إشارة :
مهدي عيسى الصقر واحد من بين أهم روّاد التجديد في القصة والرواية العراقية. ومنذ مجموعته “مجرمون طيّبون” (1954) التي قدّم لها الراحل الكبير السيّاب، أغنى المكتبة السردية العراقية بقصص وروايات شكلت نقلة في المسار السردي في العراق. ولم يُستذكر الصقر إلّا بعد أن أُصيب بجلطة دماغية قضت عليه بعد مدة قصيرة فأرسلوا إليه باقة زهور. تدعو أسرة موقع الناقد العراقي الأحبّة الكتّاب والقرّاء إلى إغناء ملفها عنه بالدراسات والصور والوثائق وسيكون الملف مفتوحا من الناحية الزمنية لأن لا زمن يحدّ الإبداع العظيم.
يحتل الخطاب السيري حيزاً مرموقاً في تاريخ السرديات سواء على المستوى التعبيري ام على مستوى التوثيق التاريخي والشخصي وذلك كون السيرة الذاتية تمثل نوعاً ادبياً يمتلك اشتراطاته وخصائصه الفنية والتي من ابرزها ذلك التناغم بين العام والخاص والذاتي والموضوعي ويقع البطل (السردي) في دائرة الحدث ومن ثم توصيف الحدث من المنظور الذاتي، ولم تعد السيرة مجرد رواية للأحداث وتعميم التجربة بل اصبحت بعد الكثير من التجارب والنماذج فناً ينطوي على اسلوبية بلاغية وسردية استثنائية الى جانب الجرأة التي يتسم بها الخطاب السيري، فهو خطاب للمكاشفة والبوح، ونجد مثل هذه التوصيفات في (اعترافات جان جاك روسو)، و(لا مذكرات) لاندريه مالرو، و(أشهد اني قد عشت) لبابلو نيرودا، و(عشت لأروي) لماركيز.
وتمثل هذه النماذج مصدراً من مصادر دراسة المرحلة التاريخية التي صورها وجسدها الراوي- السيري وهي بالاضافة الى ما تقدم ترتكز على تجربة ابتكارية في الكتابة وتجويد في فن التعبير المفتوح.
والسيرة الذاتية وكتابتها انطوت على نوعين: الأول حين يشرع أصحابها في الكتابة عن أنفسهم بوعي عال وتحسس مرهف، والثاني حين يتصدى آخرون للكتابة عن رموز وأعلام، ويصنعون عالماً موازياً لعالم السيرة الذاتية، ويمكن تسميتها السيرة الذاتية بالنيابة، ولقد تمرس في النوع الثاني أدباء عالميون معروفون، أشهرهم ستيفان زفايج والروائي والمسرحي الفرنسي رومان رولان (1866-1944)، الذي يعد من أغزر كتاب السير فلقد ترجم لبتهوفن، وتولستوي، وغاندي وغيرهم.
ولعل رواية (أشواق طائر الليل) تنضوي في تجارب النوع الثاني، أي كتابة السيرة بالنيابة كما فعل رومان رولان، إذ تناول القاص والروائي مهدي عيسى الصقر سيرة السياب عبر رواية مختزلة، وهي مناورة بين فن الرواية وفن كتابة السيرة، وانطلق الصقر في مقاربته السيرية من حقيقة كونه أحد مجايلي رائد القصيدة العربية الحديثة والشعر الحر- مع اعتراض الكثير على المصطلح.
إن الشعر الحر ليس حراً بشكل مطلق أو مجرداً من القافية والوزن والصورة والإيقاع.
ويتخذ مهدي عيسى الصقر من حياة السياب مادة ثرية ومطواعة لميكانزم الإسقاط بالمعنى السايكولوجي، لما تكشف عنه تلك الحياة من التأزم بين الذات المبدعة والمحيط المتكلس اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وربما لهذا السحر الدرامي والاحتدام الذي تتضمنه حياة مأزومة كحياة السياب، وجعلها تمثل هاجساً من إغراء الكتابة عنها، ومن يقرأ الرواية بتمعن يجد تعبيراً صادقاً، وكأن الكاتب يعبر عن تجاربه الخاصة بدقة التصوير والعمق السايكولوجي لا سيما في هذا المقطع الذي يعد تلخيصاً تراجيدياً لحياة السياب وغيره من المبدعين الذين حاصرهم الاغتراب والمكابدة والألم، وقد استعار الروائي اسم (يوسف هلال) كبديل إجرائي:
(إيه يا يوسف بن هلال: كان قدرك أن تعيش تلك التجربة الصاعقة وأنت يافع، تلك التجربة الفريدة التي فعلت فيك ما يفعله ميسم ملتهب يحرق الجلد واللحم والعظام، ما يفعله إعصار أهوج يزعزع كيانك ويرمي بك خارج مدار الطفولة خارج البراءة، والنقاء، والعبث اليومي.. إلى قلب عالم شرس وممزق تسكنه الفوضى، وتملأه العذابات والخيبات المرة والأشواق الموجعة والحرمان الاليم واللهاث الدائم وراء السراب- السراب ووراء الأمن والاستقرار وطيف المرأة العاشقة المعشوقة، التي لا تعرف الكذب ولا تعرف الخيانة) الرواية ص68.
ويحاول الكاتب أن يتتبع سيرة السياب منذ ولادته في إحدى قرى أبي الخصيب، وتحديداً من جيكور حتى رحيله على سرير في أحد مستشفيات الغربة، التي نخرت عظامه كما نخرت كيانه الأوجاع والمرض الذي لازمه كظله.
السرد في “أشواق طائر الليل” اعتمد أسلوب الريبورتاج الصحفي أحياناً، وفي أحايين أخرى يلجأ إلى أسلوب المونتاج السينمائي حين يستهل الرواية عبر مغايرة السرد والانطلاق من نقطة النهاية- المستشفى، وينحدر باتجاه الأزمنة، والأمكنة، والحوادث وفق رؤية اختزالية وانتقائية عززتها تلك العناوين التي استهل به كل فصل ليسرد لنا تجربة أو جانباً من جوانب حياته المليئة بالحوادث والمعاناة بكل اشكالها.
ونجد أن لكل فصل خاصية يمتاز بها عن غيره، ففي فصل (مراهق من الريف) يسرد لنا عنفوان التوجس أو التماس الجنسي البكر مع أول امرأة، وما يصاحبها من جنون الرغبة الجامحة.
وفي فصل (المهرب) يسرد لنا قصة السياب مع المهرب (عمار الخليفة)، وكيف اضطرته الأقدار إلى أن يتعامل معه لمغادرة الوطن أو بالأحرى للهروب من الوطن باتجاه المنفى بعد أن تراكمت المآسي عليه وحاصرته أساليب القمع السياسي والاجتماعي. وتابع الكاتب اسلوب العنونة وحرص على شعرية العنوان مثل (الاسم الآخر للوهم) و(سراب امرأة.. سراب الوطن) و(طائر الليل الضائع) و(امرأة اخرى.. بلد اخر) و(وهج الاحلام) وغيرها.
ووفق قراءة تحليلية للرواية والتركيز على هذه الفصول المختزلة والومضات السريعة نجد ان الكاتب قد استهوته جوانب وزوايا في حياة السياب بينما اسدل الستار على جوانب وزوايا اخرى كان الاجدر تناولها والتعمق فيها لأنها لا تقل شأناً عن غيرها مما ركز عليه الكاتب.
وانتهى إلى سيرة رومانسية وايروسية اكثر من كونها حياة لذات مفكرة ومبدعة وقد سبقت عصرها بكثير من التجليات او التحسسات غير العادية، فلقد ركز الكاتب على شعرية التناول والتحليق بالذاتوية، ولم يتناول الصراعات وأشكال القمع والتصادم التي عاناها الشاعر وإشكالياته السياسية والأدبية والاجتماعية.
فالسياب لم يكن مهووساً بالمرأة إلى الحد المبالغ فيه، كما ظهر بين ثنايا الرواية، ولذا نجد أكثر الفصول تتحدث عن أزمة مستفحلة ومركبة مع المرأة ممزوجة بميل إيروسي، في حين كان السياب متسامياً بشعره للتخلص من إحباطاته على مستوى العاطفة.
ووفق التحليل الحديث للسلوك يمكن القول إن الخوض في التجارب العاطفية والاستغراق في التذلل طريقة للتعمق بسايكولوجية المرأة، التي كانت فعلاً تحتل حيزاً من فكره ووجدانه، ولكن ليس بالصورة التي قدمتها الرواية، فلقد بدا ذليلاً وعادياً جداً حين يتوسل بالممرضة في الفصل الأول، ويبكي من أجل ان تبقى معه، لا نعتقد بأن السياب في ذروة نضجه، ووسط ألمه المبرح يتحول إلى مراهق مفتعل، وقد نعترض على عنوان (مراهق من الريف) لأنه عنوان ينطوي على توصيف مباشر وساذج لا يتناغم مع عقلية وتوجهات السياب.
البساطة التي حاولها مهدي عيسى الصقر قادته إلى تبسيطية، فبدت الرواية غير متماسكة على مستوى البناء الفني والتتابع الزمني، ولم يستثمر طريقة المونتاج السينمائي، بل كانت أسلوباً مقحماً أراد من خلاله أن يلتقط ما يحلو له من صور وتداعيات سريعة لكنها غير عميقة أو مؤثرة.
وبدت الرواية تنسج فصولها غير المترابطة وفق ترسيمة تقليدية تذكرنا بالروايات الرومانسية الريفية التي دأب على كتابتها الروائي المصري محمد عبد الحليم عبد الله الذي ذهبت أعماله مع الريح لأنها كانت تتمركز على حكايات العشق والغرام بثوبها الريفي الساذج، وهي تنفيس عن رؤى الصبابة الأولى وعقدها بعيداً عن المعنى الانساني الثر، والعمق الروحي البهي، الممزوج بالفكرة والموقف.
كذلك لم يتعمق الكاتب في ثوابت معروفة في حياة السياب.. جيكور.. وإقبال.. ووفيقة.. ومعاناته الفكرية.. ووجوديته المأساوية.. وتناقضات الواقع السياسي والاجتماعي العراقي، ولذا لم نستشعر أية خلفية تاريخية مع أن الكتابة السيرية تمزج بين الخاص والعام والذاتي والموضوعي.
ويمكن القول إن رواية “أشواق طائر الليل” كانت مجرد استذكار مناسباتي أو إسقاط فرض أطلقه الكاتب وبالنيابة عن الاستحقاق الإبداعي المفترض.
*عن ستار تايمز