زيد الشهيد: قصص قصيرة جداً

إشارة:
للقاص المبدع ” زيد الشهيد ” بصمته في مجال القصة القصيرة عموما والقصة القصيرة خصوصا وذلك منذ بداياته المبكرة والتي أثارت الكثير من الاهتمام منذ ذلك الوقت وحتى الآن . ومن ميزاته الكبرى هو مراهنته ومثابرته على أدب البيئة التي نشأ فيها . في هذه المجموعة من القصص القصيرة جدا يكشف زيد عن فهم دقيق لاشتراطات هذا الجنس الابداعي الذي ابتذل حتى صارت القصة القصيرة جدا عبارة عن بيت من قصيدة نثر .

ترادفاتُ عابر العين

(1) ترادفُ غيظٍ

غرِقت في يمِّ البحث ولم تستكن إلا على موعدٍ باحتضان ذكرى . ولابت كما روح ولوع يبتغي حيازة رفرفة أمل . تضمّها شقّةٌ في طابقٍ بعيد ينأى عن الأرض ، وتلفّها طوايا أعوام من الثبات ؛ ثم تواليات صور تجسِّد أزقّةَ تخفِّي ، وخارطة تهجّس ، وفضاءات لنضال استحال أسطرَ على صفحاتِ كتب . وأنا اللاهث من فرط الطوابق التي خلَّفتها والسلالم التي ارتقيتها استطعتُ الوصول . كان رئيسي قد أشار عليَّ من بين عدّة صحفيين أن أجرى معها لقاء الجحود ، وأثير فيها غبار التغاضي الذي راكمه الإهمال .. سمراء رأيتها وقد امتلأت قليلأً فنأت في الشبهِ عن صورة تلك التي قارعت عنت الفرنسيين وهيمنتهم ، وابتعدت كثيراً عن تلك التي بشّرت في الانتصار فيما تنازلت تلك الأنامل عن الثبات ( ذلك الثبات الذي زرع القنابل فأرعب المحتلين ) وبدت مرتعشةً لا تقوى على السيطرة .( تذكّرتها ! .. تذكرت العراقية التي جار عليها الأشقاء في القومية ، وتنادَه لتدميرها الأخوةُ في الدين . فراحوا يمزِّقونها بالسيارات المفخخة ، والعبوات الناسفة والأحزمة الانتحارية كريهة الذكر . ولم يتركوا لها غير النواح وذكرى جحود الأهل ، وترَّحم مَن هو بعيد عنها في القربى قريب منها في الإنسانية .. ) .. قلت :
_ جميلة بوحيرد .. أين أنتِ الآن بعُرف النضال ومقارعة المحتل ؟
لم ترد ! .. كانت أتعبَ مِن أن تفجّر بوجهي خيبةَ الأمل ، وأوهى من أنْ تقول كان المستعمرُ أرحمَ على أبناء شعبي من أخوتي .. كانت تريد أن تفوه برميها في شقّةٍ نائية ؛ فلا ضيف يزور ، ولا وفاء يطرق الباب ، فقط ترى من خلال شاشةِ التلفاز القديم الأبناء يسرقون خبزَ النضال ويتقاسمونه مع عدو الأمس .
– جميلة بوحيرد .. أهكذا هي مُحصِّلة النضال ؟ أصادقٌ مَن قال : الثورةُ يخططُّ لها المفكرون ويصنعها الأبطال ، ويسرقُها الجبناء ؟ .. أحقّا أننا العرب نمتاز بالجحود فننسى رجالاتنا النماذج ونُعلي هامة المتزلفين ، مستبدلي الأقنعة ، سليطي الألسن ؟ .. أصدقاً أننا لا نعير همّاً للتاريخ ونغض الطرف عن لعنةِ الأجيال ؟
ارتعاشُ أنامل جميلة ولّد لي ذكرى جدّتي التي خسرت في عشرينات قرننا الماضي ثلاثة ًمن أبنائها / أعمامي ، ولم ترف لها خشية ولا قهقرها خوف . وظلت منتصبةً على قِمّة الجَلَد ، ومتحدّيةً جبروت الموت الذي جاء ليهزّ إيمانَها .. هاتفةً :
عمت عين التجيب اهدان / وتكمطة على رجليها
ابني المضغته البارود / فاطمته على سركيها
ثم بعد أعوام ماتت على ذكرى أبنائها الذين لم ينصِفُهم أحد ، ولم يُذكروا كمضحّين ، ولم نسمع من يقول عنها أنها أمّ الشهداء ، ذلك أنَّ الذين جاءوا فكّروا كيف يجنوا لهم فاكهةَ المراكز العليا ويحصدوا لأبنائهم سنابل الرفاه العميم .
كنت أنتظر الجواب من جميلة ..
لكنَّ جميلةَ لم تنطق !
جميلةُ كانت ممتلئةً بالغيظ ؛ بينما صورتُها المُعلقة قبالتي على الجدار ترجمت لي وجهَ فتاةٍ كانت بواكير بسمتها توحي بغدٍ مشرقٍ .. وألقٍ بهي .

26 / 5 / 2008

(2) ترادف رفض

فرشاتُه أترعت من بحرِ الألوان وانتهت تُجسّد نصَّ الغياب .. يلهث وراءها كيما تلتفت لتحتضنه ، وتضمّه كما طفلٍ جائع لحنان أمٍّ رؤوم . هو الشعرُ هذا الذي صرف العمر يتهالك عند عتبة رضائها به واستقبالها له . وأنا الصحفي الذي اندفعت بعدما كلّت أقدام سؤالي عنها أجوب الفضاءات واعبر السماوات ، فأدركها في إحدى حواري سان دييغو في ولاية كالفورنيا ، حاملةً حقيبة يدٍ ( أبصرتُ وهي تستخرج من جوفها منديلاً ورقياً لتزيل عن وجهها تراكمَ بردٍ داهمته تياراته ) تحوي ” روجاً ” و ” قارورة عطر ” و ” قلماً ” فاستنتجت أنَّ القلبَ عندها لمّا يزل يشتعل ، والشعر يتوهج ، والقلم في طور يفاعته لم يشخ كما شاخت هي ظاهرياً . وجدتها تنقل الخطوَ وئيداً وتمسح الدرب بتمهل مَن يخشى على الروح أن يتهشم لا على العمر أن ينتهي .
أدنو منها وأفوه هامساً بعربيةٍ تفوح بنكهةٍ عراقيةٍ ونغم جنوبي :
” صورته تنامُ في أهدابي
تصحو معي
تتبعني
تحوم عند بابي
أقرأُ ، أو اكتبُ ، أو ألهو مع الصحابِ ” ( * )
فتستديرُ نافرةً !
تسحبها تواليات صور أثيرة نائية ، وأيام فرَّت هاربة فراحت يستجير ببقاياها أن لا تشحب …
قالت : ” من أنت أيها الأسمر الغريب ، ومن لقَّنَكَ هذا الشعر ، وكيف أدركتني ؟ ”
قلت : لميعة ! يا بنت عباس عمارة ، جئت ابحث عنك في رمضاء الأيام وفيافي الهجر الذي لا ندري هل تسببتِ أنتِ به أم نحن الجناة عليك ؟ .. انقل إليك شوقَ محبيك ، ونداءَ لياليكِ التي تركتِها عند ضفاف دجلة . بوحُك يا لميعة تميمةٌ عشقٍ يحملها محبوّكِ في الدواخل ، وشعرُكِ تراتيلهم الطقوسية يؤدونها في معبد الوفاء لك .
انفتح وجهها ، وعاد ألق خمسينات القرن الماضي يحكي بهاء فتاةٍ عشقت الشعر ولهاً فاستهام بها ؛ ودنت من شاطئ الخلق فاختطفها إلى جنان لذاذاته المائية الغامرة . قليلاً وعادت تنوء بأعوامها السبعين . ترفع منديلاً ورقياً استخرجته من جوف حقيبتها لتمسح دموعاً شرعت تتخذ مسربين من أخاديد وجهها ، .. توقفت للحظات ، وبدت كأنها غابت عني ؛ ثم عادت لتستجير :
_ خذني إليهم ؛ أحبتي .. خذني إليها ، مدينتي !
ولم تكمل !
لم تكمل ؛ فقد استفززتها كما يبدو صورٌ تراكمت في الرأس ، فرددت متراجعة :
– لا ! .. لا ! … لقد تلوث العراق بسكاكين النحر الآدمي ، وطعنت شوارعه بهمجية السيارات المفخخة ، ووِئدت أحلامه بأيدي أهله الرعناء ..
صمتت قبل أن ترفع رأسها تتطلّع في عينيَّ الضاجتين بسعادة لقائها وتقول :
– مَن ادخل إليكم حقدَ الغرباء ، وأترعكم بدماءِ الأبرياء ؟ .. مَن أوغلَ فيكم هذا البغض الهمجي ، وانتزعَ من قلوبكم شواطي الحنين ، وسماء الروح الرحيم ؟
رفعت منديلها الورقي من جديد لتمسح عرقاً نضح على جبينها المتغضن ، ممررةً إيّاه على فمها المزموم وهي تهم بعبور الشارع إلى الرصيف الآخر ، تاركةً كلاماً كثيراً لدي يضجُّ به الصدر ، ورجاءً عميماً كنت جمعته لأنثره في فضاءِ مسمعها بالعودةِ إلى العراق ؛ مرددةً :
– لا ! لا !
لا أعودَ …
لن أعود ! ” .
فأعودُ أنا خائباً ، وفمي يردد صدى تلك الصورة التي ارتسمت في مخيلتي لتلك الفتاة التي وقفت يوماً تعلن اصالتها بقصيدةٍ عراقية :
– تُدخّنين ؟
– لا !
– أتشرَبين ؟
– لا !
– ترقصين ؟
– لا !
– ما أنتِ ..
– كلُّ خمولِ الشَّرقِ في أرداني . (**)

(*) .. (**) من نصّين للشاعرة

2 /7 / 2008

( 3 ) ترادف ضياع

ما لها غيوم بودابست تغمر فضاء مهمتي متناغمةً مع غيوم الشرق التي خلّفتها ورائي كما لو كانت تبغي إعاقة لقاء حسبته سيجري بيسر يدفع بي للعودة إلى بغداد محمّلاً بسبقٍ صحفي يرسم مدونة بوح راكمتها أعوام تربو على الثلاثين … وجُلاس مقهى ( البلاتون Balaton) الذين أبصروا سحنتي الشرقية برّروا بللي من المطر الغزير الذي واجهني وأنا أدخل العاصمة ، قائلين أن بلدانكم الصحراوية محكومة بحرمانها من الأمطار . وعندما قلت لهم أنني أبحث عن اعتقال الطائي ، عراقية في ضيافتكم منذ ثلاثة عقود ابتسموا لمحاولة تعريفي بها . لم يبدوا غرابةً بقدر ما قالوا أنها خرجت للتو ، وإذا حثثت الخطى ستلتقيها في محطة ( الكلتي Keleti ) إن لها لقاءً مع ضيوف ستلتقيهم في منتجع ( شيوفوك Siófok) ، سيأخذها القطار إلى هناك .
كانت المحطة تعج بالحاثين الخطى على الركوب أو النازلين توّاً مقذوفين من بطون القاطرات الومضية التوقّف والانطلاق . لذلك يغدو جنوناً إن جعلت مخيلتي تمنحني رصيد رؤيتها رغم علمي بطولِها الفارع الذي يعينني على مشاهدتها ووجهها المغمور بالفتنة ذلك الذي كان يطل من شاشة التلفاز ليحاور ضيفاً يعلّق على فيلم اختاره برنامجها ( السينما والناس ) .
كل الذي فعلته هو الارتماء في مدخل أول باب يتوارَب لأول قطار أشاروا عليَّ لصعوده صوب مرادي .
وفي ( شيوفوك ) لم أحتج إلى الكثير من البحث وصرف الزمن فالكازينو الوسيع المطل على البحيرة عرض مناضده جميعاً بجلاسه الذين راحت باصرتي تجوس وجوههم وتتملّى ملامحهم فتخبرني أحدى المناضد بامرأة لولا ذلك الشعر الطويل المسترسل الذي ما زال محافظاً على رونقه وبهائه لخلتها ليست اعتقال التي جئت لملاقاتها وحصد سنابل الرومانس من حقلها اليانع وقطف فاكهة الذكريات من بستان ثقافتها المُفتقَدة . رأيتها تجلس لوحدها منفردةً كأنها تنتظر صاحبَ وعد ؛ لذلك عندما وقفت إزاءها منتصباً ، قالت :
– أهلاً أنا بانتظارك ! هيا اجلس ارتشف قهوة عربية سوداء .
تناولت القهوة ، وعلى إيقاع خطى الود ورغبتها في الترجّل تركنا المقهى متخذين درباً تحفّه أشجار جوز هائلة . طرحتُ فكرة قدومي قاطعاً شسيع المسافات للقائها مبدياً رغبات مشاهدين ما زالوا يكحِّلون عيونهم بمرأى طلعتها الجميلة ونقاشها المؤثر وهي تطل من على الشاشة الصغيرة مع ضيوف يمتلكون باعاً من الثقافة الفنية . حوارُها الممتع يخلق معرفةً تغترفه ذائقة المشاهدين فتلج هي إلى دروب ذاكراتهم ذائبة في بوتقة ذكرياتهم . ويوم خَلت الشاشة من طلعتِها وعرف المحبّون مغادرتها الوطن مُجبرةً أطلقوا حسرات الألم ؛ وعادوا بعد تلك الأعوام الطوال يطالبونها بالعودة والإطلالة من جديد .
تباطأت الخطى ، وأحسستُ أنَّ ساقيها لا يسعفانها على السير بوثوق .، وقبل أن أفوه بسؤال عما اعتراها اكتشفت أنها كانت تنشج ، ودمعاً يشكل سيلين يتدفقان على وجنتين غدتا شاحبتين وبانتا متغضنتين أشد مما أبصرتهما في المقهى ، ما لبثا إن راحا يتهاطلان أرضاً كحبات مطر . ورحت أنا أبطيء المسير خلفها اجمع الحبات البلورية في قارورة الخيبة .
وأسمعها تمتم بما قاله المعري يوماً : تحطمُنا الأيامُ حتى كأننا // زجاجٌ لا يُعادُ له سبكُ .
وأسمعها أيضاً : الشاشةُ لم تعُد لي ، والعراقُ صار الحلمَ البعيد الذي لا أظن أنني سأمسكُ بتلابيب حنوّه .
وأيضاً أسمعها : غربةُ الروحِ لن يقدر نداءُ الوطن على محوِها .
وفيما كانت تسير كما الحالمةِ وتغيب عنّي في خثرةِ ظلالِ أشجار الجوز الكثيفة استطعت جمعَ حبّاتِ دمعٍ أضفتها إلى قارورةِ الخيبة . حبّات يومَ نثرتها على الورقِ أعلمتني أنَّ بودابست تتوازى وبغداد ، وأنهما عاصمتان مهما امتدتا لا تلتقيـ…….. .

10/ 12/ 2008

zalshaheed@yahoo.com

 

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| محمد الدرقاوي : كنت أفر من أبي .

 هي  لا تعرف لها  أبا ولا أما ،فمذ رأت النور وهي  لا تجد أمامها  غيرهذا …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| كريم عبدالله : وحقّك ما مسَّ قلبي عشقٌ كعشقك .

كلَّ أبواب الحبِّ مغلّقة تتزينُ بظلامها تُفضي إلى السراب إلّا باب عشقك مفتوحٌ يقودني إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *