العلاقة بالأهل
كان لدى نزار العديد من الإخوة الشباب، ومنهم، كصباح قباني، من عمل كنزار في الحياة الدبلوماسية، واهتم بالموسيقي والفن، ولكن كيف كانت علاقة نزار بإخوته عموما؟
-كانت هناك رابطة كبيرة له مع إخوته أيام الشباب، ومرجع هذه الرابطة الأهل والأب والأولاد، لكنه انفصل عنهم بالموهبة والقدر الذي اختطه في الحياة. صحيح أنه عمل في الحياة الدبلوماسية مثل غيره ولكن قدرا آخر كان مكتوبا له، فالعلاقة بقيت أخوية ولكنَّها بالطبع لم تتطور على المستوى الأدبي. كانت العلاقة من ناحيتهم أنه كان مثار فخر لهم. لقد صاروا إخوة نزار قباني. أعتقد أنه أخذ من والده المواقف الوطنية والقومية التي دفع ثمنها، أما في ما تبقى فهو نسيج شغله وكفاحه، وهذا إنجازه هو وحده، وكان يفخر دائما أنه على مدى خمسين عاما صنع اسمه: نزار قباني. كان لا يحب تقديمه في الأمسيات الشعرية واللقاءات بألقاب تفخيمية، على أنه الشاعر الكبير أو شاعر العصر، بل كان يكفيه ذكر اسمه دون مقدمات. العلاقة الظاهرة بينه وبين إخوته كانت تبدو كبيرة ولكنّ تميّزه بالموهبة فصله عن العالم كلّه. كان يدين بالولاء لأهله ويحبهم ولكنه لم يكن يشبههم. لقد أخذ من عائلته الكثير وأعتقد أنه ورث المواقف الوطنية والقومية من والده، وكذلك الكثير من الحساسية والرقة من والدته، كما أن أخته وصال أثرت بحادثها فيه كثيرا. في ما يتعلق بشعره فهو نسيج كفاحه وهو إنجازه وحده بالطبع. لم يكن هناك الكثير من الأشياء المشتركة مع إخوته. أما أخته هيفاء، التي أضحت أخته الوحيدة بعد وفاة وصال، فكان يشعر نحوها بحنان وعطف حقيقي. كان ذلك جزءا من تفكيره في رفعة المرأة. كان يدللها دائما بحكيه وتصرفاته معها، وعندما توفي قالت تنعيه: ذهب صاحب الكلام الجميل. كان يتصل بها ويقول لها: عندما أحكي معك كأنني أحكي مع أمي.
تزوج نزار قباني من والدة هدباء، السيدة زهراء آقبيق، في عام 1945، وقد تطلَّقا بعد ذلك بسنوات، رغم المحبَّة الكبيرة التي جمعت بينهما. أحببت أن أدخل هذا الموضوع الحساس، الذي عالجته هدباء بلطف وروية قائلة:
كان زواج أبي بأمي هو زواج الحب الأول عندما يكتشف المرء أحاسيسه، وقد أحبها بصدق وأحبته بصدق، وإن حصلت خلافات في ما بعد فمردها مفاهيم سائدة في المجتمع حول الزواج والتملُّك والمشاركة، وإذا تطلَّقا فهذا لا يعني وجود عيب بأي منهما. أمي امرأة طيبة وسيدة بيت وزوجة محبة وتمتلك طاقة هائلة من العطاء والحنان، وهي رائعة بإخلاصها الذي تابعته حتى الآن. لقد حافظت على ذكرى أبي بعد الطلاق وجعلتنا دائما في صفِّه. كانت المعجبة الأولى به، ونحن كان لدينا الاستعداد لمحبته، ولكنّها لو أرادت أن تكرهنا بأبي لفعلت لأنّ الانفصال تمّ وأنا وأخي لا نزال طفلين. أنا كنت في الرابعة وأخي في الثانية. قبل موت أبي بشهر مرضت أمي في دمشق وأردت الذهاب لرؤيتها فطلبت مني البقاء مع أبي في لندن رغم أنه ليس لديها غيري.
قلت لهدباء: أعتقد أن هذا الحب قوي جدا فالزمن والطلاق لم يستطيعا تغييره تجاه نزار؟
أما النساء فلم يفهمن للأسف هذا الجانب من شخصيته وحاولن مزاحمة القصيدة وفشلن جميعا
كان الشعر دائما شيئا سريا بالنسبة له، فكان يخفي ما يكتب ولا نراه إلا منشورا
ـ الذي زاد هذا العامل نجومية أبي، فهو موجود في كل مكان، وكأنه حاضر دائما في حياتها. نحن كنا استمراره، ومأساة وفاة أخي جعلها تتمسك بنا، أولادها وزوجها هم فكرتها الأولى وقد بقيت وفيّة لهذه الفكرة. لقد جاءت فاجعة موت أخي توفيق لتكون المأساة المشتركة بين أمي وأبي، وبقيت حتى وفاته مقتسمة بالتساوي بينهما.

إذا لم يعجبكم فاهجوه!
عدت إلى موضوع «خبز وحشيش وقمر»، القصيدة التي كان لها وقع القنبلة على الشارع العربي آنذاك في الخمسينات، راغبا في صنع مقارنة بين الماضي والحاضر. قلت لهدباء: كيف تعامل زملاء قباني الدبلوماسيون معه أثناء عاصفة قصيدة خبز وحشيش وقمر؟
ـ عمله الدبلوماسي كان وظيفة (8) وكنا نحس أن لا علاقة حقيقية له بهذا العمل، ولكنه كان يعمل بإخلاص. كان هناك تعارض بين العمل الدبلوماسي وحرية الشعر، ولكن مع ذلك فالوضع العربي كان يتيح مجالا من حرية التعبير لا تتعارض مع عمله آنذاك. حين نشر والدي قصيدة «خبز وحشيش وقمر»، وحوسب عليها في البرلمان، وفتح وزير الخارجية ملفه قال للمشتكين عليه: نزار كتب قصيدة هجاء وإذا لم تعجبكم قصيدته فاهجوه، أما بالنسبة لعمله فهو لم يرتكب خطأ وظيفيا لأحاسبه. وعندما ذكر والدي هذه الحادثة ونشرت في مقالته في جريدة «الحياة» منعت القصيدة، ولم تنشر، وهكذا تغير الزمن إلى الأسوأ وصارت الذكرى نفسها ممنوعة، وبينما كان نشرها قبل 40 سنة مسموحا، وكان هناك جدال ونقاش في الصحف حولها، نجد الآن أن الأحوال ساءت ومنعت القصيدة بعد 40 سنة من نشرها. رئيسه في العمل، وسفير سوريا السياسي السوري فارس الخوري قريب الزعيم السياسي السوري فارس الخوري قال له وقتها إذا كنت خائفا من القصيدة فاعطني إياها لأنشرها باسمي وأدفع لك ثمنها ألفي جنيه! هكذا كان التعامل مع القصيدة سابقا، وهذا هو التعامل معها الآن. الرقابة الآن صارت أشرس وأكثر خوفا وغباء!
مع ذلك ترك العمل الدبلوماسي وذهب للاستقرار في بيروت، لماذا؟ سألت هدباء.
ـ بيروت كانت عاصمة للنشر والثقافة في منتصف الستينات إلى منتصف السبعينات كانت سنوات بيروت الذهبية، وبيروت تعج بدور النشر والكتب والمثقفين. كانت تستقطب وتجذب، وكان من الطبيعي لأبي أن يحطَّ رحاله في هذا الجو. وقتها قرر مع سهيل إدريس، صديقه وصاحب «الآداب»، ومنير بعلبكي صاحب «دار العلم للملايين» عمل مشروع مشترك. كان لديهم حلم أن يبنوا بناية ويؤسسوا دار نشر كبيرة تصير بمصاف دور نشر عالمية كبيرة، مثل «غاليمار» في فرنسا أو «بنغوين» في بريطانيا. كان أبي قد أسس قبل ذلك «منشورات نزار قباني»، وهذه الدار نشرت شعره فقط، وربما ظن البعض ذلك أنانية منه، ولكنه بالحقيقة أسسها ليشرف على كل شيء يتعلق بطباعة شعره. لم يكن يريد أن تظهر أي غلطة في كتبه لأنه كان دقيقا جدا. مجيء أبي لبيروت كان عام 1966 بعد أن استقال من العمل الدبلوماسي، وقد لامه صديقه الشاعر عمر أبوريشة على ذلك وقتها، وكان رده أن الشعر يحتاج تفرغا وأنه لا يقبل شريكا. وقد فتحت بيروت له أبوابها، وكتب وقتها أن لا جمارك على الشعر في بيروت، وقام بشحن أغراضه من إسبانيا متجها إلى لبنان وقائلا للبنانيين: أنا نزار قباني. أريد أن أعيش هنا. كان دائما يشيد بهذه الحرية التي أعطتها بيروت له، وأنها لم تضغط على أصابعه أو منعته من الكتابة، وقد أعطت الشعور والحرية لشعراء آخرين مثل أدونيس ودرويش وغيرهما من الذين اختاروا العيش فيها.
الملكة بلقيس
حياة نزار قباني في بيروت، فتحت له أبواب الشعر والحياة على مصاريعها، وجعلته يعيش سعادة التحقق والانتشار والإعجاب الكبير به كشاعر، كما أنها كانت محطة جديدة للاستقرار العاطفي والزوجي، حيث تمكن بعد عدة سنوات من الحب بينه وبين شابة عراقية جميلة تدعى بلقيس جميل الراوي (7 سنوات حسب نجود الراوي أخت بلقيس)، من الزواج، وقد علَّق على هذه الحادثة في إحدى أمسياته في بغداد قائلا: في عام 1969 جئت إلى بغداد لألقي قصيدة، بعد قراءة قصيدتي التقيت بقصيدة ثانية اسمها بلقيس وتزوجتها، وعلى هذا فإن لقاءه الأول ببلقيس كان عام 1961. ها هنا أيضا نجد الخيط الأسطوري الذي يحيط بالشاعر مجددا، بدءا من اسم بلقيس ذي الرنين العتيق لملكة اليمن القديمة، مرورا بهذه اللمسة الجميلة لالتقاء الشام بالعراق من خلال زواج حب، ونهاية بالحدث الخطير لرحيل بلقيس، ودلالاته التي ربطها نزار بعد ذلك، محقا، بانحطاط الوضع العربي. كيف رأت هدباء حدث زواج أبيها ببلقيس؟
ـ تزوج أبي بلقيس عام 1969. قبل زواجه بسبع سنوات كان في بغداد حيث تعرف عليها وطلبها للزواج، ولكن أباها رفض ذلك وكانت مبرراته أن أبي لم يكن عراقيا، وأنه، ثانيا، شاعر، بل إنه شاعر صوفته حمراء (9)، فرفضه دون نقاش. بقيت بلقيس على العهد مع أبي، ورغم أنها لم تقاوم رفض أبيها ولكنها عاقبته بصمت وذلك برفض الزواج من أي شخص آخر إلى أن رجع أبي مرة ثانية إلى بغداد حيث شارك في مهرجان شعري، وفي قصيدته التي ألقاها على ما أظن قال تركت وجه حبيب في الأعظمية، وفي اليوم اللاحق للأمسية تحادث الناس في ذلك، وكان قد قرر خطبتها مجددا فدخل مع سبعة سفراء عرب أصدقاء له إلى الأعظمية. سيارات السفراء السبعة كانت فخمة ودبلوماسية طبعا، فظن الناس أن حدثا عظيما حصل في الحي، وأحرج الأب من تدخل الوجهاء ووافق على زواج أبي ببلقيس، لأنه عرف أن ابنته سترفض أي زواج آخر طوال حياتها.
ـ وكيف كان تأثير زواجه ببلقيس على حياته؟
ـ أثر بلقيس الكبير أنها لم تتدخل بينه وبين شعره، فقد عرفت أنها في المرتبة الثانية، وهذا جعلها تكون في المرتبة الأولى وهي كاسمها كانت ملكة حقا. بلقيس احترمت ما هو عليه. في الأمسيات الشعرية الكثيرة عندما كانت تحيط به المعجبات كانت تنسحب، ومرة انتظرته خارج قاعة الأونسكو لفترة طويلة. لم تكن تقوم بسؤاله لماذا فعلت هذا أو ذاك الأمر. كانت تقول إنها تزوجته كنزار قباني. لم تكن تحاول رؤية أوراقه، وعندما كان يأتيه هاتف من معجبين كانت تناديه وتخرج من الغرفة. وقد أراحته كثيرا كشاعر لأنه بالحقيقة لا يحب أن يكون زوجا، فوظيفته الأولى في الحياة بالنسبة إليه هي أنه شاعر، ولكن بما أنه دخل لعبة الزواج والأولاد، ولأنه يحب البيت فقد تزوج. بلقيس احترمت ضرّتها: الشعر. كان يسألها أحيانا أن تقرأ شعره الذي كتبه قبل نشره فترفض وتقرأه منشورا.
لقد تغيّرت حياتنا مع مجيء بلقيس إلى الأجمل خصوصا بعد أن امتلأ البيت بضيفين جميلين بعد ولادة زينب وعمر. بلقيس نقلت ثقافة جديدة. كان لديها كرم واندفاع العراقيين وأخرجت أبي من عزلته. كنا ندعو محمود درويش على الغداء، وكان أبي بعد الغداء يحب القيلولة فيقول له: خاطرك بدي نام. فكان درويش يأخذ القهوة مع بلقيس والأولاد. وقد قال درويش عن بلقيس مرة: كانت صديقتي، لأنها كانت تحل أحيانا محل أبي بضيافتها، وهو يقول له: أنا تاركك بأياد أمينة، وكان محمود يحب زينب وعمر كثيرا. عندما خرج محمود من فلسطين إلى القاهرة فبيروت احتضنه أبي وساعده على أخذ حقوقه من دور نشر كانت تنشر له شعره دون إعطائه حقوقه لأنه كان في فلسطين المحتلة، فأخذه إلى أصحاب الدور وقال لهم: الآن سوف تدفعون له حقوقه. كان أبي ينظر له كابن ودرويش ينظر إليه كأب، وأعتقد أن درويش تعلَّم الكثير منه في طريقة تعامله مع الحياة.
علاقته بالشعراء
علاقة نزار قباني بزملائه الشعراء علاقة معقدة، فهيمنة قباني على الذائقة الشعرية للقارئ العربي جعلت منه موضع حسد وهجوم وغيرة، يغذيها ربما ترفع نزار وتعاليه وابتعاده عن الانخراط عن هذا اللوبي الثقافي أو ذاك، وكذلك ابتعاده عن العلاقة مع الأحزاب المهيمنة على الساحة الثقافية، وعلى رأسها الأحزاب اليسارية. نزار كان يستقوي على الهجوم عليه وعلى شعره بشعره نفسه، وبسطوته التي وفرها شعره له عند أصحاب القرار، فهو بشكل ما أحسّ بتجاوز الدوائر الصغيرة للعلاقات التي تحكم غيره من الأدباء. لا يعني ذلك انعزاله عن زملائه من الشعراء فقد كان له أصدقاء بينهم يجمعه بهم احترامهم له واحترامه لهم. عن هذا الموضوع تقول هدباء:
لم يكن أبي يغار من أحد. كان يحكم على الشعراء حسب جودة أعمالهم وليس حسب أي شيء آخر. وكان له الكثير من الأصدقاء الشعراء.
رحيل الابن
علاقة نزار بابنه توفيق علاقة خاصة جدا، وقد كانت واحدة من أكبر الضربات التي أثرت عليه، إن لم تكن أكبرها، ومن ينظر إلى توفيق يرى إلى هذه المعجزة الغريبة للطبيعة الإنسانية، فهو يبدو نسخة من أبيه، ونظراته الحالمة كأنها نظرات نزار في شبابه. وفاة توفيق هي نقطة الذروة في الخط التراجيدي الذي سيخضع الشاعر للتجربة الهائلة للقدر، يجعله يشعر، حتى وفاته، بالمعنى الكبير للفقد والخسران.
تتأثر هدباء كثيرا لذكر أخيها المتوفى، فذكراه تعيد ذكرى أبيها وكل من فقدتهم، ولذلك فقد حاولت أن ألامس هذا الموضوع دون أن أسمح لكل تداعياته بالحلول.
تقول هدباء: موت توفيق كسر ظهره وكسر أمي وكسرني. حتى موت توفيق كانت الحياة حلوة، وبعده عتمت الحياة. كنا في لندن للعلاج وتوفي توفيق خلال الرحلة واضطر أبي أن يلمّ أغراضه ورجع مثله بالطائرة إلى دمشق، وعندما توفي أبي دفن إلى جانبه.
هل بدت تغيرات معينة على أبيك بعد وفاة أخيك؟
ـ لم يكن أبي دراميا. كان يصغر الأشياء الكبيرة ولم يكن استعراضيا بمشاعره فلا تستطيع رؤية التغيرات عليه. يمكنك أن تجد تأثيرات وفاة أخي في قصيدته التي قالها فيه والتي أعتبرها من أعظم شعره. قلت له: كيف استطعت أن تمشي وراءه في الجنازة؟ قال: كنت أمشي معه كتفي بكتفه. ولم أفهمه وقتها، ولكنني فهمت الآن عندما توفي فقد أحسست أنني أمشي معه وكنت أقول في نفسي: الآن تنتهي هذه الزحمة ونعود إلى البيت. بعد عودته من جنازة توفيق لم يعد يتكلم عنه.
الضربة الثانية الكبرى بعد وفاة توفيق كانت وفاة بلقيس، نتيجة انفجار في السفارة العراقية ببيروت، وقد جسّدت هذه الوفاة بالنسبة لنزار الفاجعة التي فجّرها انحطاط الزمن العربي، وكانت عمليا النقطة التي ختمت قدرته على الاستمرار في العيش في بيروت، ملتقى هذه الخلافات العربية، التي دفع هو شخصيا ثمنها، كشاعر وإنسان وأب.
سألت هدباء، المترددة في الحديث عن هذه الأحزان، عن تأثير وفاة بلقيس على نزار فقالت:
وفاتها كانت مأساة كبيرة تركت أثرا كبيرا عليه. بالحقيقة وفاة بلقيس خربت بيتنا إضافة إلى حرب لبنان. لقد خسر أبي زوجته ومدينته وتشرد طفلاه زينب وعمر، فهما كانا بحاجة إلى رعاية أمهما. الحياة ما عادت نفسها بعد موت بلقيس، ومن بعد ترك بيروت. لقد ترك بيروت بعد وفاتها بسنة. حاول الصمود لفترة ولكن كان الأمر قد انتهى.
المآسي مقابل الشهرة
وحول حدس نزار بهذه الحادثة الخطيرة، أي وفاة بلقيس، قالت هدباء: حدسه بالناس كان رهيباً. لم يكن يخطئ أبداً. كان يرتكب أخطاء فادحة أحيانا لأنه بقدر ما كان عارفاً بالشِّعر كان جاهلاً بالأمور الحياتية كأن يشتري بيتاً دون أن يرى خارطته، وذلك يعتمد على رؤيته الأولى فإذا أحب البيت قرر شراءه. لكنه لم يكن يخطئ بالناس، وعندما كان يحسُّ بوجود خطأ ما في شخص فإنه دائماً يكون على حق. بالنسبة إلى الحدس فإن الكثير من شعره حصل لاحقاً. كنت أنا وأختي نخاف من قدرته هذه على النفاذ إلى دواخل النفوس. كان يعرف كل شاردة وواردة في دواخلنا. كان يقول إن كل إنسان نصفه رجل ونصفه امرأة، أما المرأة فكلها رجل! ربما كان يقصد أنها أقوى من الرجل.
كان أبي يتقبَّل المآسي على أنها قضاء وقدر، ولكن بعقل الفنان وحيرته كان يقول أحيانا: ربما كان هذا بسبب شهرتي. كان حزنه داخلياً، ولكنه كان يقول إن الله أخذ منه بقدر ما أعطاه. وبالتالي كان يتقبل الحوادث، وأنا أعتبر ذلك منتهى الإيمان.
قلت لهدباء: في دراسة لمحيي الدين صبحي(10) يقدم فرضية تقول إن البنية الشعرية في قصائد نزار بنية مكانية، بحيث أن الشاعر يختار نقطة معينة لا يبرحها، بل يحاول أن يستجلي كل أبعادها حتى يستفرغ كل ما لديه من إمكانيات شعورية وانفعالية عن طريق التجسيد، وأعتقد، إذا لاحظنا تعلُّق نزار بالمكان الذي يعيش فيه: دمشق، بيروت وأخيراً لندن، أنه هو أيضاً لا يحب أن يبرح المكان الذي يأتلف معه .
ـ لم يكن نزار ليترك بيروت لولا الحرب، قال ذات مرة: كنت أخترع ألف عذر لأعود إلى بيروت، وقال: كنت أعود إلى بيروت لأن قطع علاقتي معها يعني قطع جميع شراييني. نزار لم يختر المنفى لأنه يحب المنفى فهو يعتقد أن المنافي شرَّدتنا. يزعجه كثيراً مثلاً أن إخوتي لا يعرفون شعره، وهذه مأساة بالنسبة إليه.

دقة قديمة
ومن حديث الموت إلى حديث العشق، قلت لهدباء: حدثينا عن نزار العاشق والمعشوق…
ـ أبي كان من روَّاد المدرسة القديمة. كان شديد الأناقة في ملبسه وشخصه. كان إنساناً لطيفاً لم يسمح لنفسه في حياته بأن يبتذل نفسه في وجود امرأة. لا تحصل معه حالات تولُّه. رأيته كثيرا في جلسات جميلة. ودائماً كانت لديه معجبات وكذلك معجبون، وصار المعجبون بعد ذلك أكثر من المعجبات. صاروا يناقشونه لأنه أيضا يحكي ذواتهم ومشاعرهم. بما أنني رافقته سنينا طويلة مع معجبات ومعجبين فقد لاحظت أنه لم يعد يميز في علاقاته بين الرجال والنساء، فإذا تطرق الرجال إلى حديث مشوق فإنه يهتم ويندفع ويترك أي موضوع آخر. ذات مرة جاءه صحفيان واستذكرا معه الكثير من شعره ونثره، فكان مسروراً جداً. إن حديث الشعر والفن حديث دائم لديه. جزء من شفائه في المرة الأولى لمرضه كان بسبب الكم الهائل من الحب الذي وجده حوله.
في العلاقات مع البشر لم يستغل أبي شعره. أعتقد العكس؛ شعر نزار هو الذي استغله. كان يقول لي دائماً: الفنُّ أخلاق وإذا أراد الإنسان أن يستغل الموجة فسرعان ما ينكشف عندما تنحسر. وكان يقول: «المجد بده كتاف».
أبي كان أخلاقياً بالفطرة ولم يكن حتى يتصنّع هذه الأخلاقية أو يستخدمها لقناعته بفائدتها للفن. أخلاقيته كانت طبيعية، وكان يستطيع -لو أراد- استغلال شعره في علاقاته مع النساء، ولكنه كان من أتباع العلاقة بامرأة واحدة.
قلت: حدثينا عن طباعه الشخصية التي لا يعرفها الناس، فقالت: ما عدا صراحته المعهودة، وأناقته، ودقته، فقد كان خفيف الدم، سريع البديهة، جميل الصوت. كان طريفاً جداً و»يلقطها على الطاير» .
مواقف محرجة
قلت: قال أحد النقاد إن نزارا يستخرج الدون جوان الكامن في كل رجل، والدون جوان الكامنة في كل امرأة، أتذكر هنا حكاية رواها عن معجبة به طلبت منه على مرأى من الجمهور أن يضع توقيعه على ساقها، كيف تفسرين ذلك، وهل كان يتعرَّض لمواقف محرجة مع النساء؟
ـ هناك أكثر من موقف محرج تعرض له حسب ما أذكر، فذات مرة في بيروت كانت جارة لنا تطلّ على أبي من البلكون وتراقبه. كان أبي يحب المشي في البلكون، والبلاكين قريبة من بعضها البعض. وكانت هذه المرأة تشاهده لسنين، وذات مرة استجمعت شجاعتها ودخلت بيتنا، فأدخلتها المربية عليه لتبادره بالسؤال قائلة: أستاذ نزار أنا جارتكم وأريد أن أسألك شيئا. قال لها: اسألي ما تريدين. قالت: هل تأكل وتشرب وتنام مثلنا؟ قال لها: بالطبع أنا آكل وأشرب وأنام مثل كل الناس. قالت: إذا كنت إنسانا مثلنا فلماذا لا تحكي مثلنا؟ ثم تركته مذهولا ومضت.
كان بعض المعجبين به يسألونه أحياناً أسئلة محرجة أو يطلبون منه طلبات محرجة مثل تلك الفتاة الطرابلسية الجريئة. حكت لي حنان الشيخ عن زيارة قام بها نزار لصيدا وكانت تريد الذهاب لرؤيته مع صديقة لها فلم تستطيعا لأنهما كانتا صغيرتين، فطلبت من جدة رفيقتها مرافقتهما لرؤية أمسية نزار قباني الشعرية، فاستنكرت الجدة الأمر وسألتهما: ما هو الشعر وهل يستأهل تحمل المشاق من أجله؟ ترجّت الفتاتان الجدة حتى وافقت. دخل نزار القاعة بطلعته البهية وإذا بالجدة تفتح عينيها وتصغي بانتباه لما بدأ يلقيه من شعر، وما إن انتهى حتى كانت بحال مختلفة وأضحت إحدى المعجبات بنزار قباني.
المواقف المحرجة كانت غالباً نتيجة الربط بين ما يفهمه الناس من الشعر ونزار، من خلال تحويله إلى أسطورة. كان الكثيرون جدا يحضرون له أشعارهم فيأخذ مسوداتهم ويقرأها «بكل ضمير». حب أبي الأساسي كان مخصصاً للشعر. كان رأي عبدالوهاب أن نزارا شاعر بالدرجة الأولى ولأنه فنان فإنه لم يحب المرأة بقدر ما كانت عينه كاميرا لاقطة للصور التي يريدها لكتابة القصيدة، وأنا لا أعتقد أن الأمر بهذا التطرف، ولكن لفكرة عبدالوهاب وجاهة .
ـ هل يعني ذلك أن نزارا لم يحب النساء حقا بقدر حبه للشعر، فهو يقول مثلاً: لقد فشلت علاقاتي مع أكثر النساء لأنهن كن يعتبرن الشعر ضرة لهن؟
ترد هدباء: لا؛ كان إنساناً وأحب مثل أي إنسان آخر. ولكن عندما تقترب المرأة من القصيدة وتعتبر نفسها أهمَّ من الشعر يوقفها لأنه كان يخاف على القصيدة. لقد قال هذه الفكرة في الكثير من قصائده بما معناه: اقتربي من أي شيء وحاذري الاقتراب من القصيدة.
ولم يكن يحب الالتصاق كثيرا؛ كان يحب ترك فسحة معينة له: ابتعدي قليلا كي أحبك كثيراً. كان الشعر في داخل أبي يدافع عن نفسه، وبعض النساء يُخيّل لهن أنهن يستطعن التعايش مع الشعر ولكنهن يبدأن بعد ذلك محاولة تملُّك الشاعر وإبعاده عن الشعر. أبي كان الأكثر التزاماً بالشعر ولم تكن لديه مساومة على هذا الموضوع. كان الشعر البشع من وجهة نظره يرمى والشعر الجميل يوضع على الرأس. ليس هناك شيء لديه قبل القصيدة أو أهم. وعندما كانت المرأة تحاول القضاء على القصيدة كانت تتحول إلى قربان للقصيدة. لم يكن النوم يجافي أبي بسبب امرأة ولكن إذا لم يأته الشعر يُجافِهِ النوم.
قلت لهدباء: لقد انتُقد نزار كثيراً على قصيدة الرسم بالكلمات واعتُبر شهريارا…إلخ، ما رأيك في هذا الموضوع؟
ـ نزار كان يكتب أحياناً عن أحداث متعلقة به وأحيانا أخرى عن أحداث متعلقة بغيره. إلا في المرحلة السياسية عندما صارت الأحداث تهزه، أما في المواقف الغزلية فكان يبالغ في الموقف ليحدث صدمة في المجتمع، فإذا استفادت منه المرأة عُدَّت المحاولة ناجحة.
عندما يسألونه إن كان يعرف الطبخ كان يقول: طبعا، وقد علمت بناتي على ذلك
مرة توقف عن الكتابة 6 أشهر وذلك قبل 5 سنوات من وفاته وكان لديه حينها إحساس بالإحباط الشديد
“جنيناتي” الشعر
ومن السياسة والأمور الشخصية أحببت الانتقال مع هدباء إلى الشعر في علاقته ببيئته. قلت: يبدو نزار من خلال شعره على علاقة مميزة بالنبات.
ـ كان «جنيناتيا» عظيما. كان للنبات والروائح تأثير كبير عليه. عندما كنا نتمشى في «الهايدبارك» كان يمازحني ويقول: نحن شعب يقرر علاقته بالأشياء من خلال أنفه، وغالبا ما كان يلجأ إلى التشبيه المعتمد على ذاكرة الرائحة قائلا: رائحة هذا مثل رائحة تلك. كان يهتم بالزريعة وكان يقول لزينب: لا تنسي سقي الزريعة. فتقول له: المطر يكفي. فيؤكد لها أنه لا يكفي. نباتاته ما زالت موجودة.
كانت علاقة أبي بالماء والنبات واللون والرائحة مهمة؛ فقد ربي في بيت فيه 300 نوع من النبات وخاصة الياسمين، وعندما كانوا يجتمعون في بيت جدي -لأن الاجتماعات كانت وطنية وتقام سراً في الليل- كان الضيوف «يتفركشون» بالزريعة، وتلك مأساة بالنسبة إلى جدتي، فتشتكي وتقول لجدي لقد كسروا شقف الزريعة ، فكان أبي يتألم لتألم جدتي.
كانت له أيضا علاقة مميزة بالطبخ والترتيب وكان يعرف كل أسماء النباتات، وجاء ذلك ربما من فضوليته، كما كان يعتبر الطبخ فناً: إضافة أشياء إلى أشياء وذوق وطعم وصبر. وكان خطأ كبيراً بالنسبة إليه ترك الطبخة على النار بدون مراقبة. كان يضحك عليَّ لأنني لا أعرف الطبخ. كانوا يقولون له: أستاذ نزار كم أنت مرتب. فيقول لهم: وهل تعتقدون أن الشعر فوضى؟ الكون كله نظام؛ أقمار ونجوم ونظام يمشي بدقة، الله سبحانه وتعالى خلق الكون على نظام فلماذا يكون الشعر مختلفا؟ كل شيء تقوم به يجب أن تحاول أن يكون كاملاً، فإذا انحرفت قليلا يسوء النظام، فلماذا يكون الشاعر متسكعاً أو في المقاهي؟
وحتى عندما ترك وظيفته استمر على نظام خاص؛ كان يستحمُّ ويغيِّر ثيابه صباحاً مثل كل موظف ثم يجلس وراء مكتبه المنزلي ويضع ورقة بيضاء، ويكتب، أو يحاول أن يكتب على الأقل، وبعد الظهر كان يقرأ لعدة ساعات. كل شيء تحت يديه كان منظَّماً ومرتباً، حتى قوائم طلباته إلى السوبرماركت. كان يكتبها كما لو كان يخطط، وإذا أخطأ في كتابة شيء أو غيَّر شيئاً مكان شيء كان يمحيه أو يعيد كتابة الورقة فأداعبه وأقول: إنها فقط للسوبرماركت. فيقول: ولو!. كان فخوراً بأنه يستطيع الطبخ، وعندما يسألونه إنْ كان يعرف الطبخ كان يقول: طبعاً، وقد علّمت بناتي على ذلك. كان ضد التسكع والأشياء الفوضوية التي لا تؤدي إلى نتيجة.
الشعر جافاه مرتين
ومتى جافاه الشعر يا هدباء؟
ـ حصل ذلك مرتين؛ مرةً توقف عن الكتابة 6 أشهر وذلك قبل 5 سنوات من وفاته وكان لديه حينها إحساس بالإحباط الشديد. بالنسبة إليه الموت هو موت الشعر. كان يقول: سأتقاعد، في الوظيفة يتقاعدون. وأقول له: الفنان لا يموت. بيكاسو مات عندما ماتت يده، وكنت أؤكد له: ستظل تكتب حتى النهاية. وهذا ما حصل؛ لقد توقف عندما توقفت حياته. عندما لم يعد يستطيع أن يكتب عرف أنه سيموت. كنت أحرِّضه وأزرع فيه الأمل ولكن عندما توقفت الكتابة مات. لا أتذكر أبي بهذا الانزعاج والإحساس بالضيق.
المرة الثانية كانت عندما مرض، وقد ذكّرته بالمرة الأولى أثناء مرضه لأنه صار يحكي بتشاؤم. أردت أن أوحي إليه بأنه ليس مريضاً، على الأقل بالنسبة إلى الشعر، ولكنه كان يعتبر نهاية الشعر نهايته الحقيقية، وكان مرات يقول لي: سأعتزل الكتابة. أخاف أن يكون الناس قد ملوا مني، وأنني أخذت وقت غيري. وكنت أقول له: ما دمت تكتب فأنت موجود، لقد خلقت شاعراً وستموت شاعراً.
كان يتذكر فيلم تشارلي تشابلن «أضواء المدينة» عندما يتوقف الناس عن التصفيق للممثل فيقوم بإطفاء الأضواء والانسحاب، وكنت أقول له: الناس ما زالوا يحبونك، والناس لا يغشّون فأنت لا تستطيع إعطاءهم كلاما مكرورًا. وقد كان يحترم الناس أكثر من أي شيء آخر .
لهدباء أخوان من أبيها، هما عمر وزينب، وعندما توفيت بلقيس أمهما أحسَّت هدباء بعلاقة أكبر من الأخوة وأقرب إلى الأمومة وذلك بسبب فارق العمر بينها وبينهما، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نتيجة العاطفة التي تملَّكتها، والأسى الذي أحست به تجاههما، وتجاه بلقيس وأبيها، سألتها كيف كانت علاقة نزار بابنيه هذين، وماذا يفعلان حاليا؟ فقالت: كانت بلقيس ملكة كاسمها في لطفها وتعاملها مع الناس ومعنا بالذات، ولذلك كأنها تركت لي زينبَ وعمر أمانة بعد وفاتها، فرعيتهما كأطفالي، ليس كإخوة فقط، وأنا أعتبر أن لدي أربعة أولاد؛ زينب ومايا وعمر وتوفيق.
ـ وأين هما الآن؟
ـ عمر يعمل في دبي وكذلك ابني توفيق، وزينب تدرس في الجامعة هنا في لندن وكذلك مايا في لندن. أي أن البنات معي والشبان في دبي، وخلال مرض أبي الأخير تغيرت المعادلة إذ شكلنا فريق عمل لنرعاه، فترك أخي عمر عمله في دبي وانضم إلينا نحن البنات في لندن بينما تركت أختي زينب جامعتها وابنتي مايا عملها وانهمكنا كلنا في رعايته على مدى الليل والنهار؛ نجلس برفقته نرعاه ونحبه، نعطيه الدواء ونطهو طعامه ونستقبل ضيوفه، عمر يسامره وتوفيق على الهاتف دائما يطمئن على صحته. ويقول: هذا ليس عدلا، أنا هنا مشغول البال وأنتم كلكم معه. وخلال هذه الفترة صمم ابني توفيق الغلاف الأخير لكتاب أبي «إضاءات» وقد وافق عليه أبي وهو على فراش المرض. كان الأولاد رائعين والعلاقة معهم كانت جميلة جداً وقد اكتسبت بعداً أكبر خلال المرض، فقد شعر هو بالحب والحنان من حوله كما اطمأن علينا وعلى إخوتي وأضاف إلى أمانة بلقيس أمانته هو.
والآن عندما نجلس ونتكلم عنه نتذكر كل بادرة منه، كل حركة، كل كلمة، نتذكر حبه الجمَّ وهو كأنما يودعنا دون أن يدري أنه ذاهب، كان شديد التهذيب، كل كأس ماء أعطيناه إياها يقول بعدها: شكراً. كلَّما رأى وجوهنا حوله يقول: تعذبتم معي! وهو لا يعرف كم كنا نربح الوقت معه. كم كان هذا الوقت من ذهب بل يساوي كنوز الدنيا. الآن نشتاق إليه فأقول لإخوتي، وأنا التي جربت ذهاب الأحباب تباعاً: لا تجزعوا إن الموت هو الشوق المستحيل. ألا نستطيع أن نراهم، توفيق وبلقيس ونزار… فقط ذهبوا لفترة وجيزة. الموت حق وهم فقط سافروا قبلنا.
الآن عندما استيقظ صباحاً وأمد يدي للهاتف لأكلمه أو في العيد لأعايده أتذكر أنه لم يعد لديه هاتف.
كان إنسانا لطيفا لم يسمح لنفسه في حياته بأن يبتذل نفسه في وجود امرأة
عندما كانت المرأة تحاول القضاء على القصيدة كانت تتحول إلى قربان للقصيدة
علاقة هدباء بابنيها، توفيق ومايا، علاقة خاصة ومميزة. توفيق، أخذ حواس الفن وموهبته من القبانيين، وهو يعمل في التصميم والرسم في دبي، أما مايا فنبغت في الأمور الحسابية (وهو الأمر الذي كان يدهش نزاراً ويعتبره موهبة خارقة). سألنا هدباء عن علاقة نزار الجد بأحفاده، فقالت:
كانت علاقة مميزة، ليس لأنها علاقة جد بأحفاد، فقد كان ناسياً علاقة الجد بالحفيد، فحتى ارتباطه بنا لم يكن ارتباط الأب بالأبناء، بل علاقة الصداقة والاحترام، فأنا وزينب كنا نساء في حياته وطبق علينا قاعدته في احترام المرأة، أما عمر فينظر إليه ليس بمنظار أب يحنو على ابنه بل على طريقة أب يحترم ابنه، وهذا تدرّج على أحفاده، فقد نظر إلى مايا وتوفيق نظرتين مختلفتين فهو كان يحترم مايا بشكل كبير، وكان معجبا بها خصوصا لأنها تعرف الحساب والرياضيات، وهو لم يكن يعرف الحساب.
ولداي كانا يدرسان في مدرسة داخلية بلندن وعندما كانا يأتيان في الإجازات كان يأتي ليسلّم عليهما. كان يدعونا إلى الغداء، وكانا يصلان يوم الخميس فيظل ينتظر معي حتى يصلا، وفي اليوم الثاني كان يأتي ليسلِّم عليهما. كان كما قلت يحترم مايا ويستشيرها في أشياء ويعتبرها عبقرية، فهو لا يعتبر نفسه عبقريا لأنه يكتب الشعر، فهذه كانت موهبة طبيعية لديه.
أما بالنسبة لمايا فكان يتعجّب ويتساءل كيف تستطيع أن تحل المعادلات الرياضية وتحسب المسائل المعقدة؟ والأمر نفسه بالنسبة لعمر، أما زينب فهي فنانة أيضا وقد درست فن تصميم الأزياء كما أنها ترسم، وقد صممت لأبيها غلاف أحد كتبه! أمّا بالنسبة لتوفيق فكان رقيقا معه لأنه كان يعتبره النقي والصافي لأنه كان مكشوفا وواضحا، واختار طريق الفن لأننا كلنا في هذه العائلة لدينا هذه اللوثة. كان مع ذلك لا يشجع توفيق على اختيار طريق الفن، وعندما نناقشه في ذلك يقول «لقد تعبت». نقول له «لقد نجحت». فيقول «ليس بثمن قليل». ومع أن توفيق شاب مبتدئ فقد وافق أبي أن يعطيه غلاف كتاب له ليصممه. طبعا أبي يؤمن أن الطباع أحيانا لا يمكن تغييرها. كان يقول لي «لا تغيري الناس. ابحثي عن شخص مختلف بطباعه». كان يعتبر أن توفيق فُرضت عليه هذه الحالة من الحساسية. الفن بالنسبة له قلق وإحساس وعذاب ومعاناة مع الجمال والمجد، ولكل هذه الأشياء كان يخشى عليه ولكنه لا يحاول فرض رأيه عليه وإن كان يخشى عليه من المعاناة. أمّا مايا وعمر فعالمهما عالم الكمبيوتر وصارا يتخاطبان مع العالم عبر الكمبيوتر. نزار كان يخاف من الحساب والكمبيوتر ولكنه كان يعجب بمن يدخل هذا العالم. التكنولوجيا لم تدخل إلى علاقته بالكتابة. كان دائما يكتب بالقلم والورقة والـ»تيب أكس» هو الشيء الأكثر تكنولوجية في حياة أبي. كان يتزلزل عندما ينصحونه باستخدام الآلة الطابعة أو الكمبيوتر كما لو أن الشعر سيفارقه لو فعل.علاقته بأحفاده كانت علاقة ناس بناس، وخارج الحب الذي يجمعه بهم كان هناك إعجاب بمداركهم واحترام لمواهبهم.

لن أكون متقاعدا كلاسيكيا
قلت لهدباء: في سؤال قدّم إليه قبل وفاة بلقيس بأسبوع، ورد عليه بعد ست سنوات، قيل له: كيف تتصور الشيخوخة ومتى يمكن أن تعتبر نفسك متقاعدا؟ قال وقتها «أما متى أتقاعد عن الكتاب فهو اليوم الذي سينسحب فيه جمهوري من القاعة ليبحث عن نجم جديد. أما كيف سأقضي حياة التقاعد، فإنني لا أعرف أن ألعب الورق ولا الشطرنج ولا الدومينو ولا البلياردو ولذلك فلن أكون متقاعدا كلاسيكيا يشرب القرفة واليانسون، في نادي المتقاعدين». هل تحقق ما قاله عن شيخوخته وكيف كانت؟
ـ تحققت نبوءته كما تحققت كل نبوءاته فقد كانت لديه قدرة هائلة على استباق الأحداث وعلى اكتشاف الناس. كان يحب أن يحكي في المسائل العامة. لقد زادت حدة ذكائه مع ازدياد عمره، وكانت الأحداث التي تحصل في العالم العربي تزعجه، ولكنها لم تجعله عصبيا كشخص لم يعد له جَلَد على المواقف المتكررة في السياسة والمصائب التي يتعرض لها العرب. كانت أحداث الجزائر تميته كل يوم وأحيانا كان يُضرب عن قراءة الجرائد من إحساسه الشديد بالألم.
ـ وكيف كانت ذاكرته؟
ـ أبي لم يكن ينسى من يقوم بجميل معه. كانت ذاكرته خرافية. مرة كان مريضا وكان يريد الذهاب إلى مطعم غير مزدحم وصرنا نتحزر، فقلت له «المطعم الذي ذهبت إليه مع الرميحي». فقال لي وهو شبه غافل «مونبليانو!». لقد تذكر اسم مطعم زاره قبل سنين مع أحد أصدقائه. لم يكن ينسى من يحبه ولكنه ينسى من يشتمه، وكان يتقبل النقد بروح رياضية. كان يحاول أن يقنعني بالكتابة، فأقول له إنني لا أحب أن يشتموني. فكان يأتيني بما ينتقدونه به. ذاكرته كانت شعرية. عندما استيقظ من النوم المفروض عليه في مستشفى سان توماس وكان قد أُعطي أدوية منومة ومن أعراضها الجانبية أنها تُنسي الإنسان الألم عندما يستيقظ. صحا أبي بعد 40 يوما. وعندما صحا في اليوم الأول كان تقريبا ناسيا كل ما يتعلق به. لم يعرف أنه كان مريضا ولم يعرف لماذا كنا في المستشفى. نسي وجوده في لندن. تذكرنا نحن ولكن شيئا واحدا لم ينسه. قال لي «بابا القصيدة الأخيرة قرب سريري في المنزل عنوانها هكذا». في الوقت الذي لم يكن يتذكر فيه اسمه وعنوانه. إن ذاكرته شعرية بالدرجة الأولى. في اليوم الأول لصحوته وقفت على الشباك قربه وصرت أتمتم بأبيات قصيدة له فأكمل هو الأبيات.
ـ قال نزار مرة «صحيح أنني كنت محامي النساء ولا أزال، ولكنني لا أسمح لنفسي ولا يسمح لي القانون أن أدافع عن امرأة متلبسة بجريمة الغباء أو الثرثرة أو التسلط أو موت الأنوثة». هل صارت آراؤه أكثر حدة أثناء المرض أو صار عصبيا؟
ـ لا. ما يستثير عصبيته أشياء أخرى، من قبيل ما حصل مرة معه خلال إقامته في المستشفى. فقد كان هناك مريض مصري وكانت زوجته معه لمساعدته، وكانت تسلم أحيانا على أبي قائلة «إزيّك يا حاج!». وكان لا يردّ لأنه كان غاضبا من كونها لم تعرفه. وحينما بدأت الصحف تكتب عن مرضه ووقعت إحداها في يد المرأة ذهبت إليه وبدأت تعتذر ومع ذلك لم يقبل اعتذارها، لأنه اعتبر أن المرأة العربية التي لا تعرف نزار قباني إنسانة جاهلة.
كان نزار قباني، المغامر والحداثي والمتابع للتطورات الشعرية والسياسية، كلاسيكيا في نظرته إلى دور المثقف، فهو، الذي عاين ورأى القدرة التي يملكها والتأثير الذي تؤدّي إليه هذه القدرة على حيوات الناس وتصرفاتهم، كان محقا في اعتقاده بإمكانية التغيير.
تغيير القواعد: النساء يعزين
نزار وبلقيس: شكرا لكم فحبيبتي… وقصيدتي اغتيلت
قلت لهدباء: قرأت مقالة مرة عن تأثير زيارة لنزار إلى مدينة في المغرب وكيف تغيرت حياة الناس بعد هذه الزيارة. كما أنه يقول في أحد كتبه: إن أمسية شعرية يقدمها شاعر تترك حُفرا وشقوقا وأخاديد في أجساد الناس، وكلمات الشاعر لا تتلاشى في الهواء كفقاعات الصابون، ولكنها تتجمع في وجدان الجماهير كالمياه الجوفية. كيف كان يتعامل مع قدرته الكبيرة هذه على إحداث تغيّرات في حياة البشر؟ (12).
ـ كان يتضايق أحيانا من أن كل قصيدة له تؤدّي إلى هزة. ربما الشعراء الآخرون كانوا يتمنون أن يحدثوا هزات كهذه، لكن بالنسبة إليه فالأمر بدا دائما كما لو كان مقدرا له أن يغيّر الأشياء. عندما كتب «خبز وحشيش وقمر» كتبها بعفوية ضد الاستسلام والخنوع. كان يعبر عن الثورة التي يحتاجها الناس، ولذلك اعتبره الناس ناطقا بأصواتهم.
في إحدى المرات واجهه أحد المعجبين به قائلا له إنه سرق قصيدة له. فسأله أبي «ماذا تعني؟». فقال «لقد سرقت الكلام الذي أردت قوله».
الذين حاولوا تقليد بساطته كانت بساطتهم تظهر ساذجة، أما بساطته فكانت شعرا. كان يقول إنه يريد تبسيط قصيدته ليفهمها الطفل. كان يحسّ بما يحصل في المجتمع ويحسّ بالأشياء ويقولها. كان بعض النقاد يقولون له «أنت لا تقدم حلولا». ولكنه لم يكن باحثا اجتماعيا بل شاعرا. أحد النقاد كتب بما معناه: المرأة قبل نزار والمرأة بعد نزار، حيث اعتبر أن المرأة تغيّرت بالتأكيد.
حينما كان جثمان نزار في الجامع للصلاة عليه تطوّعت مجموعة من المتعصبين للصراخ ومحاولة تأليب الناس على الشاعر باعتباره زنديقا، إلخ. ولكن اللافت للنظر أن هدباء وأقارب نزار الآخرين وقفوا في باحة الجامع حيث تلقوا العزاء من الناس، وكانت هذه سابقة لجأ إليها أهل متوفاة بعد شهر، حيث طلبوا أن يقوموا بالشيء نفسه وأشاروا إلى سابقة نزار، فكان نزار يتابع تغيير قواعد الناس المتهالكة والمتخلفة ويقدّم لهم قواعد جديدة إنسانية وجميلة. سألت هدباء عن هذه الحادثة فقالت:
ـ حينما ذهبنا للصلاة على روح أبي اعتبرنا الأمر مفروغا منه؛ أن يدخل الرجال إلى الجامع ليصلوا عليه وأن نقف نحن في الباحة ونتقبّل التعازي به. حاول البعض منعنا بدعوى أن هناك أناسا مشاغبين حاولوا منع الصلاة على أبي، وهذه شكّلت سابقة لأنه بعد أن استاء الناس، حملنا الشكوى لمدير الجامع. قال إن هؤلاء يأتون دائما والخوف من شغبهم جعلهم يستمرون في فعل ما يريدون، وصارت لديهم سلطة على كل ميت ويكفّرون من يكفّرون، وحصلت حوادث قبل والدي، ولكن عندما كُتب عن حادثة أبي حصل نقاش وانتبه الناس للأمر، وبعدها توفيت سيدة معروفة فطالب البعض أن تقف عائلتها للتعزية بها أسوة بما حصل مع نزار قباني. لقد شجع نزار بحادثة موته هذه امرأة مريضة أن تطلق حق التعزية بها، فقد أوصت أن يقوم النساء والرجال بقبول التعازي بها. إذن كان نزار دائما يبدأ الأشياء، وحادثة موته أيضا انتهت بهذه الطريقة الصادمة.
متحف نزار قباني
هل فكرت في طريقة لتكريم أبيك بعد موته؟ سألت هدباء السؤال الأخير:
ـ أفكر في تأسيس متحف أضع فيه أوراقه وأغراضه وأقلامه. كان حريصا كثيرا على الكتابة بالقلم الأسود على الورق الأبيض. أريد أن أضع في المتحف كتبه وقواميسه وعصاه، والمكان الأنسب لذلك هو بيته القديم في الشام. هذه الأشياء ستبقى معي حتى يأذن الله بتحقيق هكذا مشروع فيه صوره، مسابحه، أغراضه، إلى أن يقدرني الله على فعل ذلك.
هكذا انتهى حواري مع هدباء، دون أن يكتمل، لأنه، بالتأكيد، سيفتح دوائر عديدة، لعل أهمّها ضرورة ظهور كتاب عن سيرة حياة الشاعر الكبير الراحل، فرغم أنه كتب الكثير عن نفسه، من خلال كتبه ودواوينه، فإن الحاجة إلى قراءة خارجية، وبعينين موضوعيتين، لحياة وتاريخ هذه الظاهرة العربية الغريبة التي تدعى نزار قباني، حاجة شديدة. نزار قباني هو الآن في دار البقاء، لأنه، منذ عرف قدره ومصيره باعتباره شاعرا، أسس لبقائه في شعور الناس وأحاسيسهم ومخيلاتهم وقلوبهم. لقد سكن في دواخل هذه الأمة وضميرها وأعطى المثل لمعنى أن تتوجّه إلى الناس فيعرفون أنك قاصدهم، وتحبهم فيبادلونك الحب، وتعمل من أجلهم فيجلّونك ويحترمونك.
هوامش
(1) لم يتطرق إلى علمي بعد دراسة لموضوع المقدّس في شعر نزار قباني، ويمكنني التمثيل على الفكرة التي أحكيها بقصيدة تجلّيات صوفية التي هي قصيدة حب يستخدم فيها قباني الموضوع القدسي «يا وحيدا يا أحد/ أعطني القدرة كي أصبح في علم الهوى/ واحدا من أولياء (الصالحيّة)». من مجموعة «أحبك، أحبك… والبقية تأتي». (الأعمال الشعرية الكاملة، الجزء الثاني، ص 181، بيروت، ط. 61986).
(2) هذه البيتوتية على علاقة كبيرة بمفهوم قباني للإبداع الذي يعتبره الشاعر نوعا من الطقوسية والاستسرار، وهو عمل فردي وخاص ولا يتناسب مع الخروج: لقد كنت أؤمن دائما أن العمل الأدبي عمل من أعمال العبادة، له طقوسه ومراسيمه وطهارته، وكان من الصعب عليَّ أن أفهم كيف يمكن أن يخرج الأدب الجادّ من نرابيش النراجيل وطقطقة النرد. (قصتي مع الشعر، ص 216).
(3) يقول نزار قباني عن هذه الحادثة «في صيف عام 1939، وفيما كان رفاق الرحلة من الطلاب والطالبات يضحكون ويتشمّسون، ويأخذون الصور التذكارية على ظهر السفينة، كنت أقف وحدي في مقدمتها، أدمدم الكلمة الأولى من أول بيت شعر نظمته في حياتي». (قصتي مع الشعر، الأعمال النثرية الكاملة، ص 244).
(4) يذكر نزار قباني هذين البيتين في الأعمال النثرية، ويعلق على تأثير خليل مردم بك عليه قائلا «إنني أدين لخليل مردم بك، بهذا المخزون الشعري الراقي الذي تركه على طبقات عقلي الباطن». (قصّتي مع الشعر، الأعمال النثرية الكاملة، الكتاب السابع، ص 227).
(5) يقدم قباني في قصته مع الشعر توصيفا لأم تقليدية محبة من دون حدود ظلت تعتبره طفلها طوال حياتها، ومن ذلك قوله «أمّا أمي فكانت ينبوع عاطفة يعطي بغير حساب. كانت تعتبرني ولدها المفضل، وتخصُّني دون سائر إخوتي بالطيبات، وتلبي مطالبي الطفولية بلا شكوى ولا تذمّر». وهو يقيم مقارنة بين أمه وأبيه معتبرا أباه ثائرا وأمه سلفية، وأنه لذلك نشأ على أرض من النار والماء. (قصتي مع الشعر، ص 256).
(6) يقول نزار عن أبيه «كانت ثروته التي يفاخر بها، حب الناس، لم يكن يريد أكثر. وعندما مات خرجت دمشق كلُّها تحمله على ذراعيها… وترد له بعض ما أعطاها من حب». (المرجع السّابق، ص 255). وفي هذا القول يبدو نزار وكأنه يتنبأ بما سيحصل معه، ويبدو كلامه أكثر انطباقا وشمولا عليه فكأنه كتب أحداث ما بعد موته بقلمه.
(7) يتعرض نزار لهذه الحادثة بكثير من الشاعرية والأسى فيقول «كل أفراد الأسرة يحبون حتى الذبح… وفي تاريخ الأسرة حادثة استشهاد مثيرة سببها العشق… الشهيدة هي أختي الكبرى وصال. قتلت نفسها بكل بساطة وبشاعرية منقطعة النظير… لأنها لم تستطع أن تتزوج حبيبها… صورة أختي وهي تموت من أجل الحب.. محفورة في لحمي. لا أزال أذكر وجهها الملائكي، وقسماتها النورانية، وابتسامتها الجميلة وهي تموت… كانت في ميتتها أجمل من رابعة العدوية وأروع من كليوبترا المصرية… حين مشيت في جنازة أختي وأنا في الخامسة عشرة، كان الحب يمشي إلى جانبي في الجنازة، ويشدّ على ذراعي ويبكي.. وحين زرعوا أختي في التراب… وعدنا في اليوم التالي لنزورها، لم نجد القبر.. وإنما وجدنا في مكانه وردة». (قصتي مع الشعر، ص 254). ويشير في مكان آخر إلى التأثير الخطير لهذه الحادثة على مساره الفكري والشعري قائلا «بعد مصرع أختي قررت أن أنتقم لها بالشعر وبدأت بتحطيم كل التابويات والخرافات السائدة والقناعات التي كانت تعتبر المرأة شريحة لحم يأكلها الرجل بدقيقتين ثم ينكش أسنانه». (الأعمال النثرية الكاملة، الجزء الثامن، ص 540، بيروت، 1993).
(8) سلبيات عملي في السلك الدبلوماسي هي أنه حولني إلى قميص منشى… وفكر منشى… وعقل منشى وحذاء لمّاع. الدبلوماسية وضعت على رأسي قبعة من قبعات العصر الفيكتوري وأخذت طفولتي وشيطنتي وسراويلي الصغيرة. في الدبلوماسية كنت مثل تلميذ معاقب مطلوب منه أن يقف 21 سنة على قدم واحدة. وعندما استقلت من الدبلوماسية عام 1966، بقيت منقوعا في البانيو الساخن شهرا كاملا لأتخلص من خدر رجلي، وأعطيت قبعة الملكة فيكتوريا إلى أولادي، فوضعوا فيها قطة البيت الحبلى وحولوها إلى مستشفى ولادة. (حوار مع هدى المرّ، منشور في الأعمال النثرية الكاملة، الجزء الثامن، الطبعة الأولى 1993).
(9) صوفته حمراء: تعبير شامي المقصود منه أن الشخص الموصوف مغضوب عليه ومعروف أن لديه مشاكل، إلخ.
(10) نزار قباني شاعر لكل الأجيال، المجلد الأول، ص 267-285.
(11) لعل هذا من أسخف الآراء التي لا تزال تتردد حتى بين أدباء ومثقفين، وللأسف ما زلنا نقرأ هذا الرأي حتى الآن، رغم معرفة من يستخدمونه أنه على الصعيد المعرفي والإبداعي، مجرّد تكرار سخيف مقصده الكيد لا المنطق. نزار في قصيدته تلك كان كما في عدد هائل من قصائده يقوم باتخاذ قناع للتعبير عن فكرة، ولو جازت محاسبته على التقمص والتقنع بصوت شخصية كشهريار، لجازت محاسبة الروائيين وكتاب القصة والشعراء على التعبير عن شخصيات شريرة أو ممقوتة، ولا حاجة بنا لتعداد أمثلة.
(12) حول فكرة تغيير العالم يقول «أنا جزء من حركة التاريخ السياسي والقومي والعاطفي في هذه المنطقة، ومن مسؤولياتي أن أغطي بشعري هموم البشر، وحركة التاريخ، وإلا تحوّلت إلى متسوّل شعر». كما يقول «بالتأكيد يستطيع الشاعر أن يغيّر العالم». (الأعمال النثرية الكاملة، الجزء الثامن، ص 570).
*عن مجلة “الجديد”