– حمدية –
(هذه التي تصفر هي الريح .. لم يطرق أحد الباب ، والحائط لا يتحرك ..لو أحسنت غلق النافذة ما أزعجني هذا الصرير .. ولنمت عميقاً)
سحبت اللحاف ، وغطت رأسها ..
ستنقضي .. هي ليلة كباقي الليالي ..
– ( إسمعي حمدية .. إنطيناج بيت .. وآجرينالج راتب .. المرحوم مات وشبع موت .. عاد إنتي شوفي مصلحتج) .
هذا المتكرّش الأصلع ، حل عليهم فجأة كاللعنة غير المنتظرة ..
في ذلك اليوم المشؤوم جاؤني بحميّد تابوتاً .. لم أعرف ما فيه .. لم نغسله ونكفنه كباقي الموتى .. جاؤوا به تابوتاً ، وأخذوه تابوتاً .. كل شيء جرى بسرعة وعلى عجل.. لم أفهم من كل الضجيج الذي أقاموه فيما بعد ، سوى أن حميّد راح .. إنتهى …
رائحة الطحين في فراشي.. تملأ بيت الطين.. لسنوات طويلة كان الطحين يرقد معي في الفراش.. إلفته.. عندما كان حميّد مسافراً ما كنت أشم رائحة الطحين، لكنني الان أشمه ، ليس فقط في سريري ، وإنما في كل زاوية في بيتي الجديد الذي لم يره حميّد ، ولم يحلم به ..
عندما جاؤوا بحميّد تابوتاً ، كانت الحكومة في عرس ، والقائد هو العرّيس .. لم أتمكن من ذرف دمعة على تابوت أبو بيتي .. أقاموا جرداقاً، ونصبوا سماعات .. حوّلوا الفاتحة لهتافات بآسم القائد ، وفي الأخير تقدم المعزون مني ليهنيئوني .. يهنيئون حمدية بموت حميّد !!
مثوّلة كنت .. في الجرداق ، وعلى الحيطان الطينية ، وجذوع النخيل ،علقوا صور القاذد .. إنتهبوا غرفتنا الوحيدة ، وعلقوا صورة مذهبة فوق سرير نومنا ، والتقطوا الصور ..
رغم أني كنت مثوّلة ، إلا أني كنت أرى دموع المتكرّش الأصلع، وأسمع نحيبه .. تساءلت ما الذي يبكيه ؟!
مسح دموعه.. رفع المتكرّش القردي الشعر رشاشته وصرخ : ( القائد رفع راسنا للسمه ، وخله ما فوق راسنا راس )
(ولكم محد يعرف حميّد مثلي .. حميّدنه .. آخ ياحميّدنه .. حبيّب .. وطيب .. ولكم جرحي بحميّد جبير .. حميّد ترك أرضه .. قال: هناك قاتل ومقتول على لا شيء .. وآنه أرد أعيش .. أرد أعيش .. وإجه لبغداد حتى يعيش .. إشتغل خباز .. واجه نار الشتا والصيف .. وبالأخير حركته نار قايدكم .. القايد ما إحترق بناره .. بس حرق بيهه أحميّد ..
عليش إحترق إحميّد ؟ .. عليش ؟! .. حميّد ! .. حميّد ! .. آخ ..
آخ..
تره القايد ماخله فوق أكتافنا راس .. )
****
– نعيمة –
(ربما .. قد يكون هذا صفير الريح .. هل يدق أحد الباب ؟ .. كأني بالحائط يقترب .. لماذا يضعون نوافذ في البيوت ؟.. النوافذ ليست كالحيطان .. إنها تصّر .. تزأر.. وراء الزجاج يتحركون.. ماذا يريدون منا ؟ ..لا أريد شيئاً سوى أن أنام .. أريد أن أنام .. أنام
أنام ………. )
– إبني سلومي، لا ترفس ..
سحبت صغيرها سالم بيمناها.. ألصقته بها ..
– بنتي نعيمه ، نامي عدل ..
سحبت نعيمتها بيسراها .. ألصقتها بها ..
سالم يغط بنومه العميق، لكن نعيمه لم تكن قد نامت.. هي تسهر جل الليل كما أمها، لكنها تصنعت النوم ، وطاب لها أن يكون أنفها على حلمة ثدي أمها تماما ..
منذ بدأت نعيمة تغسل لباسها خلسة ، وهي تحس أنها تحمل هماً ، وقلقاً وخوفاً وحاجة أكثر لأن تظمها أمها لصدرها .. لقد نشأت متعلقة بأمها ، لكنها تحمل صوراً عن أبيها .. في بعض المقاييس هي أكبر من أمها ، ولعلها أهم ..
(نعومه صارتلي مره ، ومن غير حمرّه محمره ) ..
عندما كان يظمها لصدره كانت أصابعها تسوح في ثنايا شعره الكثيف ، المداف بالطحين .. لأبيها نكهة الطحين قبل أن يداف ..
هي الآن تعي خوف أمها .. وعيها هذا يضخم خوفها .. كان بيتنا الطيني مكشوف تماماً .. معزة الجيران نجدها أحياناً رابضة على فراش أبي .. وديك عليوي يطيب له دوما أن ( يتصنكر ) فوق نضيدة الفراش .. ينقر خرج العنبر الذي يأتينا كل عام من أعمامي في الظوالم .. خرج العنبر كان عزيزاً على أبي .. كانت أمي تضعه في ركن من النضيدة .. عنبر الظوالم لا نطبخه ،إلا في ليالي رمضان ، وفي كل ليلة ترسل أمي صحنا من تمن الظوالم إلى الجيران ..
بيتنا الطيني مكشوف تماما ، ولكن ما دخله غريب .. حتى أعمامي عندما يأتون لرؤيتنا ، يدفعون بخرج العنبر إلى أمي ، ويخبرونها بأنهم ينتظرون أبي في المقهى .. ما كنت أحس بالخوف في بيت الطين .. ما كان يزعجنا أحد سوى معزة الجيران وديك عليوي ..
ومنذ سكنا بيت الطابوق ، داهمنا الخوف.. سحنات غريبة .. بنادق ورشاشات .. ملابس مبقعة .. وأفندية بشوارب كثة ، يأتون وقتما يرغبونوفي كل حين ، وعلى الأغلب في الليالي ..
بعد موت أبي أعطونا هذا البيت هدية من القائد .. لم نحس أنه بيتنا .. إنه بيت القائد وبيت ذوي السحنات الغريبة ..
في البيت ثلاث غرف ، لكننا لا نستعمل سوى غرفة واحدة .. الخوف يضغطنا بعضنا لبعض .. الغرفتان مغلقتان .. نخاف الأقتراب منهما ..
إنقطع أعمامي عن زيارتنا .. وإنقطع العنبر .. لا نعرف عنهم شيئاً ..
تقول أمي : عمامك ما عادوا يزرعون العنبر .. وما عاد بأمكان معزة أو ديك التسلل إلى بيتنا ، لكن الذين يعصرون ثديّ بقسوة ، خلسة ، أو على مرأى من أمي كثروا .. يطيب لهم ، في أغلب الأيام أن يشاهدوا التلفزيون في دارنا .. في غرفتنا ، حيث يجلس بعضهم على سرير أمي ..
كانت أمي تبذل جهدا خارقا ، وخلال ساعات طويلة لتصّنع الأنشغال باشياء.. فهي تعد الشاي ، أو تغسل المواعين ، أو تنظف أرضية الحوش ، أو ترتب رتعيد الترتيب ، ثم ترتب وتعيد الترتيب .. وتنتقل من هنا إلى هناك ، حتى إذا خرجوا، وصفقت الباب وراءهم ، زحفت إلى سريرها ، وإحتظنتنا ونامت ..
قديماً ، كان نوم أمي هاديئاً ، على عكس أبي الذي كان يشخر ، أما الآن فأمي تخرج أصواتاً وأنيناً ، وأحياناً صراخاً مكتوما ، وتتقلب كثيراً على السرير ..
الليلة لم يأت أحد .. أحكمنا إغلاق الباب .. لم نفتح التلفزيون .. إستلقينا في فراشنا مبكرين ، لكن عيني لم تنم ، فهل نامت عين أمي ..
– ( ياستار يا عليم .. إسترنا يارب ! .. )
صرخت أمي ، وهي تهرع للنافذة …
خلف الزجاج كنت أبصر أشباحاً تتراكض .. تطلق النار بغزارة ..
طُرقت بابنا .. هرعت أمي لفتح الباب .. إندفع حشد من المسلحين .. صعدوا السطح ..
نهض أخي مفزعاً ، وطفق يبكي بذعر ، وهو يفرك عينيه ، فيما أصوات الرصاص وجلبة الذين هم خارج البيت تيّبس مفاصلي ..وسط الصراخ والزعيق أبصرت أحدهم محمولا ، وهو مضرج بالدم .. نزلوا به من السلم بسرعة .. بعد لحظات زعقت سيارة الأسعاف وإنطلقت ..
خفت الرصاص ، ثم ما لبث أن صمت ..
عندما خرج آخر مسلح ، أحكمت والدتي غلق الباب ، ثم تهاوت على السرير ، لكنها لم تستلق .. بحلقت بكل شيء ، وبلا شيء ، ثم ضغطت صدغيها
بكفيها ، وأنت ..
– (ما ظل من بيت عبد الحسين حي .. حتى الحجيه .. حتى سلمان الصغير.. )
– سلومي –
سأل سالم أمه : وين راحوا عمامي ؟
تجاهلت سؤاله ، وإنهمكت بغسل الصحون ..
فتح باب المطبخ : يمه وين راحوا عمامي ؟
إلتفتت صوبه ، هالها أن الزغب فويق شفتيه بدا يسوّد .. طردت هاجساً مرعبا .. وإستعاذت بالرحمن .
– الله وحده يعرف وين راحوا عمامك ؟
دار في الصالة دورتين ، ثم رمى جسده على الأريكة ..
قرّب المنضدة منه ، أمسك القلم ، وخط على الورقة الطويلة ( لا أعرف
أين هم أعمامي .. لم نر أحدا منهم منذ ست سنوات.
أبي إستشهد في قادسية القائد ..
أختي نعيمة ، خرجت قبل سنوات ولم تعد ..لا نعرف أين هي الآن .. أختي ليست سياسية .. لا أعرف إن كانت تحب القائد أم لا … )
توقف عند الجملة الأخيرة .. أعاد قراءتها عدة مرات ، ثم شطبها .. وكتب: ( إختي كانت صغيرة .. طالبة في الصف الثالث متوسط .. )
رمى القلم ، وبحلّق في السقف ..
نعيمة .. نعيمة !! ..
– سلومي حبيّب.. أكل خوية ..
– لا ما أريد ..
– عيوني ، اليوم أكو بيض باجر ما كو ..
– ليش ماكو ؟
تبتسم ، وهي تمشط شعره ، ولكنها لا تجيب على سؤاله ..
تودعه حتى باب الدار .. تضع الصمونة والبيضة في جنطته ..
في الليل سأل نعيمة ، وهو يرقد إلى جانبها ، يتدفأ بجسمها الفتي الحار ..
– ليش ماكو بيض باجر ؟
ربتت على شعر رأسه .. طبعت قبلة دافئة على جبينه ، ثم همست في أذنيه :
– أذا ظل صدام ، وظلت الحرب ، مو بس بيض ما يظل ، أوادم هم ما تظل.
عندما إستيقظ صباحاً ، لم يجد نعيمة إلى جواره .. لم تقدم له الفطور.. لم تودعه حتى باب الدار ..
سأل أمه عنها ، لكنها لم تجب ..
بعد أيام عرف أن نعيمة تركت الدار ، وأنها سوف لن تعود ..لم تبك أمه على فقدان نعيمة أمامه ، لكنها أمام الجيران كانت تولول ، وتلطم صدرها …
بعد أيام قليلة إنقطع الناس عن زيارة أمه .. أصبحت أمه هي التي تزور الآخرين ، بيت أحمد السالم ، وسعدون ، وشاكر البزاز ، وحسن أبو اللبن و… كانت تواسيهم بمن فقدوا ، ففي نفس اليوم وصل المحلة أحد عشر تابوتاً…
*****
( لي خال واحد .. لا أعرف عنه شيئاً .. كنت صغيراً عندما شاهدته لآخر مرة)
خاله .. لقد كان يأتيه بالحلوى .. يأخذه معه إلى المقهى .. يمسّد شعره بحنو ويقرصه دوما من أذنه ..
ما زال لحد الآن يتذكر ، كيف صرخ إبوه بوجه أمه ( أخوج هذا راح يهدم
بيتنه .. قوليله حميّد هيجي .. ما يعرف بس المخبز .. قوليله ماكو منه فايده.. الفهم والمفهومية أتركه إله .. آنه رجال على باب الله) ..
عندما إلتقى بخاله ، وجلس في حضنه سأله : خالي ليش إنته تريد تهدم بيتنا؟
إصفر لون خاله .. رفّت شفتاه .. أسبل يديه اللتين كانت تطوقانه .. ثم عاد ليمسّد شعره بحنو .. أراد أن يقول شيئاً لكنه سكت .. لم يقرص أذنه هذه المرة ، بل
عضها وقبله في نحره .. وخرج ، دون يأخذ معه شيئاً ، ولا جنطته الصغيرة ..
في المساء ، كانت أمه تبكي وتلوم والده :
– (وين راح يروح أخوي .. منو إله غيري .. الدنيه ضات بيه .. وبيتي ما وسعه ..ليش هيجي حميد ؟ .. ليش ؟ .. إخوي إذا يلزموه يكتلوه .. دمه بربتك )
وكان أبي يحاول تهدئتها .. : ( لا تخافين .. هسه يجي .. وين يروح ؟)
ظل أبي طول الليل ينطر الباب ، لكن خالي لم يأت ..
في الصباح لم يتناول أبي الفطور .. كان يضرب يداً بيد ..ويذرع الحوش : ( آخ خويه .. آخ ياخال أولادي الشهم .. تعال خويه ..وهي قسمه ، لونعيش سوه لو نموت سوه .. )
كان كل من في البيت حزيناً ، أما أنا فلم أكن أفهم شيئاً …
عندما سيق أبي للعسكرية ، قال لأمي وهو يودعها : ( أم سلوّمي .. آنه رايح ويمكن ما أرجع ، إذا شفتي خال الولد ، قوليله أحميّد جان غلطان ، هواية غلطان )
******
ماذا أكتب عن خالي ؟ .. وماذا أعرف عنه ؟
يقول أبو عروبه : ( خالك خاين ، وأبوك شهيد ، بس ثلثين الولد من خاله..لازم عليك تدخل الجيش الشعبي ، وتدافع عن الثورة ، حتى تكون إبن أبوك وإبن الثورة )
تقول أمي : ( الناس تموت ، وهذا أبو كرش كل يوم يكبر كرشه )
اليوم إستدعاني: ( شوف ولك، أطيك مهله يومين ،لا تنسه تملي هاي الأستماره ) .. وقبل أن أستلم الأستماره زعق بوجهي : ( يلله روح ون كدامي ! )
قلّب سلوّمي الأوراق ،سحب المنضدة بمحاذاة صدره :
– ( إبن الديوث ، هاي إستماره لو جريده !! )
*****
– يمه ، شنو الأقارب من الدرجة الثالثة ؟
لم تجبه ..
نهض من جديد ، فتح باب المطبخ
– يمه بروح الغالي ، من همه أقاربي من الدرجة الثالثة ؟
– ليش همه الأقارب درجات ؟
– هجي يقولون ..
فكرّت حمدية .. إذا كان الأقارب درجات ، منو همّه أقاربنا من الدرجة الثالثة ؟
أخوتي ؟! .. يمه ، سور سليمان ، ذوله الروح والريه .. عمامي ؟! .. غدي ! .. كل واحد منهم أبوي .. خوالي ؟! .. أُفيش ياريحة أمي ..
– ماكو عدنه أقارب من الدرجة الثالثة ..
– يمه شلون يصير ؟
– أكلك ما كو عدنه أقارب من الدرجة الثالثة .. لا أبوك متزوج على أمك.. ماعندك مرة أبو ، ولا أبو أمك ، ولا أبو أبوك متزوج نسوان أثنين ..
كل المصابيح مُطفأة ، ماخلا مصباح الكليدور ..
سلّومي يغط بنومه العميق، ووريقاته متناثرة على المنضدة ..لم يستطع إكمالها بعد .. ثمة أسئلة لا يعرف كيف يجيب عليها .. وحمدية تستند على حافة السرير ، مُتكومة عند رأسه تماماً .. رأسها كما بندول الساعة .. لآيضئ ظلام الغرفة سوى بصيص يتسلل بأستحياء من فتحة باب الغرفة نصف الموارب .. عندما يتجه وجه حمدية صوب الباب نصف الموارب ، تضئ حدقتان في العتمة ، فيهما من الذعر والحيرة ما في عينيّ ديك وضع السكين على عنقه .. تتندا العينان ، لكنما الدمع لا ينفلت ..
تقبض الكفان المعروقتان على حافة السرير ،تتشبثان به ..
يطن رأس حمدية .. تحس بشئ يتصاعد مزدحما عبر صدرها ..تفتح فمها .. تلوي شفتيها ،ثم تحشرج :
( إخوي ، ياآبن أمي وابوي ، لحولي على سلوّمي … )
****
صوفيا – نيسان 1986
* نشرت في مجلة الغد – لندن-العدد 22/32 شباط /1992
*عن موقع مقالات الكاتب الراحل صباح الشاهر