حمدي العطار: الروائي قصي الشيخ عسكر في رواية “زيزفون البحر” ينقل القارئ من العراق الى السويد (ملف/3)

إشارة:
للشاعر والقاص والروائي والباحث المبدع الكبير د. قصي الشيخ عسكر بصمة مميزة في أغلب المجاات الإبداعية التي يرودها. وفي كل حقل يأتي بالأطروحات والرؤى الجديدة لاسيما في مجالات الفن الروائي والبحث اللغوي والأسطوري وغيرها، وله العديد من النتاجات التي تشهد على ذلك. كما تم تدريس نتاجاته الروائية في بعض الجامعات الأجنبية وأُعدّت رسائل جامعية عن نتاجه الروائي والشعري في عدة جامعات. ولأجل تسليط اضواء أوسع على أدبه وتوثيفه ندعو الكتّاب والقرّاء إلى إغناء ملف الموقع عنه بالمقالات والدراسات والصور والوثائق.

القراءة السريعة لروايات قصي الشيخ عسكر لا تعني بإنها لا تحتاج التركيز والتأمل، بل لأن جمال الاسلوب والمعالجات الفنية تجعل القارئ يعيش تجربة الروائي وابطال رواياته ويكون حريصا لمعرفة مصير تلك الشخصيات التي لا يحس القارئ في نهاية الرواية بإنه قد احس بالاشباع منها وما جاء فيها من مفارقات ثقافية وفنية، واغلب رواياته ليست طويلة!
نحن حصلنا من دمشق على روايتين لهذا الروائي والجمع بينهما في قراءة نقدية واحدة له ما يبرره فالروايتين اصدرهما سنة 2019 ومن دار امل للنشر والتوزيع – دمشق ، الاولى (زيزفون البحر) – رواية مهجرية تتناول ثقافة الاخر (المجتمع السويدي) والتي ستكون محل النقاش في هذه الوقفة والثانية رواية (ربيع التنومة) التي تتناول اشكالية الشخصية العراقية في عهد الحروب وانعكاساتها الرهيبة ستكون لنا معها قراءة نقدية لاحقا.
*رواية سريالية
رواية زيزفون البحر ،هي من الروايات (الساحرة) فهي لوحة سريالية اذا كنت تفكر بشيء آخر انصحك بعدم قراءتها، خاصة وان الروائي لا يحب التبويب واستخدام العناوين وارقام للفصول، انت تحس بإنه يجلس يكتب بالرواية الى ان تنهتي في اخر سطر منها في الصفحة الاخيرة 102 وهو يعطي لك وعدا بإنك سوف ترافقه في رواية جديدة “في هذه اللحظة تذكرت قبل أن أغلق عيني تماما وأتوارى بعض الوقت في رحلتي الجديدة أن علي أن أجد اسما يخصني وحدي اسما جديدا لا يشاركني فيه أحد بعد أن سميت جميع الأشياء بأسمائها من قبل”ص102
*الغرائبية
استخدم الروائي اسلوب غرائبي ليتحدث عن المجتمع السويدي من وجهة نظر عراقية، وينقلنا بسلاسة لغته الراقية بين الاماكن والمدن ( منسك عاصمة روسيا البيضاء) حيث معسكر الحجر على المهاجرين بصورة غير شرعية، وهنا تبدأ الهلوسة الجميلة بإفق مفتوح لتربط ما هو ذاتي بمعاناة شعب يبحث عن الحياة الامنة في الدول الاسكندانفية البعيدة، لكن الرحلة لا تخلو من المخاطر وحتى الموت لكنها تبدو تستحق كل هذا العناء، فماذا يبقى للانسان وهو في أتون حرب عبثية يخسر فيها كل شيء”والدتي قالت إن خطيبتي التي نسيت اسمها وسميتها بعد انقلابي على رأسي في السفينة الزورق وتغيير جميع الأسماء “حبار البحر” خطيبتي تلك فسخت الخطبة، اقترنت بتاجر عراقي يعمل في الأمارات وجدت من العبث انتظاري،، ووالدتي تقول: من باعك بعه يمه البنات كثيرا يا ولدي، أصبحن كثر الازبال بفضل الحرب”ص11 ومن الماضي البعيد الى الماضي القريب ينقلك من دون فواصل، تشعر بالتعب وانت تلاحق بطل الرواية”هؤلاء الشقر الذين ظلوا قابعين دهورا في ممالكهم الاسكندنافية اختلطت عليهم المفاهيم حتى جئنا نحن الشرقيين فدخلت قاموسهم مصطلحات جديدة.. الشرف.. غسل العار.. السنة.. الشيعة.. الفلافل.. شارورما”ص13 .
حياة اخرى
يحاول الروائي ان تكون روايته لا تمثل فقط جدل على ازمة الهوية بقدر ما هي صعوبة التكيف لأنسان شرقي – عربي – عراقي- مسلم، هو ليس سائحا ليتمتع بالاثار والمتاحف ومباهج الحياة هو يريد ان يعيش حياة اخرى في هذا المكان الغريب، فهو يحتاج الى لغة جديدة واخلاق وثقافة محتلفة “يقولون السجون السويدية مثل الفنادق ذات الخمس نجوم..حمام.. تلفزيون اي سجين يحق له ان يتصل من هاتف المركز بعاهرة تأتي إليه فيضاجعها في غرفة خاصة” ص16 ، وبما انها حياة اخرى تحتاج الى اسماء جديدة، ووجد صاحبنا ضالته بمسميات مترابطة بالبحر فخطيبته الجديدة (زيزفون البحر) والد خطيبته الذي يملك المطعم ومحلات لتجارة المواد الغذائية (كوسج البحر) وهكذا باقي الاسماء(لاحق السراب،سيد البحر،حوت البحر ) “منذ تللك اللحظة سميتك وسميت كل من ألقاهم فيما بعد وفق أهواء البحر وحالاته ومزاجه”ص31
بين السطور
تتدفق اللغة بمضامينها المعنوية التي تكشف لنا احيانا مواقف وسلوكيات وحتى نقد جارح لحياتنا وتناقضاتها عندما نعيش في مجتمع آخر اوربي يبقى السؤال مطروحا لماذا هم هكذا ونحن ليس مثلهم؟ ويبدع الروائي في دس العبارات القوية ذات الايحاء الفلسفي بين سطور روايته “تاجر هرب من العراق إلى موسكو بعقلية سياسي تقليدي هناك اكتشف زيف الساسة والسياسيين…نبذ اليسار واليساريين من أول يوم وصل فيه موسكو اكتشف الزيف”ص22 ومفارقات عن الفرق بين الخيانة عندنا وعند الاخر السويدي “الخيانة عندهم تنتهي بالطلاق أو الاعتذار”ص33 المشكلة إن ما هو غير طبيعي عندنا طبيعي عندهم نحن نسميه جنونا وهو يدعو للعار ص47
لا تخلو الرواية من عنصر التشويق ففيها نقد للسياسة واساليب المعارضة اليسارية والاسلامية التي تعيش في السويد، وهناك مرور لمدن مثل طهران والاسكندرية والقاهرة وحتى ليبيا ، وفيها قفشات ومواقف تمثل الكوميدية السوداء، وهناك مقاطع للجنس “تخيل ما الذي يفعله أي واحد منا لو جاءت ابنته متأبطة ذراع شاب سويدي ليقضيا الليلة في غرفتها مهما كان الاب متسامحا أو صارما ذا نفوذ على الفتاة فإن مكالمة قصيرة إلى البوليس تقلب الدنيا على رأسه” وحينما يتحدث عن ابنته وهي خطيبة البطل التي صفها بالكف عندما شاعهدها تسير مع سويدي ويمسك ذراعها يقول له “خطيبتك مولودة في أسبانيا درست في بولندا ثم السويد.. تتحدث أربع لغات قد تكون أعجبت في يوم ما بشاب ما… فوضعت يدها بيده ..وربماامتدت يد لتلامس صدر احداهن أو اندفعت مراهقة ما لمداعبات خفيفة لكنهن يقفن عند حدود لا يتخطينها..عصرة نهد لا تهم وأصى حد المسح بطريقة الفرشاة الأمر لا يزيد عند هذا الحد أنت تعيش في السويد وهذه أمور طبيعية لسنا في السعودية ولا حتى في السودان هل فهمت؟ص39
الرواية ليست فيها شخصيات شريرة بل هو الاخلاف بين الثقافات وهذه لا يفهمها الا من خلال معايشة ثقافة الاخر ، في حديث مع صديق مغترب كنت استفسر منه عن قدرته في السيطرة على تصرفات ابنته المراهقة في بلد اوربي يمنح حق التصرف بجسدها؟ قال لي بالحرف الواحد( انا انصحها بحماية نفسها! قلت له ماذا تقصد بالحماية وحدود تلك الحماية؟ قال لي ببرود “هو ان لا تحبل!!”

*عن صحيفة رأي اليوم

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *