن نتساءل: لماذا اقترن هذا العري باللذة، بوصفها فعلاً للمتعة الجسدية (الاتصال الجنسي والطعام)؟ وهنا يتواصل يتواص العري بالدين من خلال حضور جسد المأذنة التي تذكرنا بقصة بهذا العنوان للقاص محمد خضير، فلماذا يشعر بهذا الاتصال الوهمي بين الدين والحياة؟
الأن الدين صار ذريعة للقتل تحت مسمى الطائفية، من أجل أن يتنفس المحتل؟
وهنا تتشابه الأحلام مثل هديل ذابل، والهديل هو غناء الحمام، وهو يحيلنا بصورة او بأخرى الى الأمن، فعندما تشعر الحمامة بالأمن تهدل ،وتغني في باحة الدار ،أو في فضاء المساجد، لقد كان تجسيد صورة الشيء / البناء المتمثل بالمأذنة؛ في احالة مضمرة الى أنها تعرضت لنوع من الخلع أو التفجير، وهي مع ذلك مصدر قلق له ، ، والجمل الشعرية في هذا المقطع هي جمل فعلية قادرة على تضخيم وتصوير الأحداث من خلال الأفعال ( ركبت ، مرّت، سمعت، تثاءبت، نزلت) فالجملة الفعلية زمنية وفاعلة وقوية؛ فالركوب يعني الارتفاع، والذي لا يصمد أمام حركة المواجهة للمحتل، لأنه مقرون باللذة، وبالرغبة الشخصية بالانتفاع؛ لهذا يبقى واقفاً حتى تمرّ به المأذنة، وهي رمز للانتصاب، وربما السلطة والذكورة، وسلطتها خاوية وقد تخلت عن شموخها، وعنفوانها، أما أحلامه فهي بلا صورة، وانما لها صوت، وضوضاء، أو جعجعة بلا طحن، لأن الأسنان مخلوعة، فلا بدّ لها أن تتثاءب، أو تتلاشى، ولهذا يشبهها هديل ذابل، والمعروف أن صوت الهديل خافت، فكيف يشبهها اذا كان ذابلاً.
وفي العرف الشعبي، الحمامة تدلل على السلام والخير، وتقترن بالغراب رمز الشر، فهي التي أخبرت النبي نوح عن انحسار الطوفان، وهديلها يبدو ذابلا ؛ مما يعني لا وجود للسلام هنا، وإنما ثمة خوف ،والجمل الشعرية تتصل الواحدة مع الأخرى بطريقة زمنية عبر اسبقيات خاصة، من العلى الى الأسفل، وهذا التداعي وهو نوع من السقوط الذي جعل (المأذنة) المتعالية (بلا أسنان)، فما يعنيه سقوط الأسنان في الأحلام هو موت أو غياب الأقرباء، أو وجوه المحبين.
ومن هنا نتساءل: هل يعبر العري في هذه الأحلام؟
لقد كانت بعض القبائل الهندية تمارس الاتصال الجنسي بالعراء، مثلما تفعل الدواب، ولون بشرتهم أقرب الى لون الأثيوبيين ،والسائل المنوي لرجالهم لا يتصف باللون الأبيض مثل الأقوام الأخرى بل لونه أسود مثل لون بشرتهم ،وهذا ما نجده أيضاً عند الأثيوبيين.(16)
فهل كان العري علامة من علامات الاختلاف أو التمييز بين الشعوب؟
العري عند العرب عيب، وتدني في الأخلاق ، فإذا كانت الأحلام هنا هي الرؤيا، وكانت عارية تماماً، ولا تعني تمنيات أو محاولة للإمساك بالمستقبل بطريقة أكثر تهذيباً ،والشاعر ينشئ نصه بوصفه نصاً فطرياً، محمّلاً برؤى فلسفية ، لكي يجعل منه صورة من صور الابداع الحقيقي، لقد كانت ملاحظات هيرودت عن الشرق محمّلة بالاستنكار الواضح، وعدم قبول عادات ومعتقدات الشرق البربري، وهو يصف هؤلاء الناس وكأنه يفسر لنا أسطورة أو حلماً بصفة رحالة وجغرافي.
-5-
في (قصائد غير ملعونة) تكون علاقة الشاعر مع النهر رمز الزمن من خلال الصباح ، وهو بداية النهار، ومستهل لحركة العمل، لهذا بدت قصائده غير ملعونة، فلماذا القصيدة غير ملعونة ،وهي من غوايات الشيطان؟ ألم يمن لكل شاعر شيطانه وهل يعني ذلك أن القصيدة كائن غير ملعون؟
اللعنة ، لغةً، الطرد من الجنة، أو الطرد من عالم الحب والخيال والأمل والأحلام، وأحلام الشاعر هنا باتت في أحضان الزمن أو الصبح القادم الجديد، والانسان في سيرورته اليومية يبدأ صباحه مع المرآة أو انعكاس صورته الظاهرة على الزجاج الصقيل، بعد أن عكس الحلم صورته الباطنية في هذياناته وهلوساته وأمنياته، والزمن يعمل عمله في المتغيرات اليومية، في الصورة الجسدية ، حيث تشكل المرآة وسيلة الاتصال بين صورة الجسد ومشاعر الانسان وهو يقرأ متغيرات الزمن على وجهه ؛ لهذا يقول:(17)
الصباح ..
يتثاءب
أقف قبالة المرآة
هناك وجه لا أعرفه ….؟!
ما الذي جعل المرآة تخطأ، أو جعل الوجه يتغيّر، ألم تكن هي الأداة الصادقة في عرض الوجوه؟
هذا الذي يحصل هو نوع من الرفض للواقع، والزمن ينساب مهزوزاً أمامه، عبر الفعلين (يتثاءب، أقف) وهما يترنحان بين حركتين (يتثاءب ) ثم (أقف)، فالتثاؤب حالة من الاسترخاء والعبثية واللايقين، وربما اليأس والوقوف موقفاً مغايراً يدل على العزيمة؛ مما يشي بأن صورة خنثى تتمحور هنا بين الحلم الذي مضى من دون أمل فأنتج غثيان التثاؤب ،وبين عزيمة الانسان كل صباح لأن يجدد حياته، لكن النتيجة تفرضها المرآة عبر الظرف المكاني (هناك) الدال على القرب والتمعن ، لكي ينفي العلاقة بين الذات وبين الحقيقة( لا أعرفه)، فهل كلن (الوجه) هو صلة الوصل بين الذات المحبطة والمرآة الخادعة أو الخيالية.
وفي قصيدة( قطار البرق) يبدو النهار مقترناً بالمرآة، حيث يقول:(18)
النهار
خلع ثيابه
أمام مرآة الخيال
بعد أن …
أقفل على الليل
وأودعه حجرة الذاكرة
وهنا نتساءل: لماذا خلع النهار ثيابه أمام المرآة، أو مرآة الخيال؟
فالمرآة لديه نوع من الرمز، أو العلامة/ الاشارة التي يمكن من خلالها كشف متغيرات الزمن، وهي تعبير مضمر عن أسطورة (نارسيس/ نرجس)، شقيق حوريات الماء، الذي يلاحقه (الصدى) مرافق ديانا آلهة الصيد، فتوله الحوريات الى إمرأة جامدة.(19)
فالمرآة هي تعبير عن هاجس جنسي مكبوت لمعرفة الذات المتوغلة في الأعماق ، فثمة شعور بالانكفاء من الظاهر الى الباطن، بسبب الاحباط ،وشعور بأفول الجمال؛ بمعنى أنه يجمع بين متناقضين ، تقوده فكرة خنثى ، لا يستطيع أن يحدد جنسها الحقيقي، ذلك لأن المفكر اليوناني القديم ، يعتبر الجمال ، جمال الذات جمال الآخر، صفة منفصلة عن الذكورة والأنوثة، بل أنهم صوروا إله الجنس (إيروس) في صورة جسم بديع متناسق يشتمل على أعضاء الذكر والأنثى معاً، وقد استقوا الجذور العلمية للخنثى من تلك الأساطير التي تحيلنا الى العرفان من خلال شخصية (هرمس) الذي عشقته (أفروديت) ورجت الآلهة أن يندمج جسده في جسدها. فأجابت الآلهة دعوتها وولدتها (هرما فروديت) الخنثى.(20)
فالمرآة تستجيب لفتنة الرجل بجسده، المرآة هنا أداة، ولكنها تفعل فعلها النفسي في استقطاب الوجوه، وليس الأدبار، فهي نوع من العشق المثلوم ، حين تبدو خيالية، أو يكون الوجه غير معروف، أو خامل أو ساكت ،أو مركون في زاوية بعيدة من الذاكرة ،وهي ذاكرة مدحورة بسبب فعل الزمن الحاضر، فتى شعره هرب منه في قصيدة(الهلال الجميل) والهلال واحد من تجليات الزمن، حيث يقول:(21)
هرب الشعر،
بعد أن …
انكسرت مرآة بلاغته
أما (أحلامه ) فبلا (أخلاق) وقلبه ( بلا باب)؛ وفي قصيدة (الشاعر والليل) يقف أمام(مرآة الذنوب)؛أي أنها تعكس ما اقترفه من اختراقات للعرف والدين، بينما في قصيدة( حديث صامت) يلاعب النوم (بالأحلام) ، فإذا كانت الأحلام هي مرآته الباطنية ، فإن المرآة تعكس ظاهر الصور والأشياء أمامه ،ولكنه يحطم هذه الصورة في قصيدة العنوان (وحيداً في الأزقة أغني) فيقف وحيداً مع الغناء، أي ينتصر للصوت على الصورة ذلك لأنه يبدأها بقوله:(22)
الشارع أعمى
والليل آيل للسقوط
أي أن المكان قد تلاشى فليس له صورة، بسبب ظلام الحياة، وانفلات الزمن، واختفاء الحركة الرمزية الفاعلة للنهار، وهيمنة الظلام / الليل والعمى؛ وكلاهما نقيض للصورة، والرؤية أو الابصار، لأنه يريد أن يقول لنا :( اننا في زمن اللا صورة)، أو اللا جدوى ،أو العمى الالزامي؛ فهذا ابراهيم بن هاني يقول:” تمام آلة القصص أن يكون القاص أعمى ويكون شيخاً بعيد مدى الصوت .وصورة الأعمى غالباً ما تفسر بأنها ضد الدين ، أو كما يقال: ضلالة عن الدين.(23)وتفسر بالخنوثة ذلك لأن غالب العميان يميلون الى الاستمناء ،أو ارواء اللذة الجنسية ذاتياً، من دون الاتصال بالأنثى؛ وهذا يعني أن الأحلام هي ميول خنثوية ونوع من الانطواء حول الذات، فإذا كانت البلاغة توحي بالفحولة في الشعر، فإن مرآتها قد انكسرت لديه وتحوّلت الى خنثى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المعتقدات الدينية في العراق القديم : د. سامي سعيد الأحمد، المركز الأكاديمي للأبحاث (بيروت، 2013م)، ص114.
2- المعتقدات الدينية في العراق القديم ، ص147.
3- اللغة المنسية: أريش فروم، ترجمة محمود الهاشمي، دار الحوار، ط2( اللاذقية، 2015م)، ص37.
4- الحقيقة والسراب، قراءة في البعد الصوفي عن أدونيس مرجعاً ودراسة: سفيان زدادقة، منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف بالتعاون مع مؤسسة محمد بن زايد آل مكتوم (بيروت، 1429هـ/ 2008م)،ص303.
5- الزمان والسرد: بول ريكور، ترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم، مراجعة د. جورج زيتاني، الكتاب الجديد المتحدة( بيروت،2006م)،2/46.
6- البنية الذهنية الحضارية في الشرق المتوسطي الآسيوي: يوسف حوراني، دار النهار(بيروت، 1978م)،ص46.
7- توظيف الأسطورة في القصة القصيرة العراقية الحديثة: فرج ياسين، دار الشؤون الثقافية العامة ( بغداد، 2000م)، ص 120-122.
8- اللغة المنسية، ص175.
9- وحيداً في الأزقة أغني: جابر محمد جابر، دار أمل الجديدة( دمشق، 2015م)، ص 93.
10- اللغة المنسية، ص75.
11- اللغة المنسية، ص112.ة، ص 77.
12- وحيداً في الأزقة أغني، ص93.
13- ينظر: الأنثروبولوجيا رموزها أساطير أنساقها :جيلبير دوران، ترجمة مصباح الصمد ،المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر( بيروت 1411 هـ/ 1991م)،ص149.
14- ينظر: الأنثروبولوجيا رموزها أساطير أنساقها، ص112.
15- وحيداً في الأزقة أغني، ص54.
16- تاريخ هيرودوت، ترجمة عبدالاله الملاح، مراجعة أحمد السقاف و محمد بن صراي، المجمع الثقافي (أبو ظبي ، 2001م)،ص226.
17- وحيداً في الأزقة أغني، ص 97.
18- وحيداً في الأزقة أغني، ص48.
19- ينظر: الأنثروبولوجيا رموزها أساطير أنساقها،ص75.
20- الرجل والجنس: نوال السعداوي، مط مدبولي، ط2( القاهرة ، 2006م)، ص175.
21- وحيداً في الأزقة أغني، ص15.
22- وحيداً في الأزقة أغني، ص90.
23- ينظر: نكت الهميان في نكت العميان : الصفدي، تح أحمد زكي باشا(القاهرة ،د.ت)،ص20 ، 22.
د. قيس كاظم الجنابي: الأحلام والمرآة>> قراءة في قصائد (وحيداً في الأزقة أغني)
تعليقات الفيسبوك