د. قصي الشيخ عسكر: كورونا (رواية قصيرة) (القسم الرابع والأخير) (ملف/10)

إشارة:
للشاعر والقاص والروائي والباحث المبدع الكبير د. قصي الشيخ عسكر بصمة مميزة في أغلب المجاات الإبداعية التي يرودها. وفي كل حقل يأتي بالأطروحات والرؤى الجديدة لاسيما في مجالات الفن الروائي والبحث اللغوي والأسطوري وغيرها، وله العديد من النتاجات التي تشهد على ذلك. كما تم تدريس نتاجاته الروائية في بعض الجامعات الأجنبية وأُعدّت رسائل جامعية عن نتاجه الروائي والشعري في عدة جامعات. ولأجل تسليط اضواء أوسع على أدبه وتوثيفه ندعو الكتّاب والقرّاء إلى إغناء ملف الموقع عنه بالمقالات والدراسات والصور والوثائق.

إشارة (2):
يغادر قصي العسكر في روايته القصيرة “كورونا” أرضه المعروفة وهي الحبكة المهجرية التي تدور أساسا حول محور واحد بالزمان والمكان. غير أن “كورونا” تخرج على هذه القاعدة الذهبية، وأكاد أقول إنها تخترقها من طرف واحد. فهي تفتح عينا على العالم وتغلق عينها الثانية على التاريخ. فالرواية تتابع علاقات متشابكة بين أفراد أسرة واحدة، موزعة على كافة أرجاء المعمورة، من وسط إنكلترا غربا، والسويد شمالا وحتى الناصرية في العراق شرقا. بالإضافة لدولة الإمارات في الجنوب. حتى أنه يمكن أن تقول إن روايته هذه تدخل في نطاق الأعمال “الإنترناشيونال”
د. صالح الرزوق

10
وجهي مازال في ركن ما
ربما هنا في البيت
أو وفق احتمالات عديدة تركتُه في زاوية ما من شقتي الصغيرة في نوتنغهام.
لا أدري لِمَ لا تثيرني الكورونا في مكان آخر غير نوتنغهام.
لا أخشاها قط .
مازالت بعيدة عنّي.
ولا أفكر أن تلاحقني.
لعل ذلك يعود إلى أن ظهورها المفاجئ حدث أول يوم لي باشرت فيه العمل إذ ذاك دخل الفيروس سباقا بعدد الضحايا مع مدينة جدي الشهيد الذي تفخر به العائلة.
مجرد ذكرى أحملها من جدتي وأبي وأمي..
بعض الأحيان أجد أنها لا تخصني.
منذ تلك اللحظة سخرت من اسم الوباء نفسه..العالم يعنى بالمظاهر ومادام الفايروس يتخذ شكل التاج تحت المجهر فليكن اسمه كورونا،وقبل أن أشتغل مع المعاقين حذرتني أمي.قالت احذر أن يصيبك داء.العمل مع كبار السن والمعاقين يجلب أمراضا وفايروسات نعجز أن نتحاشاها مهما بالغنا في النظافة والتحفظ.
وكانت تخشى أن نلقيَ بها في دار العجزة لا خوفا من الفايروس وفق أسوأ الاحتمالات بل خوفا من الوحدة. هذه أوروبا أقول مع نفسي،ولا يخطر ببالي قط الرفاه والمال وحدهما ..هناك وجه آخر لابدّ ان نقبله.لذلك لا أبالي.
بالأمس تعرضت لرذاذ من نجاسة..
قرفت..
كرهت نفسي
ظننت الآخرين في الحافلة يستافون ريحي النتنة
ويتبيَّنون البقع التي مسحها كالم عن وجهي
لكني لم أخف..
الرعب بعيد عني
وهذا الوحش الذي يبدو مثل التاج يثير سخطي بعدد الضحايا الذين يلتهمهم ولا يثير خوفي.
أظنه مازال بعيدا عني.
لا التفت إليه وأفكر بجولة اليوم مع لؤلؤة..
وقد صحبت أختي أمي وخالتي بسيارتها،وخرجت مع لؤلؤة.عبرنا المفترق إلى الشارع الرئيس وكان الجو صحوا والعاصفة سكنت تماما .
كل! شيء هادئ في الطريق العام إلا بعض المحلات قلت:
معظم المحلات الشرقية وبعض الأسواق الكبيرة.
فردت بصوت دافئ:
مثل أدجوار رود في لندن!
هنا في أمستردام وخاصة هذا الشارع يتجمع الشرقيون..محل أبي هناك على بعد خطوات والمدينة في الظاهر ذات طابع شرقي باكستانيون وهنود وعرب تسمعين تسعين لغة في الشارع!
فضحكت وانصرفت إلى لوحة إعلان تتأملها:
لكن حين يحل وقت الاقتراع لا تعرفين من أين يأتي الإنكليز فيحصدوا كل مقاعد البلدية!
مازالت تتمعن في اللوحة التي تشكلت من إيقاع سريالي وواقعي فبدت مثل شجرة تغطي جدار محل موبيليا.فالتفت إلى سرحانها:
أعجبك التصميم؟
حلوة أفكر بعد أن أنهي الثانوية هذا العام أن أدرس الdesign والديكور في إحدى الجامعات هنا!
برمنغهام؟”
الأفضل لندن واستدركت”أو ممكن نوتنغهام لِمَ لا.
الحقيقة لندن أفضل.مجال العمل هناك أوسع!
وهل أنت مرتاح في شغلك الجديد؟
أفضل من أن أعيش على المساعدات على الرغم من صعوبة التعامل مع ذوي الإعاقة من الأسبرجر والمتوحدين!
فقالت وقد تحاشت النظر في عينيّ بعد إطلالة قصيرة:
عندنا في الإمارات مركز للأسبرجر والمتوحدين.لم يعد هذا العوق مجهولا ولو اشتغلت بخبرتك هناك لربحت الكثير الكثير.
ولم أجد بدا من أن أغيّر الحديث
إن أحسست ببرودة الجو يمكن أن نجلس في كافتريا .
لا أبدا أفضّل المشي.
كأنَّما منحتني خاطرا لمدى أوسع.لمحةً لوهجٍ جديد انبثق فجأة. من دون مقدمات:
مارأيك أن نذهب إلى أطراف المدينة حيث الغابة والتلة وحقل الخيول.
ربما ذكرت متأخرا فحولتي.
بريئة..
حلوة..
جميلة..
البنت الوحيدة لأمها.الصغرى بعد أربعة إخوة..لن أكون مخطئا إذا قلت إن تفكير أمها تناغم مع إحساس أمي فتركتاها أمانة عندي.
أحذر،وأبالغ في تحفظي.
وهناك جموح أكبته:
لابأس أن نذهب إلى هناك.
هل أنتمستعدة للمشي.
فقالت بابتسامة لا تقلّ عن رشاقة يدها:أووه جرب وسترى!
قالت ذلك،وعن لا وعي ،ونحن نعبر الشارع عند الإشارة الحمراء إلى البوليفارد المطل على بداية الغابة امتدت يدي إلى يدها كأنني أحول بينها وخطر موهوم.
خطر لا وجود له إلا في بالي وإن كانت الإشارة تضيء لحظة عبورنا باللون الأحمر.
وتركت يدها حالما وطئنا الرصيف،لننطلق في رحلة قصيرة تطول بضع ساعات!
اندفعت تصعد خلفي المنحدر
نصمت …
نتحدث…
أمامنا النهار بكامله وقد تركنا الدفء وراءنا:
سنتعب في الصعود أما حين نهبط عائدين فالوضع يبدو أسهل بكثير.
اعترضنا حاجز صخري فملت عليها أسندها بذراعي.كتفها يلاصق كتفي،خشيت أن تنزلق قدمها فقبضت على زندي بيدها.
كانت كريستي تسابقني.
تجري أمامي
ألحقها…تطلب من أن أقبلها..
أحيانا أتخيلها غزالة تشرد وفي الفراش بعدما صرخت ولم تعد عذراء رأيتهابصورة لبوة.
نمرة تفترسني.فأرتاح
أجد العالم جميلا مثل أحلام زرقاء تتحق في لهاثها.
على مهلك اعتبريها رياضة.
في الإمارات أمارس مع صديقاتي رياضة التزلج على الرمال.
أعرف أن دبي استنسخت العالم كله: طبيعة ومتاحف ومسارح…
كلّ شيء ..
العالم بمكتباته،وشوارعه،ومتاحفه،وحدائقه،رحل إلى هناك حيث يجلس مع دبي على الرِّمال،فأقول:
هل أعلمك الرقص على الجليد؟
ياليت!
راحت برمنغهام تنبسط تحت نظرنا،والغابة عن جهة اليمين تضفي على المشهد بعض الجلال..وثمّةالتلة،وقطرات الدم التي تلاشت تحت المطر والتراب.
الرغبة تحاصرني..
كريستي تعصرني بين فخذيها،أما في البيت وقد دخلنا غرفتها فترتقي بعض الأحيان فوقي،تدعك حنكي بشعرات شقراء ناعمة غضّة نمت بوقت قريب،وتروح تلعق جسدي. لكننا افترقنا بعد الصف التاسع..اختارت قسم الميكانيك وظهرت فتيات أخريات في حياتي.مثل أي طلاب ثانوية.
ممارسات..
لهو دراسة ..
جنس..
مع كريستينا وغيرها ،كنا نلتقي هنا وفي بيتها،أي مكان..ولم أكن أجرؤ على أن أدعو أية صديقة إلى منزلنا.أخي صبيح الأكبر والذي يبدو أكثر صلفا لم يجرؤ على أن يصحب أية صديقة إلى البيت.لم يحدثني عن أيٍّ من صديقاته قط،يعدّها مسائل خاصة ويمكن لأية علاقة مع صديقة أن تدوم وقتا طويلا أو تنتهي بشكل مفاجيء.
لا يفخر بعدد الصديقات.
ولايتباهى .
وحين خطب “أماندا الأرجنتينية” قبلت أمي على مضض أن تبيت عندنا،وجعلتها تشارك أختي غرفتها. تقول هذا بيت محترم.الذي في باله نية ما ليفعل مايحلو له خارج البيت.أنتم أولاد.عندكم أخت أخشى عليها من العيب.
مع ذلك:
أنحت سؤلا في ذهني وأعرض عن جوابه:هل قبَّل شريف أختي قبل الزواج؟لا أظنّ،لا أتصوّر أنه لمس يدها أو مرّر أنامله على صدرها..نحن أولاد لا أحد يحاسبنا،بدت أمّي مثل نمرة مفترسة إذ شكّت في ماجدة لحظة هددت بالانتحار،فصرخت..ونفت،ونظرت إلينا باحتقار.
واجهتنا بجرأة:
لو أردت اللعب لصادقت شابا إنكليزيا مثلما تفعلون،شريف مسلم مثلنا يريدني بالحلال!
أدركنا جيدا أنها لم تقترف قطّ حراما أوعيبا..
لكن لماذا يلحّ علي هنافيهذا المكان مثل هذا الخاطر العنيد؟
يرن هاتفها فينتشلني.
تتطلع فيه وتتجاهل:
مَنْ؟خالتي؟
هذه صديقتي من الإمارات سأكلمها فيما بعد!
أترغبين أن نلفّ حول الأجمة؟
لابأس.
لابدّ من أن نلف.
ندور.
نسعى.
المكان ذاته،والأجمةبدت عارية من أوراقها.تعنيني قطرة الدم،وصخرة كريستي هكذا سميتها،ساحة الخيول فارغة،وثمة طيور،حمام وغربان ،ونوارس تحلق من جهة الغابة،شيء ما أبيض ينبثق من الأجمة،كان هناك أرنب يخرج منها يعدو بخفة باتجاه ساحة الخيول،ولا صوت إلا من غناء النوارس التي راحت تحلق وتهوي داخل الغابة فتختفي وتعود تحلق.كلّ الأماكن التي تمتدّ أمامي لا أعرفها بأسمائها ماعدا الصخرة التي سميتها باسم كريستي.
أمسك يدها خوفا من أن تنزلق.
المح الفجوة.
الأنفاس .
الصرخة
يراودني انفعال.
رائحة حامض تقتحم أنفي فلا أقرف.
هذه المرة يرن هاتفي..أختي تسأل:أين أنتم؟
أضغط على الماكرفون لتسمع معي:
نحن على التلة عند الأجمة!
مجنون..حقا مجنون ظننتكما في المدينة!
تردّ لؤلؤة:
إنّه منظر رائع؟
لكن خذي حذرك من البرد لا تثقي بالطقس.
لا داعي للخوف سأعيرها معطفي.
هل ستبقى معنا الليلة؟
لا علي السفر إلى نوتغهام!
واتفقنا على أن نلتقي في المدينة لتصحب لؤلؤة إلى منزلها وتعود بي إلى بيتنا فألتقي أمي التي ماتزال تعمل لي طعاما تصنفه في علبٍ تغنيني عن الطبخ مادمتُ في نوتنغهام،وعندما،وصلت،فاجأتني من دون مقدمات،أنها كانت تقدر على أن تعمل طعامي الأسبوعي في بيت أختي لكنها أحبت أن تنفرد لتحدثني عن الجديد الذي في جعبتها..خالتي جاءت كي تؤسس مشروعا لابنتها في لندن،ستدرس لؤلؤة هنا،زوجها يملك من المال اربعين مليون دولار غير الممتلكات الاخرى وشركة سيارات الأجرة،بعد عمر طويل له ولخالتي كم تكون حصة لؤلؤة؟فأقاطعها كأن المسألة ذات وجهين:تعنيني ولا تعنيني
أربعة إخوة وللذكر مثل حظ الأثنيين!
هل تعي ما أقول!
فأهزكتفيّ وأقول:
ليزدهم الله من خيره تلك مسألة لاتعنيني.
ولا تترك لي فرصة فتندفع:
بل تعنيك وتعنيني مائة بالمائة،أنا أفكّر بمستقبلك وأحفادي،أخوك أشعر أني ثقيلة عليه عندما أطيل في زيارتي لهم.زوجته طيبة..لكن تبقى غريبة..أخذ يتعلم الأسبانية من أجلها لأنه يعرف سيتحدث مع أولاده في البيت وأمهم بالأسباني.وأولاد أختك سيقضون معظم وقتهم مع جدهم وجدتهم اللذين يتعلمون منهما الأوردية،”واستندت إلى حافة بار المطبخ فأطلقت حسرة طويلة”وأنا من لي رحم الله أباك وجدتك!
أعرف كم عانت أمي بعد وفاة أبي وجدتي.كثيرا ما تتذكرهما أذا بان التعب على وجهها أو اصطدمت بمعضلة ما،فتترحم عليهما.لا أجد في كلّ ما تقوله شيئا غريبا عليّ أنا الذي ولدت في برمنغهام عام 1999 وكنت أتحدث الإنكليزية في المدرسة والشارع وكلِّ مكان ماعدا البيت،حتى عندما أكون في المنزل وأغتنم فرصة ما أجد أني أعود إلى الشارع فأحضّر دروسي وأتابع القنوات وفق هواي!
أمّي تريدني أن أتغير…أعيش بمشاعر واحدة!
بوجه واحد.
لا أستغرب إذ أرى كثيرا من الظواهر البعيدة عنّي تشغلني.
زميلي في العمل كالُم الذي يسبقني خبرةً الشيوعي المعجب بالصين وإيران وفنزويلا..يُكذِّب أن كوريا الشمالية أعدمت مصابا بالكورونا،ولا يهمه أن يتغير جواز السفر بعد خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي من الأحمر إلى لون آخر أو أن تصدر الدولة عملة من فئة خمسين بنسا أراهنُ سيبقى مع زوجته الإنكليزية وأولاده ولا يلتحق بدولة اسكتندا إذا ماحدث الانفصال.
المشاعر واحدة..
أشكّ أن حكمة أمي التي تبدو ساذجة لا تختلف عن انفعالاته.
لعلني أشفق عليها أكثر مما آسف!
وأجدها تبالغ في كثير من الأمور.
لا أنّكر أني انفعلت وحزنت مثل أخي الكبير صبيح وأختي- يوم سمعت بمصرع أبي وعندما توفيت جدتي التي كانت في زيارة لعمتي فدُفنت في السويد وتباهت عمتي وزوجها أنهما دفعا نفقات دفنها هناك ورفضا أي مبلغ منّا،وبدا لي أن أمي بالغت كثيرا..خمشت خدها،ولطمت،ودعت الشرقيات ممن تعرفهن أوْ لا إلى المركز لإسلامي ولبست السواد عاما حدادا على أبي وآخر على جدتي،وكأنها في تلك اللحظة -لحظة وجودنا في البيت وحدنا -تحاول أن تقترب خطوة من الفرح،وهي في شكّ من ذلك،فأخطو نحوها..ألتقط يدها أقبلها وبيدٍ أخرى أطوق خصرها،وأهتف:
أيتها الفاتنة الجميلة أنت ذكية ستتعلمين كلّ اللغات!”وأضيف مترنما” والرقص أيضا.
فأراقصها ،وأنا أدندن،رقصة الفالص.

11
أعود إلى وجهي في المرآة.
أقرأ:
عاصفة جديدة متوقعة بعد عاصفة ciara
زوجة مقدّم البرامج الشهير فيلبس تصِّرح أنها كانت منذ 25 عاما تعرف أن زوجها gay وستطلب الطلاق إذا قرر العيش مع partner: تعلن أن ثروته تتعدى ال 120 مليون باوند.
ضحايا كورونا يتجاوزون ال 1500.
وفاة بريطانيّة من أصل صومالي سافرت إلى مقديشو لتجري عمليّةختان!
ابتسم على الرغم من قساوة الأخبار.أجد فيها مادة مسليّة .لا شيء عن الشرق أو انتفاضة العراق.أقتنع أن كثيرا من الوقائع وإن كانت قاسية وبعضها مثير للقرف فإنها ضرورية للخروج عن رتابة المألوف في حياتنا وسير الكون ولابدّ أن تتلاشى بمرور الوقت من الذاكرة لتحلّ محلّها كوارث ونكبات أخرى فيستعيد وجودنا توازنه من جديد.
أحقّا تصبح الحياة من دون طعم بغير قتلٍ وعواصف وفيضانات وحرائق؟
ربّما أقنع نفسي.
أو على الأقلّ أتظاهر..
اليوم لن ينزل كالم من الطابق العلويّ فيعمل معي…
فها أنا أخيرا بعد سبعة أيّام أقابل ياسمين التي يسميها الآخرون جاسمين!
إنكليزية،واضحة الملاح،ذات وجه جاد،حلو شفاف..وابتسامة لا تغيب عن شفتيها:
نطقتُ اسمها كما يراه الآخرون،ومددتُ يدي مصافحا ومرحِّبا:
أهلا جاسمين يسعدني أن ألتقيك وأعمل تحت إمرتك!
أهلا بك أنا سعيدة بوجودك.
هل قرأتِ التقرير الأخير عن تايرون الذي كتبناه أنا وكالُم خلال فترة غيابك؟
مذهل قالت عبارتها وتصفحت الملف على الرفّ،وعادت تقول: حضّر نفسك سنخرج معه بعد زيارة الحديقة،ولن نستخدم السيارة فالأفضل أن نصحبه إلى كافتريا ساينس بري.
هل من ثالث معنا:
الحقيقة إنه خَطِر بحاجة إلى ثلاثة يرافقونه لكن سنعمل بالممكن.
كما ترين!
صحبنا تايرون إلى الحديقة الخلفية.كانت الجامايكية وكالم يدربان متوحدة على الزراعة في البيت الزجاجي،وفي طرف الحديقة وقفت سكرتيرة المدرسة ومعلمة أخرى تشذّب مع مجموعة من المعاقين بعض الأغصان الجافة.لا شيء أكثر سوى صيحة حادة من الطابق العلوي الأمر الذي اعتدنا عليه.
كانت مظاهر السعادة تبدو على تايرون.انهمك يعمل في الحديقة فوعدناه أن نبتاع شجرة يزرعها بيده في المكان الذي حفره.
هدوء تام..
وسعادة.
فرح.
وبعد أكثر من ساعة خرجنا الى الكافتريا القريبة.كنت أقبض على يده خشية من أن يفلت فيندفع إلى الشارع .هممت أن أكسر رتابة الطريق.فدفعني فضول:
كيف كانت سفرتك!
رائعة بحق!
الحق أول يوم باشرت العمل فيه أثارني اسمك.أنا من الشرق من أصول عربية.الجميع يسميك جاسمين فهل تسمحين أن أناديك ياسمين؟
اسمي ياسمين هكذا تناديني أمي وأبي في البيت!
؟من أي بلد أنت؟..
جوزاي بريطاني أنا مولود هنا من أبوين من جنوب العراق مدينة يقال لها الناصريّة.
فابتسمت بدهاء وردت:
اسمي شرقي..أنا أبي من إيرلندا..يمكن أن تقول عنه( unbeliver) وأمي يهوديّةإنكليزية وفق الديانة اليهودية أنا يهودية.أمي دونت ديانتي في سجلات الفولك ريجستر.
دهشة…
انفعال…
غضب أو قرف أقرب إلى الصدمة.
أمسك نفسي عن الدهشة والانفعال.
مسحة من الخيال البعيد..قد يكون جدها قتل جدي..
أغالط..أحاول أنأركب مثل مخرج محترف صورا من المحال لتبدوَ حقيقة أقتنع بها.
بالتأكيد ليس هو.
لا عاقل يظنّ ذلك.
وفق أسوأ الاحتمالات يكون وافق على عملية القتل..
أحبِس ابتسامة مرة،وأخفي انفعالاتي.بالأمس كنت مع فتاة على قمة التل أثارت فيّ أحاسيس مختلفة تماما.لِمَ أقرف من أخبارٍ تخصّ الموت رأيتها ضرورية لخروج الاشياء عن رتابتها،وخبر واحد يهزني يكاد يقتلعني كالعاصفة الميتة كيارا في لحظة قوتها واتساعها مع ذلك تبدو لمن يراها عن قرب بعد سكونها المريب أنها أضفت على المدينة طابعا من الخجل والبهاء.
هل زرت اسرائيل من قبل؟
سؤال مباشر لم أتمكن من كتمانه.
سفرتي كانت إلى هناك!
اجتزنا الشارع العام.اتجهنا نحو الطريق الجانبي والدوار الصغير فدخلنا ساينس بريز..مازلت مذهولا..
لم ألتق بيهودية في المدرسة..
ولم اسمع سوى من أبي وجدتي أن جدي أول مَنْ قُِتل في الجولان عام 1973.
حدث لا يهزني..
ليست هناك من مناسبة لأتلوَ الحديث على مسامع كريستي أو زملائي التلاميذ كما يفعل أبي وجدتي في بعض المناسبات.
خبر قديم مات في نفسي من زمان كما مات خبر مصرع أبي..
أما أن يتوهج فجأة فلا أعرف له سببا.
خوف أكثر مما هو حقد أو قرف.
وربماحقد دفين لا أعيه.
تركنا تايرون يختار مايرغب..يتعامل مع البائعة كأي زبون.يقف في الطابور،ينتقي الصوصج..والبطاطا المقلية،وعصيره المفضّل،ثم عدنا معه إلى الطاولة.
لحظة صمت،قطعتها بالكلام مع تايرون:
أنت رائع ياتايرون ..
بالتأكيد.سنصحبه دائما إلى الكافتريا والمسبح ونزور طاحونة الريح وأماكن أخرى.قالت ياسمين.وبدا أني كنت قد ظلمتها إذ كنت تحت تأثير المفاجأة..
ومثلما يسبق الهدوء الأعصار.
جاءت ردة فعل تايرون..
بسرعةِ أرنبٍ بريٍّ
وعنفِ ذئبٍ مسعورٍ
زعق وألقى بالمائدة على الأرض وأطبق بيده على ساعد ياسمين فصرخت من الألم وتهاوت على الأرض بين المقعد والطاولة.أثارت صرخته الزبائن،وهرعت العاملة فهتفتُ فيها ابتعدوا إنه اسبارجر..وحالما انحنيت عليه أضغط على ساعده بإبهامي وجعلت أصابعي الأخرى تطوق يده،وقبل أن أشدّه من كتفيه بيدي اليسرى اغتنم الفرصة فأطبق باسنانه على خدّ ياسمين.
لاح المشهد مثيرا وقاسيا..
لم يكن أمامي رادع سوى أن اضغط على معصمه بيد وأوغل سحبه من رقبته.
خشيت أن أترك أثرا في جسده فأواجه القضاء.
مع كل ذلك راح الزبائن يأكلون ويثرثون ولا يلتفتون إلينا.سأل نادل المطعم الذي ظل يراقب عن بعد:
هل نتصل بالإسعاف.
أجابت ياسمين كلا أنا بخير.
وتساءلتُ:
shure
لم تكن لتبكي..
هناك جرح أزرق على خدها ورقعة حمراء فوق معصمها:
أنا بخير لقد اعتدت على مثل هذه الحوادث!
مازلت أقبض على معصم تايرون الذي أخذ يميل إلى السكون،وكانت تتحسس وجهها بيدها:
ليس الجرح بليغا يمكنك أن تذهبي لتغسلي وجهك وتعدلي هندتمك
الأفضل أن نغادر الآن.
وعدنا إلى مركز “حقل الزعفران”.قطعنا المسافة صامتين.هل تحول غضبي على ياسمين إلى شفقة؟
بدا وجهها لي أكثر براءة،
وأكثر نقاء..
ورحت ألوم نفسي على نفوري منها..
إلا أن هناك زهوا خالطني لحظة إنقاذها من قبضة تايرون وفكه،فظننت أني أصبحت قريبا منها..وأن الايام القادمة يمكن أن تقارب بيننا.
صداقة لها خصوصية أنتظرتها من غير أن أشعر!
لكنْ
ماطعم تلك الخصوصية ودرجتها وإلى أيّ حد تصل؟
لا أدري!
قلت أثناء استراحتنا في كافتريا المركز:
هل تذهبين إلى منزل والدتك في داربي بعد الدوام أم لديك فسحة من الوقت فنختار أي مكان نتناول فيه العشاء.
فتطلعت بي بلا مبالاة :
اعتذر my partner will come to take me
ابتسم في سري واعتذر:
آسف لندع ذلك لوقت آخر.
فقالت بتصميم:
لن أقدر قط فأنا أسكن مع صديقتي وهي شريكتي!
هذه المرة قرفت حقا..
ندمت
أكتشف أني اقرف ولست حقودا قط.الذي أتيقن منه جيدا أنها سحاقية.هكذا يطلقون عليها في بلاد أبي وجدّي،يحتقرون تلك الأصناف..lesbian gay … شواذ فساق..داء وبيل..إذا سموا بلداما احتضن الأحزاب بالشَكَرة فماذا يطلقون على السحاق واللواط.
قرف:
إنها النحلة كما يصفها العاملون الجامايكية تجاملني…من حسن حظك ستعمل مع جاسمينة..صديقي كالم يقول إنها طيبة على النقيض من شخصية كيري مكنزي الخبيثة الانتهازية التي تتطلع إلى أن تحتل منصب المدير ذات يوم.ابتسم في سري..أعود إلى مباراة لكرة القدم بثّتها قناة BBC1 بين ليفربول وبيرمنغهام،بعدها وقد سرحنا مع المباراة أنا وأخي الأكبر،ظهر على الشاشة..Muslim gays in Britain غادرت أختي الكبرى أحلام مطأطئة الرأس،وقد زعق أبي قبل أن نسارع لتغيير القناة:حرق..هذا عقابه الحرق..حرق في الدنيا والآخرة،فإدرك تماما بعد عملية الحرق التي جاءت متأخرة بضع سنين أن أبي هرع إلى الكنيسة ليثبت ميلادي شأنه مع أخي وأختي،ومثلما لم أحسّ بألم الختان في اليوم السابع من ميلادي ،وأبتهج لروعةِ عقيقةٍ دعت إليها أمي وجدّتي في المركزالإسلامي الكبير،لا أرى كريستي وأيّاً من صديقاتي اللائي عرفتهنّ بعدها تبالي بكون هذا الفتى الشرقي مختونا أو أغرل،ولا يشغل بالي أيضا وفاة صومالية رحلت إلى بلدها الأصلي لتجري عملية ختان..لا يهمّني أحدثت ضجة في الصحافة وتحوّل موتها إلى أزمة سياسية أم انتهت الضجّة بطريق ملتوٍ إلى دهاليز مغلقة.
لا أبالي بكلّ ذلك..
أنا الآن أواجه حالة غريبة..
جديدة..
أتأمّل فيها احتمالات كثيرة..أتساءل بسذاجة:هل يمكن أن تصبح كريستي صديقتي السابقة أو أية واحدة عرفتها بعدها مثليّة ذات يوم؟وقبل أن أجد جوابا لقطرة دم تركتها على تراب داكن يوما ما،وأقسم أنهَّا أّول دم أريقه في حياتي،فتنشطر إحدى قطراته ترتفع إلى السماء تصبح رجلا يطارد رجلا وامرأة تلعق أخرى،أمّا أنا وكريستي فقد وقفنا بين التلّة وأجمة الهندباء نبصر ما تحت أرجلنا،
فنشفق،
أو
نسخر،
أو
نشمئز من العالم،حادث اليوم الذي أواجهه من دون توقّع سابق أقلّ في عنفه من صدمة والعتب كلّه يقع على عاتق صديقي كالُم الذي ذكر لي عن لؤم كيري مكنزي سكرتيرة المدير وانفصال سكتلندا والملكة التي لا تنزل عن عرشها مهما طال بها العمر وبوبي ساندز في إيران حدّثني عن العالم،ولم يذكر لي أيّةَ إشارة عن ياسمين.ترى هل كان يعرف وتجاهل.بالتأكيد يعرف ولعله لا يروم الخوض في خصوصيات زملاء العمل.
لا أحتقرها..
أبداً
أحترمها..بل أشعر بشيء غريب..
..دوار..
نفور ..
شيء ما لا أفهمه!
أدعي أني أذهب إلى دورة المياه.لقد كان حقا يوما شاقا،ترك أثره القاسي على خدّ ياسمين،وأظن أن الجرح سيزول بمرور الوقت،أما أنا فقد ركبت الحافلة،وكان المطر يهطل،والعاصفة توشك أن تداهم من جديد.بلا شك سيجدون لها اسما آخر مثلما وجدوا للعواصف قبلها أسماء مستوحاة من أسماء الحموات والأعداء،ولم أتغلب على الخاطر الجديد الذي ألح عليّ،فرفعت الهاتف إلى أذني لأسمع صوت أمي:
أحدّثك من لندن أنا مع خالتك أبشرك ستؤسس مشروع أزياء وتشتري بيتا هنا!أليس من الأفضل أن تكون معنا في تصديق المعاملات؟
السؤال ذاته بصيغة أخرى وإن اختلف الزمان والمكان :هل تذهب مع جدتك إلى المركز الصحي والله كانت لغتي مثلكم لرافقتها،على الرغم من أنّ الطبيبة الإنكليزية تمتعض ولا تخفي أن حضور الصغار مع كبار السن غرض الترجمة يسبب لهم مضاعفاتٍ وآثارا تتحوّل إلى عقدٍ و كوابيس،أما خالتي فلا تحتاج إلى مترجم لديها محام ومختصون لكن من غير زهوٍ ولا غرورٍ أجد الجميع لا يستغنون عني،فهل أجامل نفسي،أم أبالغ؟
اسمعي جيدا سآتي إلى لندن فأكون عندكم بعد ساعات!
وعملك؟
سأجد حلا لذلك تفكري بالأمر.
خلت أن وجهها ووجه خالتي يتهللان بالحبور:
حسنا ستجد لؤلؤة تنتظرك في محطة القطار.
ولم أتجه إلى شقتي.
أراني تلك اللحظة أعرض في الغدّ عن وقفتي المعهودة أمام المرآة شأني صباح كل يوم،فلا أرى وجهي أو أسمع من المذياع أخبارا جديدة عن الموت بالقتل والموت بوباء كورونا الجديد،ولا أفتح النت فأعلم أنه يطير من الصين إلى طهران فتفاجئني شماتة جديدة،وأرافقه إلى الكويت والبحرين لأجد الناس ترجع السبب إلى الفساد والفسق والفجور.
كأنّي أصبحت منذ ظهوره رجل مخابرات واحدا من SISأتابعه ولا أغفل عنه.
لاتهمني قط نهايته ستحرق الجثثت أو ترمى في مقابر جماعية أم بأية صيغة كانت.يكفي أني عاشرته سبع أصبوحات وخبرته سبعة أيام.
أتخلى عن ملاحقته تماما…
يكفي أن ألمحه مصادفة على نشرات الاخبار الضوئية وصفحات الصحف المتناثرة أمام الأكشاك..وفي صحيفة ال (Metro)التي تطاردني إلى أيِّ مكان.
كنت أغادر الحافلة فاستقل القطار الصاعد إلى لندن!

(انتهت)

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *