المعجم الشعري:
المعجم الشعري هو القاموس اللغوي للشاعر و الذي تکوّن من خلال ثقافته و بيئته و مناخه الذي عايشه، و عليه فليس المعجم الشعري متکرّرا عند الشعراء بالصيغة نفسها، و لکنه أداة الشاعر الخاصة، و التي تعد معيارا تمييز شاعرعن شاعر ما و يعد المعجم الشعري من أهم الخواص الأسلوبية التي علی أساسها يمکن الحکم علی الشاعر، و تبيان ملامحه الخاصة. (بروين حبيب: تقنيات التعبير في شعر نزاز قباني، ص52)
و النصوص الأبية تعتمد علی قواعد لغوية، و هذه القواعد هي التي تحدّد المواضيع في الأعمال الأدبية «فالموضوع هو مجموعة للمفردات التي تنتمي الی عائلة لغوية واحدة». (عبدالکريم حسن: الموضوعية البنيوية / دراسة في شعر السياب، صص 32-33)
و المقصود بالعائلة اللغوية هو الحقل الدلالي و هو بالطبع يختلف عن المعجم، فالمعجم بمفهومه اللغوي يعني تردد لغوي لمفردة بعينها (موت – موت) مثلاً. أما الحقل الدلالي : ورود کل الکلمات التي تدل علی معنی محدد لمفردة الموت مثلا کـ «القبر، الکفن، التابوت، النعش، الوحشة، القفر، الصمت، النهاية…»
و في ما يلي نرکّز علی أهمّ المفردات / الموتيفات التي تکرّرت في ديوان “أقول الحرف و أعني أصابعي” للشاعر المبدع اديب کمال الدين و التي شکّلت معجمه الشعري:
الموت:
في شعراديب کمال الدين ثمة توغل في ملكوت الموت وهذا يعني اشتغال الشاعر بكثافة على آليات هذه المفردة إذ كرّرها کثيرا ناهيك عن المفردات والعبارات التي تتصل بها من حيث المعنى وتختلف معها من حيث الشكل…
فضلا عن مفردة الموت هناک الفاظ تبرز قضیة الموت و قد تکرّرت فی المعجم الشعری للشاعر..کالقبر و الکفن و النعش و التابوت و …و هی الفاظ تحمل الموت فی تفاصیله الواقعیة، من غیر أن تفلسفه أو تأخذ منه موقفا فکریا أو عقائدیا..
الدم و الدموع و المطر و البحر هی الکلمات التی یلتقی فی مضمونها الموت و الحیاة، عالم الولادة الجدیدة. و یتراءی من خلالها البعث، و تتراءی القیامة و الانتصار علی الموت.
طالما نجد مفردة “البحر” تلتقي بمفهوم الموت و دلالاته في هذه المجموعة، کالمثال التالي من قصيدة ” زوربا”:
فکيف السبيل الی ترويضه؟
هل يمکن لرقصةٍ ساحرة
أن تروّضَ البحر؟
أو أن تروّضَ الموت؟(ص 21)
و في المقطع التالي من قصيدة “إنّي انا الحلاج” يقول الشاعر:
ثم يمضي من النهرِ إلى الصحراء
ومن الصحراء إلى البحر
ومن البحرِ إلى الموت،
أعني إلى النار(ص 19)
فلا تکاد تخلو قصيدة من قصائد هذا الديوان من لفظة “الموت” أو مشتقاتها کـ(متّ، الموتی، ستموت،تموتين، يموت، سأموت ….)، فالموت يُعتبر من أبرز الموتيفات في شعر اديب کمال الدين فقد فاجأه حين رآه صبييّاً قبل اربعين عاما:
فاجأني موتي قبل أربعين عاماًّ
فاجأني حين راني صبيّاً
أحاول أن ألقي جسدي في النهر
من فوق الجسر. (ص 98)
المرآة:
تکرّرت هذه المفردة في الديوان بکثرة ففي صفحة 69 مثلاً تکرّرت أربع مرّات.. و في أکثر من مرّة نجدها مقرونة بمفردة المرأة:
الباذخ بمرآتک الکبيرة
أيّتها المرأة المرآة. (ص69)
و لو أن “المرآة” تشبه “المرأة” بل کأنّها المرأة نفسها الّآ ان الشاعر يری بينهما فرق واحد:
ومع أنّكِ، أيّتها المرآة،
تشبيهن المرأةَ إلى حدٍّ كبير،
بل كأنّكِ المرأة نفسها،
لكنّكِ
(وهذا هو الفرق الوحيد)
صادقة حدّ اللعنة
وهي (كما أظنّ) كاذبة حدّ اللعنة. (ص 57)
الفرات:
الفرات من المفردات المکرّرة في هذه المجموعة و تحمل بعدا رمزيا في النص، إذ ان هذا النهر بالنسبة للعراق مصدر من مصادر الحياة يضخ الروح فيه، لکنه في ظل الظروف السائدة في البلد أصبح ميّتاً :
کيف متّ،
يا فرات الروح
و سينما الطفولة
و مقهی الحلم ( ص59)
يقارن الشاعر بينه و بين مصادر الحياة و انهار استراليا البلد الذي يقيم فيه، فيقول في قصيدة “لم يعد مطلع الأغنية مُبهجاً” :
النهر هنا يتجدد قطرة قطرة
ليس کالفرات الذي يدفع ماؤه الضفاف دفعاً. (ص 74)
فيبقی الشاعر يحنّ الی هذا النهر و هو مقيم في الغربة ففي نفس القصيدة يقول الشاعر:
من يعيد اليّ سمک الفرات؟
و من اليّ مرکبا خشبيا وسط الفرات؟
يحن الشاعر الی سمک الفرات و الی مرکبه الخشبي وسط هذا النهر.. السمک و المرکب الخشبي اللذان يحنّ لهما الشاعر يرمزان الی المسرّة التي يبعثها هذا النهر..
السفر:
طوی الشاعر خيمته في بلده العراق مرغماً و راح يبحث عن ملجأ أمن يحقق فيه أمنياته الضائعة منذ الطفولة فتوجّه الی أقصی المعمورة / استراليا بلاد الکنغر:
يکتب لي شاعر من بغداد و يضيف:
“ألم تجد فی الکنغر تسليةً ما؟”
قلتُ له:
لم أجد الکنغر في بلاد الکنغر (صص73و74)
فالشاعر لا يجد ما کان يطمح له في هذه البلاد التي يعتبرها جحيماً له:
و قرب محطة القطار النازل الی الجحيم (ص 65)
في هذه المجموعة خصّص الشاعر ثلاث قصائد للسفر يشتکي فيها من معاناة السفر و ما تعرّض له في رحلته الشاقّة: قصيدة “في المطار الأخير” و قصيدة “حوار” و قصيدة ” لِمَ انت”.
أضناه السفر و متاعبه فقد جرّب أديب جميع انواع السفر، في الأرض و البحر و الجو:
تعبتُ من المحطّات والمحيطات و الطائرات (ص 73)
تارة يسافر في الأرض بالقطار (المحطّات) و تارة يسافر عبر البحر و المحيط (المحيطات) و تارة يکون سفره عبر الجو في الطائرة(الطائرات). و کان الوقت وقت شتاء:
حسناً نحن الآن في المطار
(أهو المطار الأخير؟)
السماء ملبّدة بالغيوم
و الشتاء هو الوقت. (77)
عبارة “السماء ملبّدة بالغيوم” تدلّ علی اهوال السفر کما أن الشتاء يرمز الی الجدب و المحن و الصعوبة، فرحلته رحلة صعبة و مليئة بالمحاذير:
هذه رحلة مليئة بالمحاذير
و ستستمر دونما توقّف. (ص 81)
فالشاعر يتشاؤم بهذه الرحلة من اللحظة الأولی فتراه يصف حقيبة السفر بالسواد و هذا اللون کما هو معروف يدلّ علی القلق و الاضطراب و التشاؤم:
يا شاعر الحروف المريرة
رأيتک البارحة
تحملُ حقيبتک السوداء من جديد
حزيناً کقارب مُحطّم علی ساحل مهجور. (91)
يفاجئنا الشاعر من الشطر الأول بنتعته الحروف بالمرورة ثمّ السفر في الليل (البارحة)، و الحقيبة السوداء ، ثم حالته الحزينة و القارب المحطّم و الساحل المهجور. فلا شک انّها رحلة مضنية و متعبة للشاعر.
اما الحقل الدلالي للسفر في هذه المجموعة: «الفندق، القطار، المطار، البحر، جواز السفر،الطائرة، الرحلة، الحقيبة …» و هذه مفردات تدلّ علی السفر و تتردّد بکثرة في شعر اديب کما شاهدنا بعضها في الأمثلة السابقة.
الغربة:
الغربة تعني البُعد عن الوطن في كل الحالات، فقد جاء في المعجم الغني” غُرْبَةٌ – (غ ر ب). (مص. غَرُبَ). 1.”عَاشَ زَمَناً طَوِيلاً فِي الغُرْبَةِ” : فِي بِلاَدِ النُّزُوحِ وَالْهِجْرَةِ. 2.”وَجَدْتُهُ فِي غُرْبَةٍ” : فِي وَحْشَةٍ. 3.”طَالَتْ غُرْبَتُهُ” : طَالَ بُعْدُهُ عَنْ وَطَنِهِ وَأَهْلِه” .ِ.
وتتنوع الدوال التي ترمز إلى تصوّر مأساة التشرد في المَـهجر في شعر اديب کمال الدين ، وأولى هذه الدوال هي تكرار مفردات کـ« الموت، السفر، الحزن، الحنين، البحر، الصحراء، الدموع، النار…» و اشتقاقاتها وما يتصل بها من حقل دلالي.
أحيانا الغربة في شعر اديب تقابل الموت و تقابل النار، فنراه يقول في المقطع التالي من قصيدة ” إنّي انا الحلّاج ” :
ثم يمضي من النهر الی الصحراء
و من الصحراء الی البحر
و من البحر الی الموت،
أعني الی النار
و هو يحمل جثّته فوق ظهره. (ص19)
في هذا المقطع البحر يرمز الی السفر و الإغتراب، فالشاعر ينتقل منه الی الموت، و يعني بهذا الموت المحن / النار التي يواجهها الشاعر في غربته. فتبقی تتجدد غربة الشاعر في کل حين:
أيّهذا الغريّ الذي يجددُ غربته
بدمعتين اثنتين
في کل فجرِ
و في کل ليلة. ( ص 17)
و في قصيدة “لم يعدْ مطلعُ الأغنيةِ مُبهِجاً” يصف لنا الشاعر هذه الغربة التي يعاني منها:
غربتي هي غربةُ العارفين
إذ كُذِّبوا أو عُذِّبوا.
غربتي هي غربةُ الرأس
يُحْملُ فوق الرماح
من كربلاء إلى كربلاء.
غربتي هي غربةُ الجسرِ الخشبي
إذ يجرفه النهرُ بعيداً بعيداً.
غربتي هي غربةُ اليد
وهي ترتجفُ من الجوعِ أو الارتباك,
وغربةُ السمكِ إذ تصطاده
سنّارةُ الباحثين عن التسلية,
وغربةُ النقطة
وهي تبحثُ عن حرفها الضائع,
وغربةُ الحرف
وهو يسقطُ من فم السكّير
أو فم الطاغية. (ص 75)
يحاول الشاعر اختراع الکلمات ليصف غربته، فهي لا تنحصر في اقامته في الديار النائية، فهذه الديار بالرغم من قسوتها و شدّتها، فيها شيء من الرفاهية و الطيبة، لکن غربته بدأت تتسع في الفرات / العراق.
التناص القرآني:
إن ظهور التناص القرآني في شعراديب کمال الدين يدلّ علی ثقافة شمولية عامة، وظفّها الشاعر و استلهمها في تطلعاته و مقاصده و افکاره الشعرية. کان للقرآن نصيب وافر في شعره فالقرآن معين لا ينضب، قد ألهم الشعراء والکتّاب و المتطلعين الی الحرية و الخلاص عبر العصور.
لقد استوحی اديب الکثير من المعاني و الايحاءات و الافکار من القرآن الکريم.. ففي المقطع التالي مثلا من قصيدة “العودة من البئر” يقول الشاعر:
أعرفُ أنكَ كنتَ شيخاً جليلاً
وأنهم – واخجلتاه- استغلّوا
ضعفكَ البشريّ
وبياضَ لحيتِك
ودقّةَ عظمِك.
أعرفُ هذا
وأعرفُ أنهم تركوني إلى الموت
قابَ قوسين أو أدنى (ص 13)
فنری الشاعر يتناص مع الآية التالية: « قال ربي إني وهن العظم مني و اشتعل الرأس شيبا» مريم / 4. کما انه في الشطر الأخير” قاب قوسين أو أدنی” ايضا يتناص مع الآية التاسعة من سورة النجم.
کما وظّف اديب کمال الدين القصص القرآنية و شخصياتها في هذا الديوان بصورة تلميحية لإثراء شعره و نقل مضمونه للمتلقي مشحوناً بروح معنوية. استحضر الشاعر عددا من الأنبياء الذين قصّ القرآن قصصهم فإختار من تلک القصص أقساما تساهم في إثراء نصه الشعري کقصة النبي يوسف (ع) و قصة النبي آدم (ع) و النبي نوح (ع) … و للشاعر طاقة إبداعية في توظيف القصة القرآنية بحيث تتناسب مع الحاجة العصرية.
كثيرة هي القصائد التي تناصّ بها الشاعر مع القصص القرآنية و شخصياتها ولكننا سنكتفي بالإشارة إلى قصيدة “العودة من البئر” حيث يصبح الشاعر نفسه معادلاً موضوعياً للنبيّ يوسف المعروفة قصته للجميع تقريباً.
تتضمّن قصيدة (العودة من البئر) عتاب (يوسف) الصدّيق (ع) لأبيه فقد إتخذه الشاعر قناعاً للتعبير عن مأساة (كائن ـ كون) في مواجهة كذب الكذابين وحقدهم وأراجيفهم.
لماذا تركتهم يلقونني في البئر؟
لماذا تركتهم يمزّقون قميصي؟
لماذا تركتهم يكذبون،
وأنتَ تعرفُ أنّهم يكذبون؟ ( ص13)
تتحدّث هذه القصة عن غدر الأخوة به، وعن معاناته الطويلة في البئر، وعن أبيه الذي ابيّضت عيناه من الحزن وأودعه دمعتهُ الطاهرة.
إذنْ، لماذا تركتَهم هكذا
يرقصون طرباً من لذّةِ الحقدِ والانتقام؟
لماذا كنتَ ضعيفاً إلى درجةِ الوهم؟
لماذا كنتَ طيّباً
كطيبةِ دمعتِكَ الطاهرة؟
ولماذا أورثتني دمعتَكَ الطاهرة
يا أبي؟( ص 16)
وتدور الصور الشعرية في هذه القصيدة دورة كاملة لتعود بنا مجدداً إلى عذاب المنفى، وظلم الأقربين. ما يتراءى لنا من خلالها، قصة سيدنا يوسف، بكل حمولتها الدرامية، وفجيعة ما حدث لطفل خذله أبوه، فتركه لأخوته القساة، بالرغم من عدم تصريح الشاعر باسم من تدورعليه الدوائر في هذه الحكاية.. و قد عمدَ الشاعر الی توظيف هذه القصة القرآنية بدلالاتها الخصبة في أکثر من قصيدة منها قصيدة “أمطار موسميّة”، يقول فيها:
و الخوف
و المجهول
و الظلام
و اخوة يوسف
و يعقوب الذي مات بين يديّ
کمداً علی يوسف الذي لم يعد. (صص 109و110)
و قد استدعی الشعراء الشخصات القرآنية بما فيها شخصية الانبياء، لأن الشاعر أحسّ بأن ثمة روابط وثيقة تربط بين تجربتهم و تجربة الأنبياء، فکل نبي و کل شاعر اصيل يحمل رسالة و الفرق بينهما ان رسالة النبي سماوية، و کل منهما يتحمل التعب و العذاب في سبيل رسالته.
ففي قصيدة “الرقصة” يتقمّص الشاعر كينونة الحرف الممسوس الذي شذّ عن سرب الحروف فـ “أمسك الشمسَ بيده، والقمرَ بشماله”:
أم أنا مجرد حرف ضال،
حرف خارج عن القطيع،
حرف ممسوس
أمسكَ الشمسَ بيده
والقمرَ بشماله ( ص12).
وهذه الإحالة تذكرِّنا بموقف عظيم من مواقف الرسول الاکرم “ص” التي يعرفها القاريء الكريم جيداً. و ايضاً مفهوم “النبوّة الشعرية” التي أفصح عنها شاعرنا المُرهَف في نص جريء حمل عنوان “في شارع الحشّاشين”. ولو تأملنا هذا النص الشعري الكبير لوجدناه يتوفر على مجمل ملامح النبوّة الشعرية. لقد إختار الشاعر شرفة غرفته لكي يطلّ من خلالها على جمهوره الغريب الذي يتألف من السكارى والحشّاشين والنساء العاريات لكي يحدّثهم عن الله والمحبّة والسلام. المُلاحظ أن الجمهور يفتقر إلى الناس الأسوياء أو العاديين، لذلك يمكننا أن نتوقع من هؤلاء الحشّاشين مفاجآتٍ كثيرةً، خصوصاً وأن الشاعر يخبرنا بين ثنايا نصّه أنه بلَغَ السبعين عاما، ولابد لهذا الجمهور، حتى وإن كان مخموراً، أن يتململ ويتذمّر على هذا النبي الكذّاب الذي لم يأتِهم بمعجزة واحدة على مرّ سنوات نبوّته الطويلة.
” صرخَ أحدهم،
وكانَ في قمّةِ السُكرِ والهيجان:
أيّهذا النبيّ الدعيّ
مللنا من إلهك
وكلامكَ المعسول عنه.
اخرجْ لنا معجزةً
أيّهذا النبيّ الكذّاب!
فارتبكتُ
وارتجفتُ
وجفَّ حلقي
وغامتْ عيناي
ولم أعدْ أبصرُ شيئاً. (صص 79 و80)
الغريب أن الحالات التي كان يعانى منها الشاعر النبيّ هي “الارتباكُ، والارتجاف، وجفاف الحلق، وإغيّام العينين وانعدام البصَر” وهي نفس الحالات التي كان تنتاب النبيّ محمد “ص” في أثناء نزول الوحي. ويبدو أن الشاعر الذي ينغمس في الحالة الإبداعية تنتابه نفس الحالات التي تنتاب النبيّ المُوحى إليه، وإلاّ فما هو السرّ في تشابه الحالات التي أوردناه سلفا؟ (عدنان حسين احمد، أقول الحرف وأعني أصابعي…مَنْجمٌ للموضوعات الشعرية)
شخصية الامام الحسين(ع):
“تعدّ شخصية الإمام حسين (ع) في الأدب المعاصر من أبرز أبطال الثورة والدعوات النبيّلة، والذي لم يقدر لثورته أو لدعواته أن تصل إلى غايتها، فكان مصيره إلهزيمة،
ولم يكن سبب هذه إلهزيمة نقصاً أو قصوراً في دعوته أو مبادئه، وإنّما كان سببها أنّ دعواته كانت أكثر مثالية ونبلاً من أن تتلاءم مع واقع ابتدأ الفساد اليسرى في أوصاله”.(عشري زايد، علي؛ إستدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، ص121)
يبدو الشاعر اديب کمال الدين کان منشغلاً تماماً بالحرف والشروع في كتابة قصيدة هي المشروع الشعري المهم لديه بعد أن قام بأنسنة الحرف وجعله صنواً له ، ليخفف من خشيته في كتابة القصيدة فوق الماء ، غير أنه صرّح لأول مرة برؤية منحازة لقضية الحسين (ع)، لأنه هو- أي الحسين- سرّ من أسرار الحرف (وجدان عبدالعزيز: قراءة في مجموعة أديب كمال الدين: “أقول الحرف وأعني أصابعي”) كما يقول الشاعر نفسه:
(ورأسكَ ينهبُ التاريخَ نهباً
بدمه الطيّب الزكي
ليكتب سرّاً لا يدانيه سرّ،
ليصبح اسم الشهيد له وحده
سرّاً لا يدانيه سرّ:
سرّ الحاء والسين والياء والنون)
إذن حروف اسم الحسين من الحروف المقدسة عند الشاعر التي تشعل الحب الحقيقي في النفوس المطمئنة للحق الإلهي والتي أصبحت لائحة يُحتذى بها في التضحية والفداء من أجل كرامة الإنسان وحفظ كلمة الحق:
لبّيك
يا حاء الحق.
لبيكَ يا سين السرّ
وياء السرّ ونون المحبّة.
ألقى الشاعر في هذه القصيدة على عاتق الإمام (الحسين) هموم طفولة أيقظها وجع الظلم والشعور بالأسى في مواجهة ما يمكن أن نسمّيه بـ (فتنة الدنانير) التي تُشترى بها الذمم في الأزمنة الرديئة، فها هو في قصيدة (يا صاحب الوعد) يُعيد على متلقيه قصة الغدر التي أعانت الظالمين على المكر والانتقام من دعاة الحق:
يا صاحب الوعد
حملوا رأسكَ فوق الرماح
وطافوا به كوفة الوعد. أيّ وعد؟
كنتُ أبصرُ شهوةَ الدينار
تلمعُ في عيونهم الكليلة
وأبصرُ شهوةَ الغدر
في سيوفهم المُغبرّة.
يا صاحب الوعد
كنتُ أركضُ خلفهم
– أنا الشاهدُ الأخرس-
وأكادُ أختنقُ من ترابِ الخيول.
لقد انتصروا!
الله أكبر!
وكانت الدنانيرُ تُلقى على الناس
في كوفة الوعد. أيّ وعد؟
وشعراءُ الكديةِ يهللون
لدمكَ المسفوح
ويمتدحون رمحاً حملَ وعدك
وسيفاً حزّ عنقَ مُحبّ الإله.(صص 36 و 37)
و في قصيدة “الحاء و الألف” يستدعي الشاعر شخصية الامام الحسين (ع)، فحرف الحاء يعني الحق / الحسين وحرف الالف يعني الشاعر / اديب:
قالت حروف الحقّ
و هيتناقش في الألف الشاب:
هل سيُکتب له أن يعيش؟( ص67)
و يتطرق في هذه القصيدة الی الکثير من القضاياء التي ترتبط بالامام الحسين:
وحدهُ الحاء
قال: اتركوه فهو شمسي.
هو مَن سيذكرني كلّما هلَّ اسمي.
وسيكتبُ عن رأسي وقد تناهبه الغبار
وحُمِلَ فوق الرماح
من بلدٍ الى بلد
ومن عطشٍ إلى عطش
ومن واقعةٍ إلى واقعة.
بل إنّ رأسي سيكون قصته
ودمي لوعته
وأنيني نبض قلبه.(صص 67 و 68)
يذکر الشاعر قضية حمل رأس الامام الحسين (ع) فوق الرماح من بلد الی بلد آخر، و قضية العطش في اليوم العاشر فکل هذا يجسّم لنا مدی الظلم الذي تعرّض له الامام الحسين و الذي سوف يتعرّض له الشاعر «بل إنّ رأسي سيکون قصته …».
ثم في ختام هذه القصيدة يستحضر الشاعر قول النبي محمد (ص) في الحسين: ” حسين مني و انا من حسين” قائلاً:
قال: اترکوه فأنا منه و هو مني. (ص 68)
و في قصيدة ” لم يعد مطلع الأغنية مُبهجا” يستحضر الشاعر قضية الامام الحسين و يضفي عليها دلالات جديدة وفقا لرؤيته تجاة الظلم الذي تعرّض له نفسه:
غربتي هي غربة الرأس
يُحمل فوق الرماح
من کربلاء الی کربلاء.(ص 76)
وقضية رفع رأس الامام الحسين (ع) علی الرماح في هذا الديوان يُعتبر موتيفاً اساسياً يستخدمه الشاعر في الکثير من قصائده، کما جاء في قصيدة ” لِمَ انت؟” :
منذ أن رُفِعَ رأس الحسين علی الرماح (ص 92)
فالکثافة التکراریة، فی استدعاء شخصية الامام الحسين (ع)، لها أثر فی نفس المتلقی، و التکرار هنا تکرار معنی، و لیس تکرار لفظ، إذ انه اکتسب مواقعه عند الناس من خلال ما قام به من بطولات، کان لها بالغ الأثر فی النفوس، و الشاعر هنا استطاع ان یوظّف هذه الشخصیة من خلال هذه الکثافة التکراریة للمعنی خدمة لنصه بما ینسجم مع تطلعات المتلقی.. فالإمام الحسين (ع) رمزٌ للحرية والشهادة والخصب والإنبعاث، وهو بمثابة ملاذ آمن للشاعر، يحاوره الشاعر ويخاطبه، راجياً أن يجد بريق الخلاص والطمأنينة. والشاعر يشعر بأنّه عاجز عن التفكير بالحقيقة وهو يطوف حول هذا المخلّص «الامام الحسين (ع)» بحزن شديد، يلتمس منه الحياة والأمل إلى قلبه الميت والمكتئب فهو الأمل الوحيد لبعث الحياة الجديدة والحرية إلى العالم. وشجاعته وكفاحه هما الدواء اللذان سيضمدان جروح المظلومين والأبرياء. كذلك الامام الحسين رمز الإنتصار للقدرة الحقيقية والخالدة لدم الشهداء والمناضلين.
مصادر البحث:
1- ديوان ” أقول الحرف و أعني أصابعي”، اديب کمال الدين، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت – لبنان 2011 م.
2- بروين حبيب: تقنيات التعبير في شعر نزاز قباني، ط1، بيروت، المؤسسة العربية للنشر و النشر.
3- عبدالکريم حسن: الموضوعية البنيوية / دراسة في شعر السياب، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، ط1، 1983.
4- عشري زايد، علي؛ إستدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، مصر، دار الفکر العربي، 1997.
5- عدنان حسين احمد، أقول الحرف وأعني أصابعي…مَنْجمٌ للموضوعات الشعرية، الرابط التالي:
http://www.adeebk.com/plaz/181.htm
6- وجدان عبدالعزيز: قراءة في مجموعة أديب كمال الدين: “أقول الحرف وأعني أصابعي”، علی الرابط التالي: http://www.adeebk.com/plaz/179.htm