القرية
تبعد قريتنا المسعدة الحمرا عن مركز المدينة 65كم, وعن مركز الناحية 7كم, وتقع في أسفل صلبة صخرية أحجارها متفاوتة الأحجام, حادة وقاطعة ,تتوزع باشكالها المسننة تنتصب كئيبة جرداء لا أثر لأي مسحة جمال فيها في فصل الصيف, أمّا في موسم الشتاء والأمطار وعندما ينير البرق فوقها وتصب الغيوم الثقيلة وابلها عليها ,تبعث السواقي والغدران العطشى والميتة الى الحياة من جديد حين تجري المياه المصطبغة باللون الأحمرالمنسدل من تلك التلال الى بطون الاودية المنبسطة ,وتعتمد القريةعلى تربية الأغنام والأبقار بالدرجة الأساس ,وعلى الزراعة الديمية لمحصولي الحنطة والشعيربالدرجة الثانية, لوقوعها خارج حدود المنطقة المحددة المعروفة بمضمونة الأمطار ,وتعتمد الرعاية والسقي والشرب على الماء من البئرين الموجودين فيها, وتنقسم أعمال أبناءها في مجالات عدة ,أغلبها الأنخراط في صفوف الجيش أو الشرطة ,او وظائف عمالية بسيطة , تدر على الأقل دخلاً يؤمن متطلبات الحياة البسيطة, ويعمل البعض منهم أيضاً عمالاً مؤقتين بأجر مقطوع في مركز المدينة ,أو في مدن آخرى ضمن مجموعات من ثلاث أو أربع أشخاص, يؤجرون غرفة في نزل في أحد الأحياء الفقيرة المنتشرة بشكل واسع, يعيشون الكفاف سويةً ويعملون في أعمال البناء وغيرها من الأعمال الحرة التي تعتمد على الجهد, وكان ابي أحد هؤلاء العمال, وكان يعمل فرّاناً بأجرً بسيط لكنه يفي الى حد ما بمتطلبات المعيشة البسيطة ,وكنا ننتظره نهاية كل أسبوع ليأتـي الينا ومعه ما أستطاع أن يجلبه من متطلبات معيشتنا ,مع وجبة من حصته من الصمون الأبيض وكان يخصني ببعض الحلويات الشائعة آنذاك في القرى, والتي يتباهى بها الصغار, وهي عبارة عن سكر على شكل كرة صغيرة جداً بألوان زاهية, تسمى بالحامض حلو.
كنت الوحيد لهذه العائلة الصغيرة والبسيطة الساكنة في دار عبارة عن كوخين من الطين, أمامهما فسحة كبيرة من الأرض, يلفها سياج من الطين وبعض الآجر, يتوسط السياج باب من الصفيح المجعد ,الذي لو كنت قد جعدته في ماكنة خاصة لما أصبح بشكله كما هو عليه من التجعيد كأنه لوحة من الفن التشكيلي الحديث, وله صريركلما فتح أو غلق يسمعه آخر بيت في القرية , وعادةً ما يبقى مفتوحاً الى ما بعد المغرب ,والبيوتات في القرية شبه مقسمة الى مجاميع خاصة ,تضم كل مجموعة واحدة إسم كبيرها, وعادةً ما تكون هذه المجموعة تضم المقربين من الأخوة والأبناء ونساءهم واولادهم, فكانت مجموعتنا تسمى بالمهنا أسم جدي الأكبر, والى جانبنا مجموعة الجاسم وهو أخو جدي, وهكذا تمتد القرية ضمن هذه المجاميع التي تلتقي كلها بنسب واحد, عدا بيتين في القرية مضّيفين فيها هم أهل أمي وخالتي زوجةعمي الثاني زيدان.
جاءنا أحد رجال القرية من أبناء عمومة أبي ممن يسكنون مع أبي في المدينة, وأخبرنا بأن أبي قد أُدخل الى المستشفى لإصابته باسهال شديد, وهو يرقد الآن في ردهة الباطنية. كان الوقت ليلاً ولم يتسن لنا الذهاب اليه في تلك الساعة, وحين الفجر أيقظتني أمي وكان عمي الأكبر يوسف المكنى بابي رابعة, واقفاً بالباب مع سيارة ينتظرنا للذهاب الى رؤية أبي .وصلنا المستشفى في الصباح ولم يسمحوا لنا بالدخول, الابعد أن أنهى الأخصائيون جولتهم الأعتيادية, حسب ما أتضح بعدئذٍ.كان أبي يرقد على السرير ,وقد نحل جسمه الى حد كبير وتيبست شفتاه ,كأنه يعاني من عطش شديد لايستطيع الكلام وقد أُسعف الأسعافات الأولية المعتادة في هذه الحالة باعطائه المغذي السائل تعويضا عن السوائل التي فقدها . لم اكن أدري في الحقيقة ما هي الخطوة القادمة, وقد أنتابني شيء من الخوف من المجهول القادم ,وأنا ألتصق بامي التي كانت في هول وذهول, وقد تيبس وجهها ,وشاهت عيناها ,وهي تنظر الى ابي تارةً والى عمي تارةً أخرى والدموع تنهمر من عينيها .أخذ اقرباؤنا يتقاطرون على المستشفى نساء ورجالاً, يؤدون واجب الزيارة كما جرت العادة في القرى, وكان ابي يرقد فاقداً لوعيه لايعرف من يكلمه أو من يقف بجانبه. حضر في هذه الأثناء أبن عمي حماد الزيدان , وكان ضابطا بالجيش تصحبه زوجته رابعة ابنة عمي يوسف ورأى الحالة التي فيها أبي ولم يلحظ انّ أحداً من الأطباءأ و الممرضين
كان يعير أهمية لما كان أبي عليه ,وبعد جدالٍ مع إحدى الممرضات التي قالت لحماد : بأنهم أتخذوا الأجراءات اللازمة لحالة ابي, وكل ما يلزم هو وقت لتعويض السوائل التي فقدها عن طريق السائل المغذي المعطى له مع الأدوية اللازمة لذلك, وقد أخذ الوجبة الصباحية من الدواء ,ولم يحن الوقت لإعطائه الوجبة الثانية حسب تعليمات الأطباء المثبتة في أوراقه ,هذه وأشارت الى أوراق معلقة بطرف سرير أبي, فصرخ حماد في وجهها قائلاً:
انه يموت وأنتم لاتعيرون أهمية لحالته الصحية وتعالى صياحه داخل الردهة , حضر على أثرها الطبيب المقيم وأعاد لحماد نفس الكلام الذي قالته الممرضة ,وهنا أخذت حماد العزة بالأثم فقال للطبيب:
إننا سنخرجه من هنا وسنعالجه في الخارج
قال له الطبيب :
على مسؤوليتك؟
قال نعم:
قال الطبيب:
إذن وقع لي على هذه الأوراق ورفع الأوراق المعلقة في سرير أبي, فوقّع حمّاد وأخرجنا ابي من المستشفى.
أعطتني خالتي أم حماد أبنتها الصغيرة هلا كي أحملها, لتساعد في نقل أبي خارج المستشفى, وكان الجميع يجري بسرعة , وأنا خلفهم احمل هلا, وأذا بشي حار يبلل ملابسي وينزل على جسدي لم تكن هلا تلبس حضينة , بل لم تكن تلبس ما يمسك الحضينة ,حيث لاحضائن في القرى للأطفال ولا مايمسكها ,وخاصةً في فصل الصيف, أذكر ذلك الموقف تماماً ونحن في شهر حزيران الحار, وكان عمري آنذاك تسع سنوات .هلا ذات السنتين ونيف أخر ما أنجبت خالتي وأمرأة عمي الأصغر زيدان ,وقدأنجبت قبلها تسعة أولاد خمسة من البنين مات إثنان منهم منذ الصغر, وأربعة من البنات ,مات اثنتان منهن. وزوجت إثنتان الى أخوين من ابناء عمومتنا من الجاسم, أحدهما طالب في كلية الشرطة, أسمه سليمان المنصور وزوجته أمنة الزيدان والآخر أحمد يعمل سائق صهريج لنقل الماء للقرى ويسكن الموصل وزوجته وضحة الزيدان, كانت هلا العاشرة وخالتي هذه أشبه ماتكون بالمفرخة والماكنة, فلم تجد لها وقتاً ابداً لتستريح أوتذهب الى مكان ما, كزيارة أو رحلة الى السوق ,أوماشابه ذلك, وهي تنتقل كالنحلة من مكان الى آخر بين الحضائر وبين المطبخ تحلب وتطبخ وتنظف ,وكان عمي يوسف يروي لي بان خالتي كانت تقوم على عملها في اليوم الثاني أو الثالث بعد أنجابها ,وماكادت تفرغ بطنها حتى تلحظ انها قد اثقلت مرة اخرى.
كانت أمي المغلوب على أمرها تبكي وهي تبلل إزارها وتعصر في فم أبي وتمسح وجهه في ذلك اليوم الحار.
بعدجهدٍ جهيد حضرَ طبيب الناحية الى بيتنا في القرية التي وصلناها بعد عناء, وبعد أن فقد أبي مزيداً من السوائل التي لم تعوض, ولم يستطع الطبيب أن يفعل شيئاً أكثر مما فعلوه في المستشفى, مع الفارق الشديد بين الرعاية والوعي في المستشفى عن الرعاية والوعي في القرية, وأنحى باللائمة على إخراجه .
في اليوم التالي فارق ابي الحياة وتم دفنه في مقبرة القرية وتم إقامة مجلس العزاء كالعادة.
لقد حزنت أمي حزناً شديداً على أبي , وكنت أنا محبطاً كذلك ,وأحس بألامها ومدى تأثرها وحزنها, والتصق بها أريد ان أخفف شيئا من مأساتها ,ولا أدري ماذا افعل حيال ذلك ,وقد ولدّ موت ابي لدّي على هذه الشاكلة حنقاً وحقداً على موقف حماد ,الذي كان السبب وراء موت أبي كما كانت تقوله وتردده أمي دائماً.
تعهد عمي الأكبر يوسف والد رابعة الذي رافقنا الى المستشفى ,بإعالتنا أنا وأمي ,وأخذ يحتضنني ويربت على خدي وسط الدموع المنهمرة من عينيه على لحيته البيضاء الجميلة ,شعرت من خلالها مدى حبه لأبي والحنان الذي أحاطني به, وكذلك كانت أمي تبكي أيضاً قائلةً له:
انه لو لم يتدخل حماد في الموضوع وأخرج حمد من المستشفى, لما حصل الذي حصل ولامت عمي لعدم أعتراضه على حماد في حينها, فقال لهاك
إنّه أجله ولا فائدة من الكلام في هذا الموضوع أو إعادته, فلندعو الله ان يتغمده برحمته ويرحمنا جميعاً فقد قدر الله ما شاء وفعل.
سارت الأمورفي بيتنا ثقيلة بعد غياب أبي الذي أحدث فراغاً هائلاً في حياتنا انا وامي, وبالرغم من طيبة قلب عمي الذي لم يكن يتوانى أبداً عن رعايتنا ,وقد أبدى عطفه وحنانه عليّ يخصني بالرعاية اما أمي فكانت كئيبة حزينة لم أرها مبتسمة بعد وفاة أبي تقضي معظم أوقاتها باشغال تفتعلها قتلاً للوقت, ونادراً ما كانت تلتقي بأحد لكن خالتي أم حماد وبناتها وزوجته رابعة أبنة عمي يوسف ,كانتا يزورانها بأستمرار مع أننا كنا نسكن في مجموعة واحدة ضمن عائلة جدي الأكبرمهنا بإستثناء بنات عمي زيدان اخوات حماد المتزوجات من اولاد عمومتنا من الجاسم.
كان جل أهتمام امي منصباً على تربيتي ورعايتي وتحضير حاجاتي المدرسية التي أحتاجها, بعد أن فتحت المدرسة أبوابها من جديد ,وكانت تخاف وتحرص عليّ أشد الحرص, وتودعني وتراقب عودتي بالرغم من اني أذهب وأعود مع أقربائي ابناء عمومتي من المهنا ,لكنها كانت تستسلم عندما يصحبني عمي يوسف معه في بيته أو خارج بيته, لإطمئنانها وقناعتها بأن عمي يحبني كولده, مع انه لم يكن له ولد سوى رابعة زوجة حماد وقد توفيت والدتها اثناء ولادتها ولم يتزوج عمي بعدها.
بدأت امي تذوي شيأً فشيأً وبدى أنّ الهزال أصبح سمتها ,وكنت ارقب تدهور حالتها المفاجيء لي وبذل عمي جهوداً كبيرة لمعالجتها ,فكان تارةً يصحبها الى طبيب الناحية, وتارة يأخذها الى المدينة لعرضها على الأطباءهناك, ويعود محملاً بالأدوية وكنت ألازمها كظلها, ينتابني الخوف والرهبة ان يخطفها ألموت مني كما خطف أبي, وقد استعّرفي داخلي أتون من الحقد والكراهية على حماد ,وتدخله السافر الجاهل الذي كان سبباً في موت ابي ,وها هي امي اليوم ترقد في فراشها لاتستطع الحرأو الأكل إلا على السوائل التي كان يعطيها عمي لها دون فائدة ,لقد كان حزنها وتأثرها على ابي شديداً جداًو أخذت صحتها تتدهور وهي ترقد بلا حراك, وقد تيبست من فرط الهزال حتى أسلمت روحها رحمة الله عليها.
لم اكن ادري ما أفعله حين ذاك, وقد اقام عمي مجلس العزاء في داره ,وتسابق أبناء عمومتنا من المهنا بإدارة مجلس العزاء, وأخذت جموع المعزين من الرجال والنساء تتوافد على بيت عمي, ومنهم من الجاسم وكذلك من أطراف القرية ,ومن القرى المجاورة ومن أخوالي وكانت خالتي أم حماد وبناتها ورابعة أبنة عمي يستقبلن النساءفي بيتنا ,وكنت أنا لاأكاد أفارق عمي الذي أنهكته مراسم العزاء ,من الإستقبال والتوديعو واشرافه على ادارة المجلس وإعداد وجبات طعام المعزين.
كنت في العاشرة من العمر حين توفيت أمي وكنت أكثر إدراكاً مما كنت عليه حين توفي أبي, وقد احتضنني عمي يوسف وخصني بكل حنانه, وكان يكلمني كما لو كان يكلم رجلاً وليس صبياً ,عكس ما كانت تكلمني إبنته رابعة التي كانت تستخدم اسلوب التعالي والتكبر بتصرفها معي .
انتقلت الى العيش بمعية عمي, بعد ان غابت أمي وأحسست بان عمي يوسف هو الطود النبيل الذي لولا أهتمامه بي ورعايتي, لماكنت أعلم ماكانت ستؤول اليه اموري .
كان بيت عمي يوسف واسعاً يحتوي على مجموعة من الغرف أكبرها تلك التي تقع بالواجهة, تستخدم كمضيف والبيت ذو فسحة كبيرة يقطع جزءاً منها حائطٌ من الطين يتصل بحضيرة الأغنام التي يمتلكها, والتي تربو على مائة وسبعون راسا مع بقرتين ومجموعة لابأس بها من الدجاج, وقد قسّمت الحضائر بشكل منتظم يدلل على خبرة وباع طويل ,ولها مخزن كبير يحتوي على الأعلاف المركزة, والأعلاف العادية, ومستلزمات الأدوية البيطرية والمبيدات.
وقد عهد برعي الغنم الى راعي سوداني الجنسية اسمه عثمان, أستقدمه عمي للعمل عنده منذ أربع سنوات ضمن أتفاق مسبق بينهما بالتراضي, يأخذ بموجبه سنوياً مبلغاً مقطوعاً من المال وعددمن الخراف. وقد أنتشرت ظاهرة الرعاة من الأخوة السودانيين في قرانا ومناطقنا, وكان الأخوة السودانيين يعاملون معاملة جيدة, للصفات النبيلة والمخلصة التي يحملونها ويعملون بها واخلاصهم المتفاني مع أخلاقهم العالية التي تدل على اصالتهم العربية الكريمة, اعفّاء ونزهاء أمناء على عهدتهم ,ومتفانين في عملهم الدؤوب المتعب, وكانوا يحسبون على البيت الذي يعملون عنده وكأنهم أحد افراده.
إشتد عودي وأخذ عمي يعتمد عليّ في كثير من الأمور التي يحتاجها, وكان حريصا ًاشد الحرص على متابعة تعليمي ودراستي ,وتحمله تكاليف تلك الدراسة في الوقت الذي كان به بأمس الحاجة الى من يساعده ويلازمه, وكم من مرة تذرعت بأن أتنصل من الدراسة بحجة البقاء لمعاونته وقلت له ياعمي:
ان ماجد قد ترك الدراسة ,وهاهو يساعد عمي زيدان في الرعاية ويقضي له أعمال كثيرة, ولايستغني عنه, وأنت أكثر حاجة منه لمن يقف الى جانبك ليخفف من أعبائك فرد عليّ ردا قاسيا لم اتوقعه.
قائلا بغضب: ايها الأبله أتعلمني كيف اسيّر اموري؟ ام أعلّمك ؟
كان ماجد ابن عمي وشقيق حماد وهوبسنّي قد ترك المدرسة في الصف الخامس الأبتدائي وكان شقياً . باءت محاولتي بالفشل ولم تجدي حيلتي تلك نفعاً وأخذ عمي يعلمني كيفية السقاية من البئر, وكيفية تحضير العلف للأغنام في الحضيرة ,وكيفية وردها حين عودتها من المرعى وغيرها من الأمور الأعتيادية التي تطلبها الحياة في القرية التي بدأت أتعرّف على أهلها تدريجيا .
بعد ما تجاوزت إمتحان البكلوريا الأول بدات العطلة الصيفية في شهر حزيران ,وشهر الصيف في القرية لايطاق, من شدة الحرارة والجفاف و ولم يأتِ شهر حزيران بالذات إلا وتذكرت مأساة أبي ووتصرف حماد الأحمق.
كانت الحرب على اشدها وكان الشباب يساقون اليها على وجبات واحدة تلو الاخرى ومنهم شباب قريتنا ومعهم ابن عمي نائل الزيدان .
عمد عمي يوسف الى تعليمي الرمي بالبندقية أثناء تلك العطلة الصيفية وكان يحرص في البداية ان يؤازرني عند الرمي بمسكه البندقية معي, قائلاً لي وهو يعلمني: إنّ هذا السلاح عندما نمتلكه لايعني باننا سنستخدمه في قتل أو جرح أحدو ولكننا نرى أن من الضروري أن يكون عند أي واحد منا قطعةً منه او أكثر,وأنت ترى أن الرعاة ومنهم عثمان راعي أغنامنا ,لايستغنون عن حمل السلاح تحسبا لحماية الأغنام وانفسهم من هجوم الذئاب او لقتل الأفاعي المنتشرة في أراضينا خاصة في فصل الصيف, اوللدفاع عن أنفسهم وعن القطيع عندما يتعرضون الى السرقة من قبل اللصوص, وهذا نادرا ًماقد يحدث, أمّا السلاح الشخصي كذلك المسدس, وأشار الى مسدسه الذي كان معلقا على حائط الغرفة التي نعيش فيها سويةً وكان مسدساً يتسع لتسعة رصاصات كماأخبرني,( وقد كنت ألاحظه يتمنطق به عندما يذهب الى مشوارخارج القرية لزيارة او لتعزية او لوليمة), فاننا نحمله كسلاح شخصي وكذلك نحرص دائماً الا نستخدمه أبداً (الابالضرورة القصوى).وبعد أن علمّني الرماية في المسدس دون أن يمسك بيدي هذه المرّة ,وكيفية تفكيكه وتنظيفه بعد الرمي شعرت بفخر مما أنا عليه ومما تعلمته .قبّلت عمي من لحيته الجميلة وشكرته وإحتضنته.
فقال لي: لابد ان تستغل هذه العطلة بعد أن أصبحت رجلاً أن تصحب عثمان وتشاركه برعي الأغنام كي تتعلم الرعاية ولتساعد عثمان المسكين .
أستقبلت عثمان عند عودته من الرعي اثناء الغروب, وأخبرته بما قرره عمي في أن أصاحبه في الرعي, فابدى ترحيباً حاراً بذلك , في صباح اليوم التالي ومع الفجر, أيقظني عثمان بعد أن كنت قد أحضرت مايتزود به الرعاة عادةً ,وذهبنا الى الحضيرة بعد أن أحضرحماره فاتحاً باب الحضيرة, فانطلق القطيع كانه سجين قد أُطلق سراحه, أوصاني عثمان أن اسير خلف القطيع ,ومدّهو بالقطيع راكباً على حماره يتبعه كبش كبيرعلّق في رقبته جرس ضخم يتبعه القطيع, ويحيط القطيع كلبيين أحدهما على جهة اليمين ,والآخر على جهة اليسار,وأنا أسير خلف القطيع ,كما أوصاني عثمان, وأهش بعصاتي وألوّح بها كي لاتتخلف إحدى النعاج. وبعدنا عن القرية مسافة كبيرة الى أن وصلنا الى أرض ممتدة ومنبسطة, وقدبدى لي كما رأيتها أنها كانت مزروعة بمحاصيل الحبوب من آثار مخلفاتها من القش والتبن التي أنتشر فيها القطيع, وترك عثمان حماره وربض الكلبان يلهثان من شدة الحر والجوع والعطش حارسين أمينين للقطيع .
تعامدت الشمس وأصبحت الحرارة لا تطاق, وبدأ عثمان الحديث معي عن رأي في عمل الراعي؟
فأجبته: إنه عمل شاق ولكن به لذّة ,ولذته تكمن في أنّك تعمل وتنجزمن أجلك وعائلتك, ومن أجلنا ,وكذلك من أجل هذه الحيوانات التي باركها الله.
جلسنا لتناول الغداء وكنت قد جلبت معي بعض البيض المسلوق, والخبز, وأخرج عثمان علبة معدنية كان قد وضع فيها بعض السمن الحيواني الممزوج بالحليب ,مع شيئاً من التمر, وتناولنا غداءنا في ذلك الجو التعس وكنت قد أنزلت من على ظهر الحمار قطعة الخميسي التي جلبتها معي لأتقي الحرارة كما اأوصاني عمي ,وهي تسخدم عدة إستخدامات فهي تصلح كخيمة صغيرة يستظل بفيئها وكذلك كغطاء للرأس والجسم يشبه المعطف ,يستخدم ايضاً كفراش للجلوس عند الحاجة,كما أنّ الجود الذي ملاءته بالماء لم يفارقني مذ خرجت .
حدثني عثمان بأنه قد إشتاق لأهله وخاصةً أمّه, وهو لم يذهب الى أهله منذ عمل عند عمي, إلامرّة واحدة, وهو ينوي الذهاب مرّة أخرى, إذا سمحت ظروفه وتكلم عن منطقته في السودان قائلاً:
إنه من ولاية النيل الأبيض نسبة الى نهرالنيل الأبيض ومن شمالها المتحادد مع العاصمة الذي يشابه مناخه مناخ هذه المنطكة, ويقصد منطقتنا وأنّه كان قد ثقدم بطلب للعمل في مصنع للسكر في منطقته, إلا أنه رفض لصغر سنه وكان نصيبه أن يأتي الى العراق عن طريق أحد أقربائه العاملين هنا .
بعد حديثنا هذا همّ عثمان بالقيام وأخبرني:
بانه سيأخذ قسطاً من القيلولة مادمت أنا موجود, وأوصاني بان أنتبه للقطيع حتى لايتخلف عنه احد رؤوس الاغنام, ربط عثمان حماره من لجامه في الأرض بواسطة حديدة طويلة منبلة, بعد ان ثبتها في الأرض تسمى بالسكة وأوصل طرف من الخميسي العائد له ببرذعة الحمار,وثبت الطرف الآخر بعصاه التي غرسها في الأرض, وتمدد بفيء الخميسي وحماره قد عقص أذنيه الى الأمام مغمض عينيه نصف إغماضة ويحرك ذيله يمنة ويسرى بلا هوادة .
مضى اليوم الأول لي في الرعي طويلاً شاقاً وقبل الغروب عدنا أدراجنا الى القرية ,وأركبني عثمان الحمار كي أقود القطيع يتبعني الكبش بجرسه الرنان منبه القطيع للسير ورائه ,وبقي عثمان بآخر القطيع , وعند وصولنا الى البيت تهافتت الأغنام كعادتها لتورد الماء من الجوابي المعدة لذلك , وتدخل بعدها الى الزريبة لتناول علفها وما لفت نظري ولأول مرة هو أن الكبش لم يشارك الأغنام بورود الماء إلابعد ان ورد الحمار.
بعد العشاء سألني عمي يوسف عن مشواري في الرعي لذلك اليوم فأجبته أنه مشوار مضني, لكنه لايخلو من لذة في أنك تعمل وتنجز شيئاً ,وقد إستفدت أشياءً كثيرة في يومي هذا, فأجابني عمي بأن يتوجب عليّ أن اتمرّس يومياً صحبة عثمان كما لو أني أؤودي فرضاً من الفروض اليومية وقد تعلمت خلال ممارستي ومصاحبتي لعثمان اشياءً كثيرة عن أصناف الأغنام وعاداتها وأنواعها واسمائها وعن مواعيد التلقيح والولادة والفطام والحلب وجز الصوف ومواعيد زيادة العلف المركزعند الحمل وكذلك عملية العزل والنبذ وكل مايتعلق بذلك. فاتني ان أذكر بأني سألت عثمان عن سبب عدم ورود الكبش الماء مع الأغنام الابعد أن ورد الحمار؟
أجابني بأن هذا الكبش أبعد عن أمه منذ ولادته بعد أن شدت عيونه ولم يرها وقد تغذى على الحليب الذي أعطي له بواسطة الأنبوبة, وقد تم تدريبه للسير وراء الحمار منذ صغره بعد إخصائه وإعداده لقيادة القطيع مستقبلاً ,لذا فهو يتبع الحمارظناً منه أنّ إنتمائه لهذا الحمار, وعادةً ما ينتخب هذا الكبش أثناء الولادة ,ويسمى بالمرياع لكبر حجمه أصلاً ولخصيه أيضاً, مما يولد لدى القطيع انطباعاً وأستسلاماً بان المرياع يقودهم الى حيث العشب والمرعى.
بعد نجاحي في أمتحان البكلوريا الأول وانتقالي الى مرحلة الثانوية, فرح عمي يوسف وفرحت أنا أيضاً بالرغم من انني كنت اتخّوف من المشاكل التي سأعانيها في الذهاب والأياب الى المدرسة الثانوية في مركز الناحية يوميا, والتي تبعد عن القرية سبعة كيلو مترات ,فاجئني عمي يوسف بأنه لم يعد هناك من داعٍ للذهاب للدراسة في الناحيةو ففرحت جداً بهذا الخبر الذي يعني ان عمي يوسف قد إقتنع اخيراً انه بحاجة اليّ, واسترسل بانه قد رأى الاستاذ سمير مدير مدرسة القرية, الذي أخبره بانه قد قدم طلباً الى المعارف كما قالها عمي, لغرض فتح صف للأول المتوسط في المدرسة, نظرا ًللتوسع الحاصل فيها, ريثما يتم فتح مدرسة متوسطة في العام القادم وقد حصلت الموافقة على ذلك .
كان وقع الخبر علي أشبه ما يكون بالحل المقنع الذي تقبلته, وأضاف عمي بانه يتوجب عليّ الأهتمام بهلا أبنةعمي زيدان وابنة خالتي التي تم تسجيلها في الصف الأول الأبتدائي, وأوصاني ان احرص على إصطحابها معي في الذهاب والأياب.
كانت الحرب العراقية الأيرانية على أشدها ,والأخبار تتوالى من جبهات القتال, وقد طال أمدها وماتكاد تخمد في جبهة ,حتى تستعر في جبهة آخرى وقد كانت القرية كما هو حال جميع القرى تستقبل الشهداء والجرحى وتفقد من الرجال من لايعرف مصيرهم بين مفقود أو أسير و تكاد تخلومن الشباب الذين سيق أغلبهم في الخطوط الأمامية على جبهات القتال بإستثناء بعض الطلبة والمعاقين .
كانت القرية تستقبل القادمين بإجازة من الحرب في شوق ولهفة, لمعرفة حقيقة ما يجري في الجبهات وخاصة المتقدم في الخطوط الأمامية, وكل كان يروي ما يجري في موقعه حسب روايته, وبدأت الحرب تأخذ ابعاداً آخرى, ولم تفلح جميع الوساطات الدولية الأسلامية وغير الأسلامية لوقفها.
تقلصت الى حد كبيرظاهرة ذهاب رجال القرية الى الناحية ,او الى المدينة, للعمل او لبيع منتجاتهم اليومية من اللبن والقشطة في الساحة المخصصة بسبب التحاق أغلبهم بالجيش .وقد تولت النساء وبعض الصبيان المتخلفين عن المدارس ومنهم ابن عمي ماجد يحلون محلهم في ذلك السوق, وكنت أطلب من عمي يوسف ان أذهب أنا كذلك لبيع اللبن والتعرف على اماكن وكيفية بيعه, وكان عمي يرفض ذلك ويقول:
إننا لسنا بحاجة لذلك, وكنت اعرف مسبقاً أنّ عمي سيرفض ذلك لكبريائه, وخوفاً عليّ من أن أصاحب ماجد, وكان عمي يوسف وعثمان يحولان الحليب الى زبدة بيضاء كانها الثلج ,وكذلك الى سمن حيواني يرسله عمي الى التجار لبيعه وفي بعض الأحيان يذهب هو لبيعه.
العنوان غير صخيح لغويا … راعي نكرة فكان الأصح (راع) ؟
صحيح. سوف يتم التصحيح وشكرا على التنبيه.
تمّ تصحيح عناوين الحلقات كلها