رمزي حسن: كرنفال جنائزي (ملف/33)

إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين. ويهم أسرة الموقع أن تتوجّه بفائق الشكر والامتنان إلى الأديب الأستاذ “محمد عبد حسن” مؤرّخ هذه المجموعة وواحد من المساهمين المهمين فيها لأنّه زوّد الموقع بأغلب نصوص هذا الملف.

إلى الشاعر يحيى صاحب
( إن نهاية هده السهرة لن تمر دون أن يغرقنا
حادث مشؤوم نحن الثلاثة في بحيرة اليأس )
لوتريامون
أناشيد مالدورور

(1)

كانت ساعة الحائط قد أعلنت التاسعة مساء، عندما بدأت أختي الصغيرة نوبتها الليلية بالسجود عند قدمي أبي، تدلك له ساقيه حتى ينام.. أقبلت على غير عادتها هده المرة، فقد بدت شاحبة، مضطربة، وكأن وعكة ما ألمت بها.
لقد اعتادت على هذا الأمر، ولم يعد يضيرها إن كان ما تقوم به يعد فرضاً من فروض الطاعة، أو ضرباً من عبادة سوداء، فهي تلبث جاثية، هكذا، كل ليلة عند قدمي أبي، حتى يلامس وجهها الأرض من شدة الإعياء.
يجري هذا المشهد عادة في صالة كبيرة، فارهة، تنتصب الأشياء فيها بانتظام، تتوسط واجهتها العريضة، صورة ملونة لأبي بزيه العسكري، قبل أن يحال على التقاعد، علقت إلى جواره صورة، غير واضحة الملامح، لجدي بزيه الشعبي، أما في الواجهة الأمامية للصالة، حيث تجثو أختي الآن، فقد انتصبت لوحة زيتية كبيرة لمارد يلتهم أبناءه، وقد تلطخ حلقه الفاغر بالدم، كان قد تلقاها هدية من أحد آمريه تقديراً لشجاعته، فيما تدلت من سقف الصالة، ثريا على هيأة عنكبوت ضخمة، تبسط ظلها على أرجاء الصالة كالكابوس، ثبتت في أرجلها ثمانية مصابيح حمر، تبعث تموجات لونية، طيفية، على نحو يؤثر في شبكية العين، فتجعل الأشياء تسبح في أشكال هلامية، لانعكاسها تأثير، مخدر، منوم، يترك لدى المرء إحساسا، بأن ما يجري حوله، لا يعدو أن يكون حلما.
في تلك الصالة اعتاد أبي أن يقضي وقته، نادراَ ما أراه في غرفة أمي، لا لأنه بات يضيق ذرعا بها، أو لأنه وجد في الجنس نوعاً من التعايش الفاتر، بل أحسب أن إصابته البليغة في الحرب، قد سببت له في عجز جنسي، ما جعله يعيش ما يشبه بالعزلة .
من مكاني في أقصى الصالة، وعلى مسافة خطوات، كنت أرقب أختي وهي تجثو بخشوع.. كانت تتوقف، بين حين وآخر، تدعك جبينها ذاهلة، شاردة، ثم تعاود مهمتها من جديد، فتسللت على أطراف أصابعي أسالها، إن كانت تشكو من شيء، غير أن الكلمات احتبست في حلقي، حتى سمعتها تقول:
ـ لا تقلق، إنها مجرد وعكة، وعكة بسيطة!
بيد أني لم أقتنع بالأمر، وعدت إلى مكاني أرقبها عن كثب، فيما رأسها يتمايل على جانبي كتفيها من فرط النعاس، حتى إذا ما فقدت قدرتها على المقاومة، تكوّم جسمها الصغير فوق ساقي أبي، الذي كان يغط في نوم عميق.
وتلك مسألة أخرى، فما أن ينام أبي، حتى تستيقظ الأخيلة، لينطلق حشد من الأحلام كالعصافير وقد تحررت من سجنها، حتى إذا ما التقت عيناي بذلك السوط المعلق على الحائط، انفرطت أحلامي لتسقط تباعاَ مثل طيور ميتة.
كانت تبدو وهي تغفو ببراءة عند قدميه، أشبه بملاك هبط من السماء: وجه مدور كدمية، وجبين شاحب مشرق، استقرت فوقه خصلتان من شعر فاحم، وعينان مسبلتان برموش طويلة، وأنف صغير دقيق، وفم أشبه بوردة صغيرة حمراء، فيما بدا أبي أشبه بكائن خرافي، وجه متغضن كما لحاء شجرة هرمة، تتوسده علامات عميقة، قاسية، هي آثار ندوب الحرب، التي عاد منها مهزوماً.
هكذا كنت ساهماَ، حينما رأيت أبي يطوّح برأسه، وقد اختلجت عضلات وجهه، ولم يكن يدور بخلدي، في تلك اللحظة، أن كابوساَ مزعجاَ كان يتشكل في العتمة من ذاك الرأس، وأن بإمكان هذا الكابوس، أن يغيّر المشهد اليومي للطبائع الميتة لهذه العائلة الغريبة، إذ ما هي إلاّ لحظات، حتى انتفض من رقاده فزعاَ، مذعوراَ، وسدد ركلة قاسية إلى صدر أختي الغافية، فطفقت تصرخ وتنتفض كطير ذبيح.
لبثت واجماَ وقد تملكني الذهول، فيما هرعت أمي من غرفتها، تقلب نظرها في رعب بيني وبين أبي، وإذ لم تحر جواباَ، أقبلت نحو أختي تحتضنها، بيد أن صراخها طفق يعلو بجنون، كلما حاولت أمي لمسها أو الاقتراب منها، عند ذاك توجهت نحو أبي، تلتمسه أن يفعل شيئاَ من اجلها، غير أنها وجدته، كعهدها به دوماَ، لم يعرف الندم طريقاَ إلى قلبه يوماَ .
وإذ لم يرق هذا الوضع لأبي، توجه من فوره إلى السوط المعلق على الحائط، وراح يجلد به الهواء والشرر يتطاير من عينيه.. كذلك كان يفعل عندما لم تعد الأمور تنتظم على هواه، غير أن أختي لم تكف عن الصراخ، حتى استنفدت كامل طاقتها فتهدل جسمها وسقطت على الأرض مغشياَ عليها.
كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل، عندما بدأت أختي تئن وتهدي، ما أن اقتربت منها، حتى رأيت كدمة زرقاء بحجم زهرة شرعت بالظهور على صدرها، راعني إذ رأيت نلك الكدمة تتسع وتكبر في كل لحظة، لتأخذ في النهاية شكل زهرة زرقاء مصلوبة، حتى إذا ما حلّ الهزيع الأخير من الليل، انتفض جسمها انتفاضة راعدة، ثم خمدت جثة هامدة.
ـ لقد قضي الأمر! سمعت أبي يهمس لأمي.
ـ ماذا، هل تريد أن تقول..؟ غمغمت أمي وقد ابتلع الهلع لسانها.
ـ نعم، أجاب أبي، علينا أن نتدبر بقية الأمر، فليس لدينا وقت لنضيعه.
وبسرعة، كانا قد أعدا كل شيء، رفشاَ وفانوساَ وملاءة بيضاء !
حمل أبي ضحيته بين يديه ومضى يتقدمنا، لبثنا نتلمس الطريق عبر الفانوس الذي كان يتهادى بيدي فيكشف، بين آونة وأخرى، مخلوقات صغيرة كانت تتقافز بين أقدامنا.. مضينا عبر درب موحش، منعزل، لا يقصده الناس، إلاّ لدفن موتاهم من الصغار.. كان الدرب عشباَ، فيما مضى، لكنه لم يكن كذلك الآن لفرط ما داسته الأقدام .
استقر بنا الأمر، قرب بوابة لبيت طيني خرب، مهجور، انتصبت حوله جذوع أشجار ميتة، بدت في الظلام، مثل ظلال لأشباح عملاقة، كان القمر يرتع في شحوب، فيما لاحت النجوم خابية، داوية، وعلى ضوء الفانوس الذي تم تعليقه فوق غصن شجرة، طفق أبي يحفر قبراَ لأختي، وسرعان ما هبت ريح قوية جعلت الفانوس يتأرجح، ليكشف بضوئه مساحات مجهولة عن المكان، ويثير الفزع في بعض الطيور الجاثمة، لتملأ بزعيقها السماء، بحيث خيل إليّ، أنها سوف تهب في أية لحظة، لتنقض على ذلك الشيء الأبيض اللامع المسجى في الظلام، فتملكتني نوبة من الجنون، ورحت أنقضّ على الطيور بالحجارة، فطفقت تنعب وتزعق، حتى عمّت المكان فوضى رهيبة، جعلت الكلاب تنبح من بعيد هي الأخرى.
ولم أفق إلى نفسي، حتى أحسست بيد تهزني من كتفي ( كفى، كفى، قالت أمي، ها هي أختك ترقد في قبرها بأمان) .
لم يكلفوا أنفسهم في وضع شاهدة على قبرها، أو أية علامة دالة، غصن أخضر مثلاَ، أو قصبة يابسة، أو حتى قطعة من حجارة، وهكذا ضاع قبرها بين التلال الصغيرة لقبور الأطفال المهملة، فاتكأت على جذع شجرة ورحت أبكي، بدا لي صوتي غريباَ، كلما أصغيت إليه وجدته يلقي الرعب في نفسي، إذ لم يكن صوتاَ بشرياَ هذا الذي كنت أسمعه، لاح وكأنه صوت رجل أنهكه المرض، عند ذاكً، شعرت أن روحي تفيق وتصحو، كما لو كانت جمرة خامدة بدأت بالتوهج من جديد.

( 2 )

لم أنم تلك الليلة، لبثت أتقلب في فراشي كالمحموم، وحينما داهمني النعاسَ، فيما بعد، ظل العبث قائماً في رأسي، ألفيت نفسي هائماَ في العراء، كما لو تلقيت حكماَ بالطرد من الحياة، ثمة ظلّ يلاحقني، أكاد أسمع أنفاسه تلهث خلفي، بدا وكأنه يقتفي أثري منذ زمن طويل، فجعلت أحثّ الخطى، ثم رحت أركض.. أركض، حتى وصلت مكاناَ، لاح لي وكأنه نهاية العالم، فتوقفت لبرهة ألتقط أنفاسي، ثم ندّت عني صرخة بغير إرادة مني (من أنت ؟) توارى الظل على إثرها، ولم أعد أسمع لهاثه أو وقع أقدامه، لا شك أنني ظللته، قلت في نفسي، ثم وجدتني أستريح قرب شجرة عارية، حينما تطلعت حولي، رأيت أعداداً كبيرة منها متفرقة، هنا وهناك، بدت وكأنها صلبان عملاقة، وسرعان ما أدركت بأنني أقف وسط مقبرة، ما كدت أستعيد أنفاسي، حتى ألفيت ظلّه يجثم فوق رأسي، فانتفضت كالمجنون .
ـ لا تخف، لا تخف يا بني ! قال بنبرة حانية .
انتصب على بعد خطوات مني، بدا عملاقاَ كشجرة عارية، ثمة شيء في عينيه جعلني أرتعد من الخوف، بدتا مثل جذوتي فحم مشتعل .
ـ تعال، مدّ لي يديك ودعنا نتعانق، أضاف بالنبرة ذاتها .
ـ ماذا، هل تراها صحوة متأخرة يا أبي ؟
ـ نعم، نعم يا بني، فلطالما يفيق الإنسان بعد فوات الأوان !
تماسكت قليلاَ، ورحت أنظر في عينيه بتحد، إذ لم يعد لهما فعل السحر، هذه المرة .
ـ ولكن، كان عليك أن تصحو مبكراَ، ما فائدة ذلك الآن ؟ هل بإمكان غفرانك أن يعيدها إلى الحياة ؟.
إلتمسني أن أهدأ، أن أصغي إليه، لكن دون جدوى، وكلما حاول أن يمسك بي، كنت أتخلص من قبضة يده، عند ذاك، جثا على ركبتيه وراح يضرب الأرض بقبضة يده، فتطاير التراب من حوله.
قلت وقد استعدت الثقة بنفسي:
ـ لن ينفع هذا، قد يتوب الله عليك، لكن الإنسان لن يتسع قلبه لكل تلك الرحمة .
لم يطق سماع ذلك، وراح في محاولة يائسة، أن ينتفض لنفسه من جديد، فسحب السوط من خلف ظهره، وأطلقه في الهواء، ليحدث صفيراَ مروّعاَ، ويخطّ بحروف من نار، كلمة لم أتبينها أول وهلة، بدت ركيكة، غامضة، كما لو خطتها يراع عصبية، ظلت الكلمة عالقة في الهواء لبرهة، ثم ما لبثت أن تلاشتَ، عرفت، فيما بعد، أنها كانت كلمة ( أسجد )، نعم، أسجد، فلطالما كان أبي يلقيها على مسامعي، حتى تلقيتها كمسلمة، كان علي أن أصونها، كما لو أنها القول المأثور في لوح العائلة المقدس، الذي ينبغي أن أحفظه عن ظهر قلب، ولكن لا، لست ذلك التلميذ النجيب الذي يحفظ كل ما يردد على مسامعه، ولم أكن قط، ذلك الابن البار الذي يصون المقدسات .
لم يكن يدرك طبيعة التحولات التي تطرأ على روحه، غير أن عينيه كانتا تبوحان دائماَ بسرّه، وسرعان ما تغيرت نبرة صوته .
ـ أتدري أيها المأفون، إن عليك أن تلحق بها!
ـ أعرف.. أعرف، هذا ما كنت تسعى إليه دوماَ، فأنت لا تستطيع أن تعيش دون ضحايا! ولكن حسبك أن تعلم، إن السياط التي ألهبت بها ظهري قد زادتني قوة !
وهنا، امتقع لون وجهه، راح يرتعد ويرتجف، ثم مالبث أن سحب سوطه من خلف ظهره وأطلقه في الهواء مجدداً، ولكن، بعنف أشدّ هذه المرة، بحيث كان السوط يترك خطوطاً متعرجة، لاهبة، كتلك التي يحدثها البرق في السماء، تلبث هنيهة ثم تختفي، وفيما كنت أتفادى ضربات سوطه بالتراجع إلى الوراء، تعثّرت وسقطت على الأرض، كدت أنزلق في هوة عميقة، لولا أني تشبثت بجذر شجرة ميتة، ورحت أتأرجح في الفراغ .
ـ أعطني يدك، أعطني يدك، صاح بي وهو يدفع لي بسوطه الذي بدا يتلوى كأفعى، ولكني أرتبت في نواياه، وآثرت السقوط في تلك الهوّة المظلمة، على أن يكون خلاصي على يديه، وسرعان ما راح الجذر يتكسر ويتفتت بيدي حتى سقطت على كومة من التراب، ظهرت منها أختي، وقد ندّت عنها آهة خفية .
ـ هل آذيتك يا عزيزتي ؟
ـ أوه، لا، لقد كنت خفيفاَ! حتى أني حسبتك طائراً صغيراً!.
بدت شاحبة كتمثال من شمع، فيما لاح صوتها ضعيفاَ، واهناَ، كأنما يأتي من وراء القبر .
ـ إذن، هذا هو قبرك ؟
ـ نعم ، صحيح إنه ضيق وصغير، بيد أنه أدعى إلى الأمان !.
ـ حسناَ، ألا تأتين معي ؟
ـ لا، فالأموات لا ينهضون !
ـ ولكن…!
ـ دع عنك هذا، نحن كائنات أثيرية لا نشعر بالألم، قالت ذلك، ثم رفعت يدها ملوّحة، كانت يدها باردة كالثلج، حين أمسكت بها، أخذ لحمها يهترىء بيدي، ثم سرعان ما انزلقت في قبرها واختفت مجدداَ .
توقفت للحظة أنظر إلى قبرها، ثم مضيت مترنحاَ، متعثراَ .
ما كدت أبتعد قليلاَ، حتى اعترضتني بركة كبيرة من الطين، بدت تفور وتغلي، وكأنها بركان على وشك الانفجار، كانت أبخرة الدخان تتصاعد منها، فبات من المتعذر رؤية الأشياء بوضوح، وفيما كنت أتطلع حولي كالمجنون تناهى إلى سمعي وقع أقدام، ثم صوت أنفاس لاهثة تقترب، ما كدت أفكر بالهرب، حتى أحسست بسوط يلتفّ حول عنقي، ثم ظلّ أسود ينتصب أمامي، لقد غطّاه الهباب المتساقط، فبدا مخيفاَ، مرعباَ، ثمة دم أسود ينزّ من عينيه .
أعلن بصوت لاهث :
ـ لقد أتعبتني أيها الولد العاق، ولكن ها.. ها، سوف لن تفلت مني هده المرة !
عبثاً حاولت أن أقاوم، كان السوط يضغط على عنقي بقوة، فشعرت بالاختناق وتحول العالم بعيني إلى غمامة سوداء، وفيما كنت أتعثر وانهض من جديد، سمعته يقول:
ـ أتتحداني ؟ أنت أيها القميء، هل تحسب نفسك رجلاً لتفعل دلك ؟ حسناً، لنر إذن من هو الأقوى بيننا !.
اقتادني صوب البركة، كنت مستسلماً تماماً، أشعر بعذاب لا يطاق، بسبب السوط الذي كاد يحز رقبتي، بدا وكأن سورات من الألم المبرح تنتقل من رأسي إلى كل عرق في جسدي، ثم عاد صوته ليعلن مجدداً:
ـ ها قد وصلنا، تعال، تعال أيها الكلب، سأدقّ عنقك هذه المرة، أهذه هي البركة، سأجعلك تلحق بها إذن !.
مرّ شريط الحياة سريعاَ أمام عينيّ، لا، قلت في نفسي، لم تكن هذه نهاية موفقة، ماذا، هل حملت حياتي طوال هذا الزمن لأموت هده الميتة التافهة؟ وكما لو تملكتني صحوة مفاجئة، أحسست بنور أبيض يشع في عيني، فبت أرى الأشياء بوضوح هذه المرة.
كان الظلّ ينتصب أمامي، بدا عليه متراخياَ، مترنحاَ، فاستجمعت كل ما تبقى لدي من قوة، وبحركة استنفدت معها كل ما أملك من طاقة، رأيت الرجل يطير في الهواء، ليستقر في تلك البركة.. ظل يتخبط في الطين لبرهة، فرميت السوط بأثره ، فتحلق كأنشوطة حول رقبته، وراح يسحبه إلى القاع.. إلى القاع، ظلت البركة تزمجر لبعض الوقت، وكأنها وحش يزدرد اللحم النيئ لداك المخلوق المقيت، حتى إدا ما توارى في الأعماق، اهتزت البركة بعنف، ثم أطلقت صوتاَ كهزيم الرعد، ارتجت له أركان البيت، فاستيقظت.. وجدت نفسي أرتعد في سريري، فيما العرق يتصبب من جسمي، ولم أشعر بالارتياح حتى أضئت المصباح لأجد ظلي يرتقي أمامي.
كان حلقي جافاَ، فخرجت من الغرفة حافياَ.. رحت أمشي في الممر الطويل، الذي يؤدي إلى الصالة، حيث ينام أبي وحيداَ كعادته.. أحسست بسائل دافئ لزج يعلق براحتي قدمي، فأصابتني رعدة، وتملكني شعور بالغثيان.
كان الصمت، في تلك اللحظة، يطبق على البيت، بدا وكأنه بيت أشباح .
ما كدت أقترب من الصالة، حتى وجدت كل شيء في غير مكانه، وكأن هناك انقلاب في نظام الأشياء، فلا أثر هناك لصورة أبي المعلقة على الحائط، كانت مرمية على وجهها في البلاط، وقد تناثرت إلى أجزاء صغيرة، فيما تحولت اللوحة الكبيرة للمارد الذي إلى مزق متناثرة، أما أشياء أبي الأخرى، فقد تكدست بفوضى على أرضية الصالة، فيما يشبه الاستعداد لمحرقة، وكنت على وشك الصراخ عندما وجدت أبي ملقياًَ على الأرض، يسبح في بركة من الدم، وقد استقرت شظايا حادة في مناطق متفرقة من جسمه، متأثراَ بزجاج تلك العنكبوت الضخمة، التي تجثم فوق صدره، وكأنها بدأت لتوها في التهامه، وإلى جانبه، بعيداَ بعض الشيء كانت أمي، هي الأخرى، تغرق بدمائها، وقد تحولت إلى كومة بائسة من اللحم.
ومن بين الأشياء الكثيرة، التي كان البيت يكتظ بها، ربما كانت ساعة الحائط هي الشيء الوحيد الذي سلم من الكارثة!.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *