لم أكن شاعراًَ في يومٍ ما فأنا راوٍ لشاعرةٍ أسمها الحلة , هذه المدينة التي ترضع الآلهة ومنذ فجر التاريخ خمراً وشعراً فمن سنبلةٍ تتدلى من جنائنها المعلقة تتوهج السُمرةُ في وجوه الحليّين وتتلون المرايا في مراقد العلماء وتشعّ أزقتها بالصبايا ويمتد الظل وارفاً في بساتينها التي يتماوج فيها اللون الأخضر يشف في شجرة ويدلهمّ في أخرى ليشكّل قوس قزح يصعد من الأرض الى السماء طلقاً بثماره الشفيفة المليئة بعسل العذارى الحالمات تحت أشجاره وتلثغُ كتاتيبها المنتشرة هنا وهناك بالرقم الطينية كان الطفل يتنشق ترابها ليتعشّق مع جذورها الضاربة في عمق الحياة ويسكب بيديه الماء على رمال شاطئها باحثاً عن الكنوز الخفية فيرى ثلاثة أختام أسطوانية تهمس بين الحصى الناعم فيقف مذهولاً وهو يتابع دورة المردي الذي جاب به كلكامش الأنهار بحثاً عن عشبة الخلود وأستقر عصاً بيد المُلَة المايسترو الأول الذي أطعمنا موسيقى الحروف هذه المُلَةُ السيمفونية التي تتطاير من عباءتها العصافير الملونة لترفرف في أسماعنا وأبصارنا ونلوذ في محرابها صامتين . لم تبدأ الكارثة بعد . كان الطفل ينقِّطُ السماء بطائرته الورقية مستعيناً بالمنار المتّقد في سرتها راسماً الحروف فراشات تلمّع أجنحتها لتضيء ورد السماء والطائرة تخفق بقلب سليم متماهية مع زرقة السماء فيلتفُ القمر في طوقها وترفرف النجوم فوق أغصانها كل هذه الشجرة التي ترقص في السماء ناثرة جدائلها تبدأ من خيط في كف طفلٍ يجلس في زورق يتهادى في شط الحلة وهو يسمع أغاني العشاق التي مازالت ترن في أذنه
يا حبيبي
يا قمري السائرِ فوق الماء والدفءُ ينثُّ من عباءته
إنّ برد الصبح يلسعني
ونهداي يرتعشان
فضمني بضيائك
دثرني بالنور
واقطف ما تشتهي من ثماري
لأقطف من ثمارك
ودعني أتلمسُ السنبلة التي تشع على طول جسدك
حبةً حبة
لأذوبَ في سَورَتك الصاخبة بالملائكة
وهي ترضع من شفتينا
ونحن نذوب في قبلة تختصر الينابيع كلها
لينبَجسَ الماء صافياً في البراري
لم تبدأ الكارثة بعد …
وأضرب بعصاك الشعر . كان النهر يسهر في بيتنا يغفو ويحلم وحين تفزُّ أسماكه من نومها يخرج معتذراً متأبِطاً أمواجه بين ضفتيه سائراً في نومه وأنا أتبعه صارخاً
أيها النهر لا تسر وانتظرني لأتبعك
أنا أخبرت والدي إنني ذاهب معك
فانتظرني لأتبعك
وأرى السماء بقمرها ونجومها تراوده عن نفسها فيخلع أمواجه ليسيل في زرقتها مؤتلقاً بالبرق الذي يخطف أبصارنا والسنبلة تتدلى من غيمة فوق رؤوسنا وأضرب بعصاك الشعر
عشرة أيتام
كنا حين ينام النهر ننام
في منتصف الليل
وفي محلة الطاق
حيث ينحت النهر خصره
تأخذ أمي مكانها في الشريعة
فيأتي النهر الى حضنها
وبصوتٍ أعذب من كل مياه الأرض
تهمس في أذنه :
دلل لول يالنهر يبني دلل لول
فيغفو من خمر في بحتها
وترضعنا من نعاسه لننام
في هذا الرحم المائي المليء بالكنوز التي تضيء في جراره تعرّفنا على الكنوز الأولى للحضارة العراقية وفي حاضنة قل نظيرها ونحن نتابع خطى طه باقر وأحمد سوسة و سامي سعيد الأحمد وهم يبحثون عن الشمس الأولى التي تشرق بالرقم الطينية لتقدم لنا قصائد الحب والخصب وتجدد لنا دورة الحياة وتبعث فينا الحماس والحنين الحنين الى الماضي من أجل استشراف المستقبل
حين يعود السنونو الى بلاد السند والهند
يتبختر بين أقرانه لأنه يمتلك عشاً في محلة الطاق
وفي الغرفة التي فلّ بها طه باقر رموز الكتابة المسمارية
والتي رأى فيها البصير النور
وكتب الشيخ الطاهر أساتذتي
وغنى بها عبد الجبار :
تعال وشيل هالأحزان عني
فتغير الطيور المهاجرة بوصلتها
في عام 1954 أخذتني أمي وأنا أرتجف تحت عباءتها لتسجيلي في المدرسة كان لزاماً عليها أن تأخذ لي صورة شمسية قادتني أمي إلى المصور الذي يقف مع صندوقه الخشبي تحت الجسر القديم الذي قلت عنه في عام 1958
مكتئباً أسيان
شاخ على مهل جسر الحلة
طالت لحيته وابيضت
فتعلق فيها الصبيان
وعندما أجلسني المصور على تنكته المتشحة بالسواد قالت له أمي ( يمه هذا يتيم أخذله صورة زينه ) ولا أدري لحد الآن ما هي العلاقة بين الصندوق الخشبي واليتيم والصورة (الزينه) . بهذه الغرائبية التي نطقت بها أمي أتعامل مع الصورة الشعرية مشظّياً بؤرتها الى صور متضادة مختلفة صادمة تتوهج في جسد القصيدة وتحرره من لحمه و عظمه وتحلق به بعيداً بأجنحة لا يراها أحدٌ . أن الفطرة والصنعة تتماهيان في القصيدة , يذوّب أحدهما الآخر بسحرية صافية تزق مناقير العصافير التي تزقزق في بياض الورقة وأعود الى الجسر القديم عام 2005
أنا أحب الحلة
أحب جسرها القديم
لم يحلق لحيته رفقاً بالصبية المتعلقين فيها
وأنام في موجةٍ تحته
أسمع أنينه وهو يرى الجنود العابرين الى الحروب
محترقاً بالجمر الذي تتركه أقدامهم على ضلوعه
أهذه دموع أمهاتهم
قال الجسر وبكى
لو كنت فتى
وروح فدوه لعيونهم التي تضحك فيها الشمس
والنهر يلملم ما تساقط من ضلوعه
الكارثة ابتدأت وجسر الحلة القديم وبما له من ذاكرة جمعية حدثني عن حجمها فالجسور لا تقوى على حملها الجسور والتي تقدّس عذرية أنهارها تهرب منها أي أنها ترفض أن تكون سبباً ولذا أجبرت الحروبُ الجسورَ أن تفتض بكارة أنهارها بأقدام كونكريتية تمتد بعيداً في رحمها . الجسور فوق الأنهار واحدةٌ ومتشابهة لا أعني معمارها بل وظيفتها . فجسر الحلة القديم كان جسراً للمحبة , جسراً للكَسَبة والعشاق والأغاني والأعراس يربط الصوبين بهوى الأحبة يعرف أسماء عابريه ويبتسم بأمواج راقصة لأهالي الصوب الصغير أو الكبير على حد سواء فمن الصناعي الى الزراعي ومن الريف الى المدينة ليكمل دورة الحياة في المدينة . فمن الذي إصطلاه ليوزع شبابه صبيته المتعلقين بلحيته الى الحروب وكل الطرق تؤدي الى المحرقة . هل يعطّل الجسر وظيفته ويقف على شكل علامة استفهام لا ضير فالجسور التي تؤدي الى الموت كثيرة وعامرة بالسابلة
*********
في أعماق 1967 والطوفان لمّا يزل في رحمه كتبت قصيدة الكوميديا العراقية التي نشرت في مجلة الكلمة وكتب حميد المطبعي على غلاف المجلة ( موفق محمد شاعر يولد في الكوميديا العراقية ) وكانت قصيدة متمردة مغايرة للسائد والمألوف شكلاً ومضموناً فمن ينزل القصيدة من هودجها ويخلع عنها ثياب البداوة والبطولات الزائفة ويخدش الظاهرة الصوتية التي تعرّبد فيها , وفينا من يخلخل القيم التي اعتادتها الأذن العربية على مدى قرون متتالية والأمة تنام في عسلها المرّ والعالم يتقدم بخطى واثقة , من يكسر هذا التشبث الأعمى بالماضي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع وإلى آخره من الأسئلة فما زالت الكوميديا وعلى مدى أربعة عقود تحمل أسمي واحمل أسمها وقد أكل صليبها المشاكس ومساميره لحم ظهري وما زالت دماؤها تسيل في قصائدي فقد أرّخت هي وقصيدة الثلج المقلي لما حدث في العراق وتنبأت بما يحدث له الآن فالمصائب لا تأتي إلا تباعاً مكثفةً هولها وغولها ورعبها
أدفع باب الحانة في منتصف الليل
أنصاف المشلولين
الجثث الملقاة على بعض دون استنكارٍ أو خوف
واليأس المصلوب على وجهي
يفتح عينيه على الجيل الطالع من قنينات العرق
الأبيض
مثبوراً بالحزن
وثقل العائلة التعبى وتكاليف العيش
والثورة أو فيما يشبه أطباق الثلج المقلية
في أخبار الساعة
عن أيجاد الحل لمعضلة الفلاحين
والطبقات الرثة
والمرضى في المدن المختومة بالجوع
لا يمكن أن توجد إلا في الخمر
الخمرُ الخمر
وطن للزاني والسافل والقديس
الكوميديا كانت تستشرف المستقبل الدامي للعراق من كوىً سوداء معتمة وأنت تنظر من ثقب في موجة يتخثّر دمها والقصيدة تأخذ شكلها ومضمونها وفقاً لمزاج هذا الدم الفائر والخاثر انه يسحبك الى مناطق تضيق بها العبارة ولا تتسع الرؤية لتعطيها أشكالاً مغايرة صوراً لسرب طيور مهاجرة يتداخل فيها المتن والهامش اللغة التي تشد أزر الطيور لتواصل طيرانها الراوي الذي يتنقل بين أول السرب وآخره أحياناً ينفرد ويدخل فضاءاتٍ لا يعرفها السرب ويعود مثخناً بالجراح مرخياً أجنحته في هذا الطيران الهائج والمائج فالمدن تغير علاماتها في الحروب وتغير أصوات مآذنها وألوان قبابها وتنكّس أبراجها وتقطع رؤوس نخيلها فلم تعد الخرائط القديمه مجدية لأسراب الشعراء المهاجرة أو القابعة في تنانيرها فالعاصفة تعوي والشاعر يتعثر في طيرانه وفي لغته التي لم تعد تحتمل شيئاً مما يجري فأي عذاب هذا والقنّاص أقرب إليك من حبل الوريد إن رصاصته تثقبُ جبهتك قبل أن يرتد أليك قلمك
***********
الجنون والشاعر توأمان سياميان فلو حاول الشاعر أن يتمسك بأناه ويتطاول على توأمه فسيموت حتماً ستنخره أرضَة الأنا وتتركه صريعاً في معارك لا تسمن ولا تغني إبداعا سلّم حبلك الإبداعي للجنون السيد الحقيقي في هذا العالم الرائي الذي يعرف كل شيء , دعه يقودك بمنجرَد قيد الأوابد هيكلِ الى الينابيع الصافية الى عيون الطفولة التي يتدفق منها الشعر بريئاً والى العواصف التي تقتلع في سورتها أشد الجبال رسوخاً الجبال التي تجثم على صدورنا بصخور التخلف والسلفيّة التي ما أنزل الله بها من سلطان ولأننا لا نمتلك إلا اللغة فقد حمّلنا الشعر ما لا يطاق فهو المنقذ والمغيّر والقائد الى بَر الأمان ناسين حركة المجتمع وتجانسه وتفوقه في مجالات الحياة وفي مفاصلها المهمة
ولدت توأمين
يجمع في ما بيننا الخوف
وعندما صادفني الأعراب
فرّقنا السيف
***********
بعد كل قصيدة يحتاج الشاعر الى وقفة طويلة يتأمل بها منجزه الإبداعي بم امتازت هذه القصيدة عن سابقاتها وهل هي قادرة على اللحاق بالواقع الصادم والفاجع , الإصرار على كتابة القصيدة الفنية الصادقة والمختلفة والإتيان بصور لم تخطر في بال الشيطان لأن الجحيم الذي نعيشه يمتلك مخيالاً يفوق قدرة الشاعر معرفةً وتخيلاً إنه يصدمك صباح مساء بكشوفاته الخارقة الفوق فنطازية الخارجة عن قواعد البلاغة كلها والأذن العربية ما زالت مصرةً على سماع القصيدة على طريقة قفا نبكِ وكأن شيئاً لم يكن فكيف تنزل القصيدة من برجها و تزلزل نظمها لتسير في الأسواق وهي تسمع أنين الناس وأوجاعهم في مثل هذا الواقع الغريب المحشور برمته في سيارة مفخخة وفي حزام ناسفٍ ونحن ما زلنا نتعكز على البلاغة وبيانها وبديعها واستعارتها نحن لم نؤسس مدرسة فنية قادرة على استيعاب هذا الطوفان الذي يجري دماً ولحماَ وناراً لم نصنع سفينةً حتى نستطيع رؤية ما يجري على الأقل فاللعنة كل اللعنة على الخوف من مواجهة الذات المنخورة بالصغائر والغارقة في غيبوبة وتهذي , الشعر صعب وطويل سلمه , إن شعوب الأرض مرّت بعذابات لا تشبه شيئاً من عذابنا فأسست مدارس فنية وأقامت الدنيا ولم تقعدها لحد الآن هل أتفق المثقفون العراقيون على كلمة حق لا يراد بها باطل أم إن كلاً منهم يتقزم تحت ثقل أناه التي تحجب عينيه عمّا يجري في وطنه فما الذي تتوقعه وأنت تسير حافياً في حقل الألغام الذي يبدأ من الرحم الذي تكورت فيه ولا ينتهي إلا في المقابر التي لم تعد قادرة على استيعاب موتاها فالشعر اليوم هو صراع ضد الموت الذي يستيقظ قبلك في الصباح شارباً فنجان دمك ساخراً منك ومن كتبك وأحلامك وعصافيرك التي جفّفها بيديه أنه ينظر إليك شزراً ويزمّك في بندقيته و يفتح لك أبواب العالم السفلي على مصاريعها
بالفحم الأسود
يرسم الطفل غيوماً كثيفةً على الباب
منتظراً أباه علّه يحمل في يده مفتاح المطر
أن تكون شاعراً فذلك شيء جميل ولا أروع منه , وان تكون شاعراً في العراق فتلك طامة كبرى ( وأكبر خطيّة ) لأنك شئت أم أبيت ستكون محراثاً في جهنم بغض النظر عن الثور الذي يجرك سواءاً كان السلطة أم الواقع أم الأَنا فالكل ضاجٌ وصاخب أنك تحترق في مارج من نار لا يرحم أحداً كيف تمسك بالبؤر المتضادة وباللحظة الشعرية الخاطفة و تصفي هذا الجحيم عبر أسلوب فني أية لغة تحتمل هذا السيل العارم من اللعنات التي تطرق رأسك وأنت لا تملك سوى عينين مطفأتين ويدين مشلولتين وأنت تتلوى بين فكي أسد وعلاقتك مع الحياة لم تبدأ بتصورات ذهنية وإنما أنبجست من حاضنات مألوفة صاغت طفولتك وشكلت مخْيالك وتعاملت معها نصياً باعتبارها أرحاماً تلد جماليات الشعر عبر علاقات إنسانية شاملة لا يمكن لها أن تكون إلا من خلال الحياة التي لم يعد لها وجود إلا في الذاكرة
كان السمك يأتي من النهر الى بيتنا
راقصاً بشباك أبي
هل توصلك الذاكرة الى حاضنة الشعر المقدس الذي يقترح ويؤسس نمطاً ممن العلاقات المعرفية والجمالية ويبتكر المحبة والألفة ويسعى الى أنسَنَة الوحش الذي تربّع فجأة في صدر الإنسان ماسكاً بخناقه والجمرة ما زالت متقدة في راحتيك التي تطرق بها الأبواب الأبواب التي لم يعد يطرقها أحد لتسيل الطفولة بين الأزقة والنهر النهر الذي يمسك شاربه ويقسم لنا بموجة تفوح منها رائحة الأنوثة لنتقاسم معه رغيف الشعر الذي خرج تواً من تنانير أمهاتنا أين تلك الأبواب التي حاورتنا كثيراً , هل مات من خلفها وهل أغلقتها الرياح وضيعت مفاتيحها شامتةً (بحضيري أبو عزيز) هل بقي شيء من رائحة الأبواب في ذاكرة المغني الذي راح عنه حبيبه بعد أن سد باب قلبه وضيّع المفتاح , ماذا بقي من ذاكرة الشاعر في أبوابه التي توصله الى جنته أو جحيمه لا فرق الأبواب الضاجة بمعانٍ تفضي الى التنوع والاختلاف وأنت تقرأ فيها بصمات الزمان وألوان الصبايا وتجاعيد العجائز وهمسات العشاق , الأبواب المنقطة بحليب أمي هذه الكتب المفتوحة على الحيطان لا يقرأها إلا الشعراء ولا تفكُّ مزاليجها إلا الرؤية السابرة الحية التي تنضج لنا عبر نيرانها أرغفة القصائد باللحم المرّ العصي وتضبط إيقاع المراثي وموسيقى الحنين للغائب الذي ما زالت يده معلقة في مطرقتها تطرق ماطرة بالأسى وبالغياب أبواب مفجوعة مفتوحة على المصائب أبداً
كل مصابٍ
تستبدل أمي الخرزة ذات السبع عيون بأخرى
والباب يئن
هي الآن معلقة على الباب أماً بسبع عيون
الأبواب مفتوحةٌ في حي الأسرى
وموصدة في حي الشهداء
ولا أبواب في حي المفقودين
لأنهم يعيشون في زرائب من وعود
ولا حي للقتلى بعد سقوط الصنم
فهم لم يلفتوا انتباه أحدٍ من السادة
ما دام الأمر لا يتعلق بذويهم
ولا يمتلكون الخبرة الكافية
لتسمية الشهداء بموسيقى السيارات المفخّخة
***********
من الأعشاش وطيورها وأشكالها الملونة ومن سدرةٍ تزقزق بآلاف الأغصان على شط الحلة ومن ضفافه التي تأخذ بها الأسماك قيلولتها في بيوتنا الرملية على موسيقى الأمواج الهامسة ففي كل موجة صبي يمرح وصبية تنقر بأصابعها شباك غرفتي المطلة على شط الحلة تسكن الصورة عشها في لا وعي الشاعر تزق فراخها وتلتقط حبها من الكنوز المتوهجة وفي يقضة اللاّوعي وهو يجلس على عتبة النص داعياً الشاعر الى بيت الموج والجمال برموز حلمية لا تكاد تراها تنهال الصور الشعرية في وحدة فنية متماسكة وبتعدد الصور وتنوعها يخرج النص من رحمه متدفقاً وسريعاً كاسراً الصلب والترائب وأنت لا تستطيع أن تقطع حبله السري لحظة تنامي الحس الدرامي وتوهجه في فضاء النصوص الطويلة والمركبة مثل فتاوى للإيجار و زائر الليل وشمس الحلة وأولاد الخايبة حيث تلتف المواضيع في سورة تبتكر أشكالاً خارج المألوف وتحتاج الى أسطةٍ ماهر لجمع ما يتشظى منها فتتلقفها أحياناً بلغات مختلفة وتعمل على ترميزها وتجفيرها بلغات مختلفة اللغة العامية واللغة اليومية والفصيحة التي تضرب في أعماق الموروث العربي فبأي لغة ِ تحتوي هذا اللهب العارم والطالع من بركان الواقع مازجاً الدم واللحم والأسفلت في غيوم سوداء تعمي الأبصار وتصم الآذان
هذا زمن أيسره موس يتعشق في الزردوم
وأعسره
لا شيء عسير بعد جهنم
ولقد ذقناها مفخخة
فما زال زفيرها يرن في أسماعنا وأبصارنا
ونحن نكنس لحم أبناءنا في الطرقات
فكوم هنا وكوم هناك
ودم يَرى
يحاور لحم صاحبه ويصعدُ للسماء
ألم تر أن الغيوم قانية في سماء العراق
وأن دجلة والفرات جرحان يتسعان يكتظان بالجثث الذبيحة
ونحن لم نبنِ السفينة
لم نقل للأرض يا أم أحملينا مؤمنين
كنا نسارع للغنيمة والهزيمة
فالعراق حقائب زمت وضاعت في المنافي
وما تبقى أو من تبقى
صار ثالثة الأثافي
************
في قصيدة الومضة التي يتقرفص فيها الشاعر قريباً من فوهة البركان ليختصر الجحيم كله حيث يتلقف في راحتيه الصخور والطين والنار والماء والهواء ليضعها في الرحم الذي سيلد القصيدة وأنت تخاف الخدّج من القصائد وتحرص أن يأتي المولود في ليلة الشعر التي تتنزل فيها الأبيات من قمر نازف في السماء
في الحضرة
والقتلى تركض فوق رؤوس الأحياء
بضع نساء يتناخين على حمل التابوت
ويطلبن العون من الشهداء
ولا أحدٌ يسمع
تحني مئذنة قامتها
تكشف تابوت النسوة
وتحدق باللحم المهروس
فتصعد فيه
الى قمرٍ نازفٍ في السماء
تصدّع حين أرته الدماء
فكبّر فيه
ودثّر جثته بالضياء
باختصار شديد لا راحة للشاعر في العراق فالرماح تنوشه من كل حدب وصوب تأكل لحمه وتشرب من دمه وهناك من يحسده على هذا فطوبى لشعراء العراق المتميزين .
لا ادري وهل سأظلمه..؟لم اعرف الكثير عن شاعر أسمه موفق محمد قبل عشرة اعوام من الآن..وهذا ربما طبع الجبال القطبية.. لاينبس منها غير شبه قرن من الماء..ولقد سمعت في اربع او خمس مناسبات شعرية بعض قصائده..ففزعت..هلف هوة عملاق في بلاد الأقزام مهما تطاولت اعناقهم لا ترى ذروته..؟
أم هو قزم في بلاد العمالقة الرعنان ففعصوه كالنمل تحت اعقاب جنود سليمان..؟ومتى ستعتدل المقاييس..؟ وتختلف طقوس الجاذبية؟.. ويرتفع وعي الفيزياء في هذه السيديمة السحيقة من المتاهة التي اسمها العراق..؟..متى يبصر وتبصر ويبصرون..؟إن الجهل لأكثر فتكا من فجاعة الأرهاب..هو إرهاب جمعي ..وبائي ..إفنائي بالمرة..وهو من سحق المتنبي وابو العتاهية والغطارفة من صيد الرجال..فهل سيسحق موفق محمد يا ترى..؟لاادري..لكني اعتقد إنه متريث ..باق..على الأقل حتى يوم يحشرون ..باق كما هو يحمل خرج قصائده كساع للبريد ..وكشاهد وشهيد..
صباح عطوان
اوترخت/ هولندا
3/11/2012