مهدي شاكر العبيدي: جريدة ( الزمان ) في العدد أربعة آلاف

تقدَّر المسافة الزمنية الممتدَّة ما بين العدد ثلاثة آلاف والعدد أربعة آلاف من جريدة ( الزمان ) ، بمقدار ثلاث سنوات ، وتزيد عليها بقليل بنحو أربعة أو خمسة عقود من الأيَّام ، بعد طرح أيَّام التوقف عن الصدور في العطل وغيرها من المناسبات المتكرِّرة ، وللقارئ أنْ يسأل عن الأصداء التي تركتها في النفوس أو أبقتها في الأذهان ، ما صدعَتْ به دواما ً من لفت أنظار أرباب المسؤوليَّات والمهيمنينَ على شؤون الحكم في البلاد ، إلى ما يرادف قيامهم بواجباتهم حِيال بني جلدتهم ومواطنيهم ، من مظاهر السلب والاقتسار والتفريط والإخلال بالشرائط والمعاني الصحيحة لمسار الأمور ، بحيث ينتفي التذمُّر والسُخط من حياة الناس وتجري رُخَاءً ، ويتوافق كلا الطرفين ِ ، عموم الشعب والمتصرفينَ بمقدَّراته ، ممَّن تبجَّحوا بوطنيَّتهم وإخلاصهم ، وتشدَّقوا بحميَّتهم ونزاهتهم ، ووثقوا بأنـَّهم الأجدر باعتلاء المراتب دون سواهم ، قلتُ هل كان لتلك الأعمدة الصحفية التي ينشِئها ويوالي تحريرها وكتابتها كـُتـَّابٌ مقيمونَ داخل الوطن ولفيف منهم في بعض دول الجوار لسببٍ وآخر ، ويستوي الجميع في لزوم العبارة الجميلة المؤثرة والمنطوية على نقدٍ وتعريةٍ وفضح ٍ لما يُمثل من الأدوار ويشهده الجميع من المهازل باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان ! ، هذا إلى التواني في تقديم الخدمات وأيسرها الكهرباء وإصلاح مجاري الصرف الصحي ، حتى تخرس الألسنة التي تجهر بعدم شرعية صرف الاستحقاقات والرواتب المجزية لأيٍّ من منتسبي الجهتين ِ أو المؤسَّستين ِ المنوط بهما نجاز أو توفير تينك الحاجتين ِ اللتين ِ ترجح قيمتهما وأهميَّتهما في عيون الغالبية على ما سواهما من المطالب والحاجات ، وما علينا بالشؤون الأخرى التي تمسُّ هيبة الحكومة وما ينبغي لها أنْ تبلغه في الصدور والقلوب من السمتِ والوقار والتصوُّن والرفعة ، بحيث لا يُستبَاح حمى البلاد في عزِّ النهار ، ويُروَّع الأهالي من آن ٍ لآن بدوي القذائف ورهبوت المفخَّخات ، بلا أدنى ذنبٍ ولا جريرةٍ يعفُّ عن اجتراحها أيُّ امرئ ٍ من أناسنا الطيِّبينَ المُسالمِينَ .

       لا فقد تناهى إلى سمعي ــ في غربتي واغترابي ــ أنْ ليس هناك من مصغ ٍ للتحذير والتنبيه ، ولا من مستمع ٍ للشكوى والموجدة ، فالكلُّ لاهونَ ومنشغلونَ بما لهم من لباناتٍ وأوطار ، ومنغمسونَ في تناحرهم وتبكيت أضدادهم وغرمائهم ، وإلجامهم وتيئيسهم من أيِّ تأميل ٍ في انتقال السلطات وتبادل الأدوار ، وبالتالي استرجاع الحكم كما مرَّ العراق بمشابه لهذا الحال المزري وذلك في ثلاثينيات القرن الماضي ، غير أنـَّني أذكر في طفولتي إبَّان تلك الآونة شروع الحكومة القائمة وقتَ ذاك وهي محفوفة ومنذرة بخطر الاقتلاع والتصويح ، بمدِّ أسلاك الكهرباء وتوصيلها إلى بيوت مَن يبتغيها من الأهالي .

       فهل يعني هذا عبثيَّة أو انعدام الجدوى من كتابة الأعمدة الصحفية تلك ، والتي ابتغى كـُتـَّابها وراموا شرف القصد من ورائها ، دون أنْ يخطر في بالهم ويعنُّ لهم تجريح أحدٍ أو تكدير حسِّه وخدشُ مشاعره وافتعال أزمةٍ ما وخلق مشكلة من المشكلات ؟ .

       لا ثانية ، فالدأبُ على الكتابة ومواصلتها من مستطيعيها والمتمكنينَ منها بات أمرا ً لا مندوحة منه ولا غناء ، فللكلمة تأثيرها البالغ في نفث الوعي وتحريك السواكن ولفت الأنظار إلى ما يحتوشهم ويشوب حياتهم من الإجحاف والغبن ، والانحراف عن سواء السبيل في كلِّ ما يزمع ولاة الأمر وذوو الشأن تنفيذه من تطبيقات ومشروعات ، وذلك من بدائه النقد ، وأوَّل موجباته ودواعيه ، وأقمن ضروريَّاته لدى الدولات المتقدِّمة ، والتي على رأس السلطات فيها رعيلٌ من أناس ٍ ممتلئينَ ثقة بأنفسهم ويقينا ً بجدارتهم وأهليَّتهم في غير غلو ٍ منهم بعصمتهم من احتمال وقوعهم في الأخطاء والمزلات ؛ وهذا ما نلحظه جليا ً في سير الأحكام بتركيا وفرنسا وسواهما ، فقد توارى أقطاب السياسة المتسنـِّمو الحكم قبلا ً في هذين ِ البلدين ِ ، ولم نعد نألف ظهورهم في وسائل الإعلام ، حتى ولا نسمع لهم رأيا ً بصدد الأوضاع والأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تسود هناك ، بعكس الشأن في البلدان حديثة العهد بالديمقراطية ، ولم نعهد فيها تداول الأمر والتسليم بالاقتراع على أصوات الناخبينَ ، بلْ يظلُّ هاجس اعتلاء سـدَّة الحكم مساورا ً لجمهرة الساسة والقادة الميامينَ ، بحيث ينتوي المخفق المُخيَّب تحشيد الغرماء وتكتيل جهود الفرقاء المختلفينَ في منازعهم وميولهم لمواجهة النخبة التي كـُتِب لها أنْ تفوز بجولة انتخابية ما ، بعد أنْ جازَتْ وتجوز شتى العثرات والمصاعب ، وتواجه إعصارا ً ماحقا ً وكفيلا ً بزعزعتها وهزِّها من الأساس ، وتجريدها من الثقة بها والتعويل عليها في فعل أيِّ شيءٍ حسن ٍ ، ومع ذلك فنحنُ نتعلل بقولة المفكر المصري خالد محمد خالد أنـَّه لكي نتفادى الأخطاء المُلازمة للعمل بالديمقراطية ، لنزدَدْ من ممارسته مع ذلك ، ونجعله قبلتنا ومنهجنا في الحياة .

       لا أنفي استغرابي من اختيار مؤسِّس هذه الصحيفة الأستاذ سعد البزاز لهذه التسمية بالذات ــ ( الزمان ) ــ  لا سِيَّما أنْ سبقتها في السنين الماضية رصيفة لها تشاكلها أيضا ً في نفس التسمية ، ألا وهي : ( الزمان ) ، لمنشِئها ببغداد الموصلي أيضا ً توفيق السمعاني ، ورغم ما ترمَى به من طعون واتهامات بالتفرُّج على ما كان يجري في البلد من حوادث ، ويتوالى عليه من خطوب ومكاره آنذاك ، وأنـَّها تعدم الموقف المحدَّد من كلِّ ذلك ، سواءً بالتأييد أو المعارضة ، فحسبها أنـَّها كانتْ محتفية بإسهامات ذوي العقل والدراية والنظر البعيد إلى ما ستسفر عنه الأيَّام أو ينجلي عنها من الحقائق ، فمقالاتها الافتتاحية ممهورة في أغلب الأحيان بأقلام : محمد رضا الشبيبي ، وعبد الجبار الجومرد ، وعبد الرزاق الظاهر ، وغيرهم من المتزنينَ الواقعيينَ وذوي السمتِ الذينَ لا تستهويهم الأحلام وبروق الأماني ، وتعوَّدوا أنْ يعطوا بعض الحقِّ والنصفة ، ويخرِّجوا من نفوسهم عذرا ً لمَن ينحَونَ عليهم باللائمة من أرباب المسؤوليات الذينَ طالما اشتطوا وأسرفوا من جهة أخرى في تبكيتهم وتقريعهم وانتقادهم.

       وعلى كلٍّ فالتسمية تلك محبَّبة والزمان يجري على كلِّ لسان ، وما أكثر ما ينضح باللوعة والتفجُّع ، أو ينحسر عن المباهج والمسرَّات ، وينكشف عن الغد المشرق والأمل الباسم .

       وقد تطوَّرَتْ اليوم وتزايدَتْ أفرعها في غير لندن التي شهدَتْ تأسيسها وصدورها فيها ، فصارَت تصدر بطبعةٍ موسومةٍ بالطبعة العربية ترد إلى مكتبات المدن السورية واللبنانية والأردنية والمصرية ؛ وبطبعة عراقية لا أدري أيَّ جهة أو عاصمة تظهر فيها ؛ وتحصيل الحاصل باتت تغطي معظم ما نعرف من الأنحاء العربية في آسيا وأفريقيا ؛ ويقبل على قراءتها القاطن في أيِّ رجأ من أرجاء المعمورة بواسطة موقعها على الشبكة الدولية للمعلومات ( الإنترنت ) ، هذا الاختراع الذي صيَّر المسكونة قرية صغيرة كما يُقال لا غير .

       وتمشية أعمال هذه الصحيفة لا تتمُّ بطبيعة الحال بجهدٍ فردي بعينه ، إنـَّما تتضافر حزمة من الجهود المتكاتفة والمـسـاعي المنتوية إنجاز المهمَّة على أوفق حال ، دون أنْ يمنى أيُّ واحدٍ من منتسبيها بالافتكار وانشغال البال في كيفية تصريف أعمالها وإدارة شؤونها في هذه الديارات والأنحاء المترامية ! .

       لكنـَّني أراهن على إمكان تصدِّي الفرد الواحد لقراءتها بصفحاتها العشرين ذات المساحة الكبيرة حسبما تعارف أرباب الصحف على إيثارها لصحفهم ، وبأقسامها وموضوعاتها كافة ، ومغالبة الوقت لاستيعابها كليا ً ، ومعظمها لا يضنُّ بالفائدة والاطلاع على شؤون السياسة والأدب والفن والرياضة ، وإراءة بعض العجائب والغرائب ممَّا يستجدُّ في العالم وتقاليد الشعوب ممَّا تنقله صفحتها الأخيرة يوميا ً ، إنـَّما يجد قارئها في هذا التنوِّع ما يشبع رغبته وهواه ويرضي مشربه ونزعته ، أمَّا أنْ يفرغ لها بكامل جهده وينقطع عن بقية المشاغل فمحال .

       يسهمُ في الكتابة والنشر في جريدة ( الزمان ) جمُّ غفير من الكـُتـَّاب المتنوِّعينَ في اهتماماتهم والجوانب الفكرية التي ينزعونَ إليها ويشغفونَ بها من جميع البلدان العربية , وإذا كان لبعض المجلات والصحف التي صدَرَتْ في آونة هنا وهناك سابقة ما في تخريج الكـُتـَّاب أو إزادتهم مراسا ً وخبرة ، أو معاونتهم في رياضة أقلامهم لتناول موضوعات شتى ، أو إشهار آخرينَ كانوا قبلها في عداد المُقلينَ في التحرير والنشر ، فتمَّ حفزهم على استئناف الكتابة بشكل ٍ ملحوظ ، فإنَّ جريدة ( الزمان ) جاوزَتْ الحد الذي أوفتْ عليه الدوريات قبلها ، لا سِيَّما أنَّ الواقع الصارخ من حولنا والمفعم بما يستدعي قائلا ً ليقول رأيا ً بشأن تعديله وتقويمه وصونه من الشطط والانحراف أكثر ، كان عاملا ً مُسعِفا ً في التعرُّف على أسماء رعيل من الأدباء البارعينَ المتفننينَ في كتابة المقالة الأدبية والمبحث النقدي ، ومثلهم من ذوي الرؤية الفلسفية والنظر التاريخي الصائب ، وحتى التحليل السياسي بشأن قضايا الساعة بعد أنْ غطـَّتْ عليهم وعفـَّّتْ على صيتهم وحجبَتْ أسماءَهم عن البروز والذيوع ، تلك المداخلات والتحرُّكات البهلوانية المريبة لمَن نصَّبوا صدورهم أوصياء على الثقافة العراقية والأدب العراقي ، وكانوا أوَّل مَن شرَّع للمحاصصة عند تقسيم الأرزاق والأنصبة والحظوظ بين طوائف الأدباء وأرباب مهنة القلم ، وحذا حذوهم السياسيون الجُدُد في اقتسام المسؤوليَّات والمراكز في هذا البلد الأمين ! ، وشأنُ أولاء هينٌ ــ على كلِّ حال ــ بجانب لفيف من مهتبلي السانحات وراكبي الموجات ، في كلِّ عُرس هم المغنونَ ، وفي أيِّ عزاءٍ هم اللاطمونَ والنائحونَ والندَّابونَ .           
********
مهدي شاكر العبيدي
دمشق
MahdiShakerAlobadi@Yahoo.Com

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *