المايسترو. . رواية متعددة الأصوات
لندن: عدنان حسين أحمد

يتكئ سعد القرش في رواية “المايسترو” الصادرة عن “دار العين للنشر” في القاهرة على هيكل زمكاني يُشيّده على ساحل الخليج العربي الذي يضمّ العديد من الجنسيات العربية والأجنبية ولكنه اختار منها أربع جنسيات لا غير، فالأول، هو الخادم الهندي الشاب “أنيل” الذي لا يعرف شيئًا عن بلاده، والثاني هو العامل التبتي “تسو” الذي يحلم بالعودة إلى بلاده التي يتزامن احتلالها مع تاريخ ميلاده، والثالث هو مصطفى، المحامي المصري الذي جاء لمهمة محددة وسيعود بعدها إلى زوجته الأميركية “لورا” التي تعيش وتعمل ولاية مشيغان، أما الشخص الرابع فهو “نوّاف” الذي يُعدّ من أبناء البلد لكنه لا يمتلك الأوراق الرسمية التي تُثبت هُويته الإماراتية فظل عالقًا في الهامش ومدموغًا بصفة “البِدون” التي نجدها في أكثر من دولة خليجية.
تدور الأحداث على وفق البنية الزمانية لبضع ساعات تمتد من غروب الشمس حتى منتصف الليل ويظل الجميع متأهبين بانتظار النفير الذي يُخرجهم من عَتَمة الليل البهيم إلى إشراقة فجر جديد لم يألفوه من قبل. لم يختصر سعد القرش الزمان ببضع ساعات، ولم يعوّم المكان أو يقصُره فقط على مساحة الزورق كما جاء في الهيكل الروائي، وإنما تذهب الأحداث الحقيقية إلى أبعد من ذلك بكثير وتأخذنا إلى عام 332 ق.م حينما غزا الإغريق مصرَ وسطوا على أبحاثها ونظرياتها وكنوزها الثقافية المعروفة، وثمة إحالات إلى أزمنة متعددة تبدأ بالزمن السومري، وتمرّ بالحقبتين الجاهلية والأندلسية، ولا تنتهي عند زمن السياب الذي قال عن الخليج:”يا واهب اللؤلؤ والمَحار والردى”. كما أنّ المكان يتشظى إلى أمكنة متعددة تبدأ بالهند والتبت وأميركا وهولندا ومصر لتأخذ الرواية طابعًا كونيًا لا يحفل ببقعة محددة وإنما يحتفي بالأمكنة والأديان والثقافات كلها.
تنطوي كل شخصية من الشخصيات الأربع الرئيسة على معطيات محددة تساهم في نموّ كل واحدة منها على انفراد، ولابدّ من إضافة شخصية خامسة وهي لورا الأميركية التي كانت تتواصل عبر الإنترنيت مع المحامي المصري مصطفى قبل أن يرتبط بها ويتزوجها ثم يعود بها إلى موطنها الأصلي. ويبدو أن سعد القرش مولع بالثقافات الأُخر مثل الثقافة الهندية والتبتية والرافدينية فلاغرابة أن يقتبس منها العديد من الآراء والمقولات التي يُدخلها في نسيج نصه الروائي، وخاصة الحكايات الغريبة والطريفة التي تعْلق بذاكرة القارئ. فالخادم الهندي أنيل يُحيلنا إلى بلد العجائب التي اختار منه الروائي كتاب “كاما سوترا” لمؤلفه فاتسيايانا الذي عدّتهُ لورا أجمل هدايا الهند إلى العالم لأنه يسلّط الضوء على طرق ممارسة الحُب والملذات الناجمة عنها. أما “تسو” التبتي فيأخذنا إلى عاصمة التبت “لاسا”، المدينة المقدّسة التي يحرّمون فيها القتال رغم أنّ الصينيين احتلوا التبت برمتها وألحقوها بدولتهم المترامية الأطراف. وقد التقط سعد القرش حكاية التنّين الذي دمّر آلاف الأديرة، وقتل مليونًا من الأبرياء، وقذف بالناجين منهم إلى المنافي فأصبح “تسو” بلا بلد يعود إليه بخلاف أنيل الذي يستطيع العودة إلى الهند في أي وقت يشاء.
تبدو شخصية نوّاف إشكالية كونه من أبناء البلد لكنه منقوص الهُوية وينتمي إلى فئة “البدون” الذين يفتقرون إلى الأوراق الثبوتية التي تُعزز انتماءهم إلى هذا البلد الخليجي أو ذاك، وربما يكون سفره إلى هولندا فرصة للإطلال على منازل اللذات العابرة التي تبيع فيه المومس جسدها مقابل ثمن مادي لكنها تمتنع عن بيع روحها، فالقُبلة تقع خارج الاتفاق لأنها قرينة الحُب، ويصعب محوها، ونسيان ذكراها. وعلى الرغم من وجود سانحة حظ بالخلاص إلاّ أن نوّافًا قرر العودة إلى الإمارات حتى وإن ظلّ تائهًا بلا هوية.
تعتمد رواية “المايسترو” في نسيجها الداخلي على عدد من الوقائع والأحداث المتشظية إضافة إلى مجموعة غير قليلة من الحكايات والأشعار والاقتباسات التي أضاءت الأنساق السردية ومنحتها نكهة مختلفة تُحيل القارئ إلى الفضاء التِبتي تارة مثل تقطيع الأجساد الميتة وتقديمها وليمة للطيور الجائعة، أو إلى الفضاء الجاهلي تارة أخرى حينما يتحدث أمرؤ القيس عن الملذات الإيروسيّة، وهناك تعالقات نصيّة تأخذنا حينًا إلى الزمن السومري حين يقول أحدهم:”نحن الشعراء مطرودون من هذا العالم”، وتعالقات أخرى تصحبنا حينًا آخر إلى العصر العباسي الذي أُنجِزت فيه رائعة “ألف ليلة وليلة” وغيرها من المخطوطات الأدبية والعلمية. وهناك تلاقحات مع الشعر والسينما والتاريخ والحكاية الأسطورية وما إلى ذلك الأمر الذي يقود النص السردي تشعّبات عمودية تُضعِف من نسقه الخطّي لأنها تعتاش على حساب قصة المتن الروائي التي تحتاج إلى نموّ وتسارع متواصلين كي يبلغا الذروة ثم ينحدرا صوب النهاية سواء أكانت متوقعة أم تكسر توقعات القارئ وتنسفها جملةً وتفصيلا. وربما تكون الرسالة التي بعثها ابن عبدالملك بن مروان إلى والي المدينة أنموذجًا ممتازًا للتلاقح الميتاسردي وذلك لإنطوائها على عنصر المفارقة فثمة جُملة مهمة يقول فيها:”أحْصِ مَنْ قِبَلَكَ من المخنّثين” فقرأها الوالي “أخصِ” فأمر بإخصائهم ومنهم الدلاّل إلى آخر هذه الحكاية المعروفة التي تنطوي على قوة ميتاسردية تطّعم الرواية بأجواء جديدة تتيح للقارئ أن يتنقّل بين فضاءين سرديين أو أكثر تمنحه فرصة للقراءة المجازية، وعقد المقارنات، واستخلاص النتائج.
على الرغم من تعددية الأصوات إلاّ أنَّ القارئ يخرج بنتيجة واضحة مفادها هيمنة شخصية المحامي مصطفى الذي يُمسك بعصا المايسترو وزوجته لورا على بقية الشخصيات الرئيسة والثانوية، فهما العمود الفقري للرواية، أما بقية الشخصيات فهي مؤازرة وتلعب دورًا ثانويًا يقتضيه النص السردي الذي “هاجر” إلى ضفة الخليج الغربية بسبب “أنيل” و “تسو” و “نوّاف” ولولا هؤلاء الثلاثة لكان المكان الأنسب لهذه الرواية هو “القاهرة” أو أي مدينة مصرية أخرى علمًا بأن معطيات الشخصيتين اللتين تناصفتا البطولة تنسجم مع القاهرة تمامًا، وتنتعش بفضائها المديني الذي يمتد منذ عصر الأهرامات الذي سبق الأديان كلها إلى يوم الناس هذا، فمصطفى محامٍ متفتح الذهن، ولورا امرأة كوزموبوليتانية بكل المقاييس أحبّت أستاذها ذات يوم وأنجبت منه ولدًا، وافترقت عنه لتجد ضالتها في هذا المحامي المصري الذي أحبّها، وأحيّاها من جديد إلى الدرجة التي جعلها ترى جسدها بعينيه ولمسات يديه.
وبما أنّ النص “مُهاجر” إلى الخليج فقد شاءت اللُعبة السردية أن تبدأ الأحداث قبل مغيب الشمس وتنتهي عند منتصف الليل وأن تجتمع الشخصيات الأربع ثم يتفرّق شملها إثر حادثة سقوط امرأة من اليخت الكبير إلى الماء وأوشكت أن تغرق لكنهم أنقذوها وأفرغوا جوفها من الماء، وأوصلوها إلى المطار.
لم تغادر الرواية واقعيتها حتى عندما لعب مصطفى دور الكفيف وخرج منه بقلادة منقوش عليها جملة”وتمّت نعمة ربك” فقد ظل هذا المشهد الطويل نسبيًا في إطاره الفنتازي الذي يكسر رتابة النمط السردي ويمنحه لونًا آخرَ يأخذ القارئ إلى دائرة المفاجأة والإدهاش.
تحتاج شخصية لورا إلى دراسة منفردة لأنها تعيد أواصر اللقاء بين الشرق والغرب فهي متخصصة بدراسات الشرق الأوسط، وقد أحبّت مصريًا، وتعلّقت به لكنها أخذته إلى مضاربها في مشيغان وهي المولعة بالآثار المصرية والتي لم تجد صعوبة في الإندماج بالمجتمع المصري على الرغم من الفروقات الاجتماعية والثقافية والدينية.
جدير ذكره أن سعد القرش قد أصدر عددًا من الكتب والروايات نذكر منها “ثلاثية أوزير” (أول النهار، ليل أوزير، وشم وحيد) و “سبع سماوات” وهو (رحلات في الجزائر والعراق والهند والمغرب وهولندا ومصر)، إضافة إلى “الثورة الآن- يوميات من ميدان التحرير” وقد شغلَ منصب رئيس تحرير مجلة الهلال (2014- 2017).

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *