حرب الكويت
ساءت العلاقات المصرية العراقية بعد أحداث الكويت وبعد قرار مجلس الأمن في فرض الحصار على العراق, وأنسحب ملايين المصريين العاملين في العراق بعد هذه الأحداث, بعد ان كانوا طيلة سنوات مضت يعملون بالعراق ,وخاصةً اثناء الحرب العراقية الأيرانية ,ولم يتبق منهم الا أعداداً قليلةً جداً قياساً الى الأعداد التي غادرت, وقد ترك المصريون بعض من بصماتهم عن طريقة معيشتهم وطرق تعاملهم التي عاشها العراقيون نتيجة المخالطة الواسعة في مجال العمل .
نتيجة لعدم انسحاب العراق من الكويت وبعد حشد الأساطيل الأمريكية والبريطانية ,وتحالف اكثرمن ثلاثين دولة بدأت الحرب التي سميت بحرب الخليج الثانية على القوات العراقية المتواجدة في الكويت بتاريخ 17 كانون الثاني 1991,رافقها قصف جوي عنيف ومدمر على كافة المرافق الحيوية والبنى الأرتكازية والبنى التحتية بقاذفات القنابل الثقيلة وطائرات الشبح والفانتوم والتورنادو وغيرها من الاسلحة الفتاكة والصواريخ الباليستية البعيدة المدى من طراز توما هوك وكروزوغيرها, كما قام العراق بقصف قلب اسرائيل بعدة صواريخ أرض أرض, أثارت الرعب في تل ابيب كما قام بقصف القواعد الأمريكية المتواجدة في الرياض والظهران ,وأحدث فيها خسائر جسيمة.
إنسحب الجيش العراقي الباسل من المعركة الغير متكافئة التي زُجّ فيها, وظلّ العراق مكبلاً بأغلال الحصارالمتعمد, الذي دفع ثمنه الشعب العراقي لاغيره لتجويعه وإذلاله سنوات طويلة.
دُمرت محطات الكهرباء ومحطات ضخ المياه ومستودعات الوقود والجسور والمنشأت الصناعية والمصانع والمعامل, ولم يسلم من القصف المدارس وبعض دور العبادة وبيوت دمرت وأنهارت على رؤوس ساكنيها, ووقف العالم متفرجاً طيلة سنوات الحصار,رغم أنصياع العراق لأغلب بنود قرار مجلس الأمن الخاص بذلك, ومازال الشعب العراقي يتطلع الى اليوم الذي يتخلص فيه من هذا الحصار.
كانت الحمرا كغيرها من القرى تنتظر وتفتش عن أبنائها المشاركين بتلك الحرب اللعينة ,وكنا كلما نسمع أطلاقات نار نعرف أنّ أحد الشباب قد عاد سالماًً, فنخرج للمشاركة بلقائه والأستفسار منه عن وقائع أحداث الحرب في مكان تواجده فيها .
عاد أغلب الشباب الى القرية بإستثناء عدداً قليلاً جداً ومنهم أبن عمي نائل ,الذي التحق بوحدته العسكرية بعد أصدار العفو عن الهاربين والمتخلفين.لكنه لم يعد بعد أنتهاء الحرب.
تحرى عمي يوسف وكذلك سليم المنصور عن خبر أو معلومة عما آل اليه مصير نائل؟ الا أنهم لم يستطيعوا أن يعثروا على شيء إلاما تناقلته أخبار العائدين من الحرب, من أنّ هناك كثير من العسكريين كانوا بنسحبون مشياً على الأقدام, تلاحقهم الطائرات اللعينة بالقصف والرمي بالرشاشات ,وقد أستشهد عدداً منهم بما سمي بطريق الموت ,ثارًا لقصف القوات العراقية لقاعدة امريكية بالظهران بصواريخ أرض أرض أدت إلى خسائر بشرية جسيمة بصفوف القوات الامريكية.
كانت سليمة قلقة ومضطربة وهي تذرف الدموع على زوجها الذي فقدته, وتريد وكلها شوق أن تسمع خبراً يريحها عن نائل, و ظلت خالتي المسكينة تولول عدة أيام وتندب حظها في أولادها حماد ونائل, وبدى عمي زيدان مثقلاً بالهم والحزن شارد الذهن يتحرق الى سماع خبرعن نائل بعد ان فقد حماد .كانت دموع هلا ذات الأربعة عشر ربيعاً تنهمر, كلما تلاقينا أو كنا معاً في بيت عمي زيدان, أو في بيت عمي يوسف, وكنت أتمزّق لحزنها وبكائها, وأسعى جاهداً كي أخفف عنها ,محاولاً جرهّا الى مواضيع أخرى بعيداً عن هذا الجو المشحون بالحزن, وكانت تستجيب لذلك. أما ماجد فكان مصدوماً من هول الوقع وتأثيره عليه بفقدانه أخيه وسنده الذي كان يسد عنه أشياءاً كثيرة.
بدى البلد بعد إنتهاء الحرب ركاماً وقد تداعت مصانعه ومنشآته وبناه التحتية, من محطات المياه والكهرباء والوقود, وتعطلت ماكنة الحياة وعاد الناس الى الأساليب القديمة في فن العيش ,ولم تعد هناك سيارات تمشي بكثافة كالسابق لعدم توفر الوقود, بعد تدمير المصافي وبدأ الناس يبتكرون اشياءاً بديلة عن البنزين يشتقوها من الغاز ومن الأسبرتو, وقد ذهب ضحية لذلك كثير من الأشخاص وكثير من العوائل نتيجة الحروق التي تنجم عن انفجار الغاز وإشتعال الأسبرتو وغيرها من الطرق غير الآمنه نتيجةً للحاجة. أمافي القرى فقد عادت بكثافة ظاهرة التنقل مشياً على الأقدام ,أو بواسطة الحمير, من مكان الى آخر ومن قرية الى قرية, وقد تمتد أحياناً الى الناحية.وأستخدم الناس الخشب وقوداً للتدفئة والطبخ بدل النفط, وتم الزحف على الأشجار لتقطيعها وأستخدامهاكما لجأوالى النهر لتامين حاجاتهم من المياه .لقد عادت الحياة بعد الحرب الى الطرق البدائية التي كانت تستخدم في الزمن الغابر.
تعطلت الدراسة في جميع انحاء العراق نتيجة للحرب ,وتعطلت المصانع عن الأنتاج, وبات العراقيون يتفننون بإيجاد البدائل للتواصل مع الحياة, وركزت الحكومة جاهدة على إعادة والى حد ما الحياة الى المفاصل المهمة المتعلقة تعلقاً مباشرًا بحياة المواطنين, بدأً بتوفير الطاقة, وقد تم ذلك في وقت قياسي وعادت المصافي المدمرة ومنها مصفى بيجي العملاق الى العمل بطاقة أقل أولا ًمن طاقته الأنتاجية ,ثم تم تهيأته بكامل طاقته, وكذلك عمدت الحكومة الى إعادة بناء الجسور المدمرة ومحطات المياه ومصادر الطاقة الكهربائية ,لكنها لم ترق الى المستويات اللازمة لحاجة البلد ,وظلت الطاقة الكهربائية عرجاء لاتلبي الحاجة الفعلية للبلاد.
عادت الحياة الى مجراها شبه الطبيعية واستؤنفت الدراسة في المدارس والجامعات كافة وتم التركيز على تعويض المناهج والوقت لتعويض المدة التي توقفت فيها الدراسة.
عاد أحمد المنصور وزوجته وضحة وأولاده الى القرية هرباً من متطلبات المعيشة الغالية, والإيجار قبل بدء الحرب, تاركاً المدينة كما كان قد خطط لذلك مسبقاً, ولم يتبقَ لي حاضن في المدينة ,مع أنه لازال قسم من أقربائي البعيدين ساكنين في الموصل ,الا أنني لم اتصل بهم أو بواحد منهم ,طبقاً للعلاقة البعيدة بيننا.
مضت السنة الدراسية على مضض بعد أن واجهتني وبعض طلبة المنطقة صعوبات جمة في الوصول بالوقت المحدد الى الجامعة, وكذلك العودة الى القرية وقد أضطررت عدة مرات الى المبيت عند راضي أعويد الذي توثقت علاقتي به فيما بعد, وكان فذًا أنقذني من كثير من مواقفي الصعبة .
كانت شادية تستعد لوضع مولودها الجديد وقد أهتم بها عثمان إهتماماً بالغاً وحين جاءها المخاض إصطحبنها كل من رابعة وهلا الى المستشفى في الموصل وعثمان معهما . كان المولود ذكرا ًواسماه عثمان مصطفى, وقد فرح عثمان كما فرح عمي يوسف وكذلك رحبت خالتي وبناتها ورابعة بشادية ومولودها الاول في قرية الحمرا طلب عثمان بعد مدة قليلة من مجيء مصطفى الى الدنيا وفي قرية الحمرا من عمي يوسف أن يعطيه خروف من حصته .في دعوة الى وليمة يقيمها بمناسبة مجيء مصطفى فأجابه عمي الى طلبه قائلا له:
سيكون الخروف على حسابي وليس من حسابك .ابى عثمان بشدة شاكرا ًعمي قائلاً :
بانه هو من سيقوم بالدعوة الى الوليمة ولابد ان تكون على حسابه.
أستجاب عمي يوسف لطلب عثمان وأكرمه بخروف من عنده إكراماً لمصطفى على أن يتصرف به متى شاء.
كانت الوليمة التي أقامها عثمان سودانية بحتة ,ومن الأكلات الشعبية الشائعة هناك ,والمسماة ملاح النعيمية وهي اللحم بالثوم والبصل والفول السوداني ومضافاً اليها توابل واشياء أخرى وقد كانت في الحقيقة أكلة لذيذة قدمت مع العصيدة المطبوخة بدقيق الذرة والويكة البامية المجففة المطحونة.
أبتعدت شادية بعد انجاب مصطفى عن العمل مؤقتاً, وحلت الشاطرة هلا محلها في مساعدتنا في تهيأة الحضائر وتقديم الأعلاف وحلب البقرتين وتنظيف حضيرة الدجاج, كانت هلا تستقبل عامها الخامس عشر وهي تطل بأنوثتها الرائعة بقدها الفارع وعيناها الخضراوتين ولونها القمحي ووجهها المستدير .كان جما لها طاغياً وكم كنت أتحرّق شوقاً اليها وأحترق غضباً ,عندما أذكر واتذكّر رابعة والقدر الذي وضعها في طريقي عائقاً أمام تطلعاتي, وها هي أبنة عمي وابنة خالتي وصديقتي امامي وكم كنت أتمنى أن تكون زوجتي ولكن؟فليغفر الله لك ياعمي.
كان الوقت اواخر ايلول وكنت قد وضعت فراشي في فناء البيت على مصطبة خشبيةممدة على أربعة صفائح فارغة للسمن النباتي, وقد أخذتني غفوة عميقة ,بعد أن هدني التعب كالعادة ,واذا بأحد يضربني على قدمي بقوة قفزت من منامي بسرعة, وإذا برابعة توقظني ركلاً بطريقتها المهذبة التي تعلمتها بالمدارس الخاصة وحسب أرشادات مربيتها الأسكتلندية.
فقلت: خيراً ماذا تريدين في هذا الوقت ؟
قالت قم وأذهب لتجلب لي سكائر.
.قلت: ومن اين أجلب لك سكائر في هذا الوقت؟ولماذا لاتنامي؟
قالت: لم يأخذني النوم ثم هذا لايعنيك .أذهب الى بيت عمي زيدان وأجلب لي تبغاً مع ورق من كيسه.
قلت: ولكنه نائم الآن ولاأستطيع أن أوقظه.
قالت: تصرف .
قلت ولماذا لاتذهبين انت ؟
قالت: إني أخاف الكلاب.تركتني بعد ان ألقت أوامرها في تلك الساعة ودخلت الى مخدعها.
قلت: متمتماً طبعاً في نفسي مزقتك الكلاب إن شاء الله.
تسلقت الحائط بيننا وبين بيت عمي زيدان ودخلت الى الفناء, لم أنادي بصوت عالٍ كي لايصحو النيام وقلت لابد أن يكون أحد صاحيا منهم .توجهت الى الغرفة المضيئة في البيت وطرقت الباب طرقاً خفيفاً .سمعت صوت هلا تقول: من ؟
قلت: وضاح وإختصاراً قلت لها ما اتى بي اليهم في هذه الساعة .
قالت: والله أخفتني وقدظننت أنّه جرى لعمي او لرابعة شيء.
قلت: ان عمي بخير وأبنة عمك كالحصان, وقد أمرتني أن أجد لها سكائر من تحت الارض.
ذهبت هلا الى غرفة أبيها وعادت ومعها كمية لابأس بها من التبغ مع اوراقها,شكرتها معتذراً منها عن مجيئي في هذا ألوقت ألمتأخر ,وأنا أخرج من دارها وفي الفناء ,كانت هلا ورائي لتودعني, كنت محطماً وقد بلغ الآسى مني مكانه, فالتفت إليها لأودعها فرأيتها تنظر اليّ بعينين مغرورقتين بالدموع قائلة:
وضاح إني أحبك ,وأفهم جيداً الوضع الذي أنت فيه وطوقتني بذراعيها وطبعت على خدي قبلة ,فتخلصت منها بقوة وقفزت الحائط الى بيتنا وانا اتحسس بيدي مكان قبلتها الحارة و الممزوجة بالالم والمرارة. دخلت الى رابعة التي كانت تنتظرني على أحرمن الجمر, وناولتها التبغ والأوراق وأنا مشبوب فدخلت الى مخدعها لأدفن نفسي في طيات فراشها وفي طياتها.
بدأ العام الدراسي وبدأت رحلة المتاعب الثالثة بين مواصلة الدراسة في تلك الظروف الصعبة ومتاعب الوصول والمواصلات ومتاعب الأغنام والحضائر,ومتاعب رابعة.
حل شهر كانون الثاني وبدأ اهل القرية يسوقون ألبان الغنم الى ساحة البيع في الموصل ,وكانت في القرية سيارات خاصة لنقل هذه الألبان مع أصحابها وكنت أركب بعض المرات بهذه السيارات لغرض الوصول مباشرة الى الموصل, مع ان هذه السيارات تخرج من القرية مبكرة جداً وتصل مبكرة ايضاً مما يوفر علي بعض الوقت للمراجعة والدراسة في بيت راضي.
أستطاعت العاتية رابعة بقوتها ,أن تقنع عمي يوسف بإعداد اللبن بدل الزبدة, وبيعه في السوق كما يفعل جميع أهل القرية, وخاصة ان اللبن قد أرتفعت قيمته في السوق, الأمرالذي يؤدي الى مردود جيد, وأقترحت على عمي أن أقوم أنا ببيعه في الساحة, وأذهب بعدها الى الجامعة طالما لايوجد عائق في ذلك.
أستدعاني عمي يوسف وأخبرني بتفاصيل القرارالذي أتخذه وكالعادة لم ابدِ أعتراض على أي قرار يتخذه عمي يوسف, مع إني أدرك تماماً أنّ وراء ذلك القرار تقف رابعة.
بدأت الرحلة الأولى وأنا أحمل قدري اللبن الكبيرين وسط الباعة من مختلف الاعمار من النساء والرجال, وكم كنت أتمنى ان تكون رابعة هي من يركب ظهر السيارة المكشوف وسط ذلك الهواء الرطب والبرد القارس ولكن! وبعد جهد وصلنا الى السوق وقد كنت مضطراً الى ان أفترش الأرض وانا في ملابس الجامعة, عارضا ًقدري اللبن وسط السوق متحمّلاً أسئلة المتسوقين عن السعر؟ وفيما اذا كان اللبن خالصاً ؟وما اذا كنت ابيع بالتجزئة؟ وغيرها. أنهيت عملية بيع اللبن لشخص بدا من مظهره أنه أنسان مثقف ,وقد جلب إنتباهه الزي الذي أرتديه وكتبي سائلاً:
هل أنت طالب جامعي ؟
قلت: نعم.
قال: كيف توفق بين دوامك وجلوسك هنا بالسوق ؟
قلت: انها المرة الأولى وستكون الأخيرة إن شاء الله
قال: كذلك سنجعلها الأخيرة.
أخذني الأستاذ سعيد الى محل البقالة العائد له و القريب من ساحة بيع اللبن, وبعد أن أفرغ القدرين وأعطاني ثمنهما وقال :
لاحاجة لك بعد الآن الذهاب الى السوق, بل ستجلب اللبن الى هنا وستقبض ثمنه كما يباع بالسوق.
عدت الى الساحة القريبة وأودعت القدور لدى السائق العائد الى القرية لايصالهما الى البيت.
وصلت الى بيت راضي وبعد أن أغتسلت واصلحت هيأتي, توجهت الى الكلية التي فاتتني فيها المحاضرة الاولى.
في المساء عرج الي بيتنا خالي جابر بعد أن سمع بانني قد كنت في ساحة بيع اللبن وقد كلم عمي بالموضوع قائلا :
أنّ هذا سيكون على حساب مستقبلي, مبديا ًأستعداده لأخذ المنتوج وبيعه ,طالما أنه ينزل بسيارته الى الموصل يومياً لتوزيع اللبن على زبائنه المعتادين منذ سنوات, وافق عمي يوسف وشكرت خالي جابر بتدخله لأنقاذ موقفي وقد أرشدته الى محل الأستاذ سعيد الذي أوصاني بجلب اللبن اليه .
دعاني خالي جابرالى أن أرافقه يومياً بسيارته طالما انه يذهب الى الموصل يومياً, فشكرته كثيراً لتدخله وأنقاذي من الورطة التي أقحمتني فيها رابعة ولأنقاذي من مشاكل النقل والمواصلات ولو بصورة مؤقتة.
لم تكن علاقتي بابن عمي ماجد الزيدان وثيقة لكنها لم تصل الى حد القطيعة, وكنا نتبادل التحية ونلتقي بالصدفة او بالمناسبات, وكنت احس بنار الغيرة المتأججة في داخله ,وأنا مستمر بدراستي الجامعية, وكان كثيراً ما يلمح في حديثه الى الأنتقاص مني كما تفعل رابعة ولكن ليس بالصيغة ذاتها, ذاكراً فضل عمي يوسف علي في أحتضاني وتربيتي وتعليمي, وملمحاً الى انه لولاه لكنت تائهاً و مشرداً.كنت أتحاشى المصادمة مع ماجد وادعه يكتوي في غيظه الذي يكنه لي, فأعمد الى مضاعفة جهدي الدراسي, واضعاً أمامي هدفي رغم كل الصعوبات واكراماً لهلا ولأجل عينها.كنت أستطيع أن أرد على ماجد بأن تشردي سيعيب أولاً ابيك وعائلتك , لأنكم أقرب الى المسؤلية عني من أي شخص آخر إلاّ أني آثرت عدم الرد.
ماجد الزيدان المارق أستطاع وبطريقة ما الحصول على وثيقة مزورة تثبت انهائه الخدمة العسكرية مقابل مبلغاً بسيطاً من المال ,وحسب ادعائه مع انه لم يخدم يوماً واحداً في الجيش.بقي ماجد الزيدان بعيداً عن الأستقرار والوضوح, بالرغم من حاجة عمي زيدان اليه بعد فقدان نائل, وأدرك عمي زيدان بان ماجد لايمكن الأعتماد عليه.
حل احمد المنصور وزوجته وضحة وأولاده في بيت عمي زيدان بعد عودتهم من الموصلو وأسكنهم في غرفة حماد, وعهد الى أحمد بشؤون الأغنام ومتطلباتها والشؤون الأخرى .
لم يأتِ خبر ما عن مصير نائل وأعتبر من مفقودي الحرب, و بقيت سليمة البائسة تتنقل بين بيت عمي زيدان وبين بيت عمي منصور وكان لسكن وضحة معها في بيت واحد تاثيراً حسناً عليها.
حفلة التخرج
مضت السنة الرابعة في ذهابي وعودتي إلى الكلية ودوامي فيها كسابقاتها من التعب والمعاناة ,وأزدادت حدة الحصار وطأةً على أغلب ألناس, وكان كل طالب منّا يتوق إلى انهاء المرحلة والحصول على الشهادة ,مع أختلاف أمانينا , في الفصل الثاني وقبيل الأمتحانات ألنهائية تمّ بعد أخذ موافقة العمادة إقامة حفل تخرج بسيط للطبة ألخريجين وتم التحضير لها من قبل لجنة شكلت من عينة من الطلبة الذين لهم دراية بذلك.ظلّت اللجنة تعمل بدؤب إلى أن أنتهت من إلإعدادز
بدأ الحفل وحضر أغلب ألخريجين, مع أنّ قسمٌ منهم تخلّف عن الحضور ,إلا أنها كانت حفلة جميلة تخللتها فعاليات فكاهية وألحان موسيقية وأغاني ودبكات فولكلورية عراقية, تمّ بعدها تناول المشروبات الغازية والكعك وبعض ألحلويات, وقد أقامت أللجنة ألتحضيرية معرضاً للرسوم الكاريكاتيرية المعبرة ,وكانت المفاجأة هي رسمي بالزي العربي, وأنا راكب على الحمار ويتبعني من الخلف قطيع الأغنام, والملفت للنظر أنّ أنفي كان قد غطىّ نصف وجهي, وقد كتب تعليق ظريف أسفل الصورة (يعود وضاح إلى الخلف كلمّا تقدّم إلى أمام) .
كانت مزحة لطيفة بعد أن تبين انّ أحد أصدقاء راضي هو من رسمها.
لم تنقطع صلتي بأخي راضي بعد تخرجنا وكنّا نتواصل عبر الرسائل وبالهاتف, ويحكي أحدنا للآخرعن كيفية مسار حياته, وكان راضي يعرف عنّي وعن عائلتي أكثر مما أعرف أنا عنه, عدا ماكان يخبرني فيه بالهاتف أو بالرسائل.
مضت الحياة معي في القرية بنفس الرتابة والتكرار الممل, تصاحبه المشاحنة المستمرة مع رابعة, وما كان يخفف عنّي هو إحساسي بوجود هلا معي في القرية بل وفي البيت الواحد وإحساسنا المشترك بأنّ أحدنا هو مكمل للآخرالذي يشعرنا بالإطمئنان رغم الموانع الكثيرة.
العودة إلى القرية
عدت الى القرية بعد فصلي من الوظيفة مرغماً و منكسراً ,وانا الذي غادرتها هارباً ومتحدياً وانا أؤمن أن التغيير الذي أردته في حياتي كان خطوة نحو المجهول مفتوحة على كل الأحتمالات.
كان الهروب أملاً ثم خاب وفي الخيبة مرارة وفي العودة بعد التحدي إنكسار .
تقبلت الوضع كسابق العهد وعدت .
ابدى عمي يوسف سروره بعودتي, وقد رأيت بعد أن سلّمتُ عليه أنه قد نحل عما كان قبل رحيلي, وتحيط سماته هالة من الهم المدفون في داخله ربما يكابر بالبوح فيه.
لم يكن لقائي برابعة بعد طردي من الشركة سوى لقاء الخادم بسيدته التي تركها ثم عاد اليها مرغماً, وقد إستقبلتني كعادتها بإستهزاء وعدم الرضا قائلة :
كان هروبك يخفف عليّ الامي أيها اليتيم المشرد, ورجوعك الينا هو خيبة أملك في أن تجد حاضناً مثلنا, وملاذاً مثل بيتنا, ولو كنت وجدت لما عدت, كان كلام رابعة أشبه مايكون بالسهام التي أصابتني بالكبد وأنا لاأستطيع إن أفعل شيئاً حيالها.
بدأت حياتي في القرية تسير كوتيرتها السابقة.الشتاء على الأبواب ورياح تشرين تشعرني بهبوبها انّ هناك استعداداً للتحضيرالمتعب للموسم القريب ألأتي لولادة الأغنام, والـتي تتطلب أعمالاً مضاعفة من زيادة العلف المركز, الى تحضير مكان المواليد, الى أرضاعها والى عزلها عن أمهاتها والى غير ذلك.
أستمرت حياتي في القرية بالرتابة ذاتها وعادت مشاويري مع عثمان وبيت عمي زيدان وأحمد المنصور ووضحة وأولادهم.
لم تبدِ هلا أهتماماً ملحوظاً لدى عودتي الى القرية, وكان سلامها سلاماً عادياً, لم يرق الى مستوى العلاقة بيننا والى الرابط الخفي الذي يربطنا ,ربما لإنشغالها بالدراسة, أو ربمّا فيها شيء من الغضب أو العتب على تركي إياها أو لسبب أجهله, ولكن سرعان ما تبددت الغيوم بيننا وعادت علاقتنا كالسابق ولكن ليس بتلك القوة.
حل الشتاء القاسي على المسعدة الحمرا وشتاء الحمرا كصيفها كلاهما لايطاقان.
بدات رابعة تحس بآلام في صدرها وكتفها وتتعرق, وكان يبدو عليها التعب بعد كل جهد, لكنها كانت تكابر مما أضطرني مرضها أن أحيط عمي يوسف علما ًبذلك . لم يتوان عمي يوسف أن يأخذها وأنا معه الى الموصل لعرضها على الأطباء المختصين .
عرض الطبيب المختص أدخال رابعة المستشفى للفحوصات وأخذ العلاج, بعد ان تبين أصابتها باعراض تصلب الشراييين والذبحة الصدرية وعجز القلب مع أرتفاع حاد في ضغط الدم.
تم أدخال رابعة الى العناية المركزة تحت المراقبة, وربطها بالأجهزة المتصلة بالمونيتر ,وبقيتُ بجانبها مرافقاً ,وعاد عمي الى القرية مهموماً لايدري ماذا يفعل بعد ان أعطاني مبلغاً من المال, وأوصاني بها على أن يأتي في صباح اليوم التالي ومعه أحدى النساء لمرافقتها.
أعاد اليّ رقود رابعة في المستشفى ذكريات وفاة أبي, ووفاة أمي, ورقود حماد بالمستشفى وربطه بالأجهزة في غرفة العناية وموته ,وكم تمنيت ان يؤول مصير رابعة الى الموت ايضا.
حضرت سليمة المنصور ووضحة وخالتي أم هلا وأحمد المنصور, وتخلفت هلا عن الحضور لألتزامها بدوام الكلية ولم يسمح لأحد بالدخول الى رابعة سوى سليمة التي أخذت مكاني في مرافقتها.
خرجت رابعة من المستشفى في حالة أفضل نوعاً ما من الحالة التي كانت بها قبل دخولها, مع مجموعة من الأدوية الخاصة بأمراض القلب وتصلب الشرايين , وقد مُنِعت من التدخين والدهون كما في السابق, وكان عليّ ان أعطيها الدواء في موعده المحدد ,وأن ألازمها خوفاً من حدوث أزمة قلبية مفاجئة.وقدكان لموقف سليمة المنصور اثرا ًكبيراً في التخفيف عن معاناتي بمعاونتي في العناية برابعة.
كانت الفوضى تسود مخزن العلف والأسمدة والمبيدات, نتيجة لسفري وعدم العناية به, وأنا أحضر العلف المركز كل مساء ,مستغلاً وجود سليمة مع رابعة, أرتأيت أن أوظب المخزن في عزل مواده التي كادان يختلط بعضها بالبعض, فقمت بعزل العلف على حدى, وكذلك الأسمدة ,ولم ألمس المبيدات والسموم التي تبعثر قسم منها في أرض المخزن, الابعد أرتدائي كفوف عازلة وكمام خوفاً من أستنشاقي السموم التي أخذت بجمعها.
طال مكوث رابعة في الفراش, وأنحسر الناس عن زيارتها كما في البداية ,وقد إصطحبتها مرتين الى طبيب الناحية ,الذي أوصاني بإستمرارها على العلاج, مع الحرص على راحتها التامة.بدأت سليمة المنصور بالتخلف عن زيارة رابعة كما في السابق, وبدأ الملل ينتابني ايضاً من خدمة سليطة اللسان هذه, التي لااذكر لها معي ولو موقفاً واحداً يدل على حسن نواياها بإتجاهي.
مـــــــــوت رابعـــــــة
في سكون الليل وعمقه, وأنا جالسٌ أرقب حا لة رابعة التي أتعبتني تماماً.
كانت قد أنقطعت عن العالم بسبات عميق ,وأنا اقرأ على الفانوس, وفي يدي كتاب عن رجل وزوجته المريضة والمقعدة ,مررت على العبارة التي تقول :أنه عندما أدرك الحالة البائسة والمتعبة التي تعاني منها زوجته, فقد وجد الشجاعة ليدس لها السم علاجاً بالقتل الأشفاقي, وكان هذا الوصف قد لفت أنتباهي الى طريقة الخلاص من هذا المأزق الذي انا فيه, أتحطم ولا أرى نهاية لما أنا فيه مع هذه اللعينة التي لاتستحق الأشفاق أصلاً, لولا غرس عمي الطيب, وبعد تردد وخوف تقبلت الفكرة على أنّها وإن كانت ابنة عمي, الا أنّها نكدة معي, وقاسية ,ومتعجرفة, لاتصلني بها صلة روحية الزوج والزوجة ,ولا حتى أبنة العم, ولطالما وددت لو تخلصت منها ,أو تركها ,وقد تركتها ولكني عدت وكم تمنيت لها أن تموت, وها هي الفرصة قد سنحت لي .
نظرت اليها وهي نائمة وفمها مفتوح وصوت شخيرها يمزق سكون الليل, وجسمها ذو اللحم المتهطل والمتكورعلى الجهة المعاكسة لحائط السرير وكأنه طشت قد ملىء بمعدة بقرة أعدت للتنظيف.
أنتابني أعياء ويأس شديد من هول الفكرة مرّة أخرى, وعندها عزمت الأمر, وأتخذت القرار دون المبالاة بالحياة والأستسلام ,ولتواجهني كل الأمور التي أتوقعها ولا أتوقعها, وليكن ما يكن, فقد قررت أن أحرق الزرع لتطير عنه العصافير.
كنت أروح وأجيء كالمخبول ,وهي مسجاة أمامي جثةً هامدة بلا حراك , لم ينتابني الندم ولو للحظة واحدة. كان قلبي قد تحجر, وقد تجمدت عروقي, وسرى ثقل عجيب في كل مفاصلي.
ها هو آخر أعدائي يسقط, لذا سأمسح ماضي التعس الى الأبد, لأبدأ حياتي الجديدة مع هلا, رفيقة عمري وصباي ,وحمامة السلام التي أحبتني وأحببتها.
مرت مراسيم التغسيل والدفن ساعات بعد أستصدار شهادة الوفاة بسبب مرضها المعروف لدى طبيب الناحية. أحسستها دهراً, بعدها تم الشروع بإعداد مراسم العزاء .
………………… يتبع